السبت ٢ شباط (فبراير) ٢٠٠٨
«حياة معطلة» مجموعة عبده وازن الجديدة
بقلم عناية جابر

نثر الأشياء ومقام الشك

بصورة او بأخرى، يتمرد الشاعر عبده وازن في جديده الشعري «حياة معطلة»، صادر عن «دار النهضة» على ماضي كتابته في سيرورتها الممتدة على مجموعات عديدة، وتحديداً على مجموعاته: «أبواب النوم» و«سراج الفتنة» و«نار العودة» حيث احتشاد الخيال والصوت الرقيق الممتع والهروبي، في قصائد مضبوطة على هارموني الحب الإلهي والارضي، وحيث الشعر هو الروح، والاسئلة القلقة، والسلوان والصفاء والمصالحة، كذلك المعتقد المسيحي في حلوله الحقيقي والشعري.

التمرد في «حياة معطلة» هو الاضافة على كل ما ذكرنا، وليس المغادرة النهائية او إدارة الظهر. في «حياة معطلة» استوعبت قصائد وازن، قبولها للنظرة الطبيعية الى الواقع، وانغمست في بعض منها، في الحياة العادية، عاكسة روح العصر. التمرد، هو هذه المساكنة الارضية لاشياء الحياة، واحتاجت الى فطنة وانتباه الشاعر لكي يستوي هيكل القصيدة على تماسكه، وعلى شعريته في آن، كما احتاجت حنكة ودراية الشاعر وازن في عمله الجديد، وإن بدا هذا على عفوية ما في شكله الظاهري.

إضافة

قصائد «حياة معطلة» هي الاضافة اللافتة على ماضي وازن في مجموعاته كافة لتكتمل دائرة اشتعال الشاعر، بين الإلهي والارضي، بين الروحي والجسدي، بين المرأة والطبيعة، بين الاسئلة، وبين عدم جدوى البحث عن اجوبة من اي نوع، ذلك انها الحياة المعطلة بالمعنى الوجودي الكبير.

«نرتب حياتنا
بما توافر
من مناظر وأزهار
من اصدقاء نرسمهم
على الورق
نخلق صورة اخرى
لهذا العالم
لهذه الأرض القتيلة.
نبتدع مدينة
بلا إسم
نسوّرها
بالقصب والغيوم. (ص 70).

يتبدى في «حياة معطلة»، اكثر من أية مجموعة سابقة للشاعر، ذهن القصيدة الذي أحس بعمق بمصيدة الحياة، وما تطرحه من ألغاز يتعذر حلها. فبعد ان خاض وازن في دواوين له، في العشق، والماورائيات، والزهد، وملاحظة اشياء الطبيعة، ومسامحة الكون على هفوائه، يلتقط في جديده الصادر حديثا، كل تعقيد الواقع الأرضي وتراجيديته، وتنجح كلماته وسطوره القصيرة في ان تمنحنا كقراء مشاركته المأزق نفسه، في الانعكاس الواضح والصافي والثري لقصائده، وفي ابتهال كائن بالغ الحساسية، يغوص في يأس معضلة الوجود، ويكتبه ملطفاً بسخرية خفيفة، السخرية التي تلطف من هيبة وفخامة الكلمات المعتنى بها جيداً، وبمعنى آخر، تلك هي لغة وازن، ومتمتعة بهيئتها الاحتفالية سواء في قديمه او في جديده:

كيف يجرح البلّور
ليسيل دمه بين الحروف
كيف يجعل الليل
يرين على خواء الأوراق
كيف يحمل النار
الى قلب اللغة
كيف يلتقط الموسيقى الداخلية
كيف يكسر زجاج المستحيل

حسناً فعل وازن في عدم فرز، او إفراد، مساحة مخصصة لقصائده القصيرة بسطورها التي لا تتعدى احياناً الكلمة الواحدة بحسب الايقاع الداخلي الذي تمليه موسيقى الشاعر، وتعطي القصيدة شكلها، بعيدا عن النثر او بمعزل عن النصوص الشعرية التي ضمنها «حياة معطلة» وذلك على عادة الشعراء الذين يجعلون لمجموعاتهم تقسيمات تعتمد احداها القصائد القصيرة والاخرى النصوص الشعرية. تغلغل النصوص النثرية عند وازن كمثل «غرفة فان غوغ» و«التوأمان» و«الزنجي» وسواها، ومندسة هذه بين قصيدة قصيرة واخرى، منح المجموعة الشعرية بالكامل، مناخاً إبداعياً واحداً. هذا النسق الذي اعتمده وازن، أفرز مثالا بيّنا لتداخل الشعر بالنثر في تداخل كفتي الفنية الجميلة فيهما. ثمة اتزان هنا في هذه العملية، اتزان في النظرة الى الشعر بأشكاله كافة، حيث تتجمد القراءة لكلا النوعين في لحظة شعرية واحدة وعالية.
ما يلفت في مجموعة وازن، هو حلول الشك والوهم كاسحين اليقين في كل شيء. الوهم الذي يقاربه وازن متهكماً، فلا تصمد حقيقة او بديهة امام اسئلة الشاعر، تنسحب هذه امام القلق، ويغرب اليقين على نحو نهائي، ما يضفي على المجموعة بالكامل توتراً إنسانياً وإبداعياً، وتمرداً عميقاً على ما تراه العين ويستبطنه القلب.

التمرد هنا ايضا يدرك أسلوب الشاعر، فلا تبدو القصائد مسترخية، بل تقطر في كثافتها ومتحفزة، وفوضوية لناحية الفنية البالغة في علاقة الكلمات ببعضها.

مؤثرات بسيطة

يلعب وازن في مجموعته «حياة معطلة» على مؤثرات شعورية بسيطة نسبياً، ويذهب اكثر الى التوفيق بين الجناسات واختيار الكلمات كما لو يكتب قطعة موسيقية، لا استناداً الى الفكر الذي يسند القصيدة فقط، بل بحسب الهارموني الصوتية التي تقودها.
ثمة في بعض القصائد، ذلك التوافق الجوهري بين المعنى والصوت، والضروري والغامض، اي الواقعي والمتخيّل:

ليس هو الضوء
ولا هي العتمة
انه الوقت
الذي يختلط فيه
النهار والليل
مثل هذا اليوم
مثل البارحة
حين لم يكن
نهار
ولا ليل
حين كانت الساعة
التي على الجدار
تذرف الثواني
مثل خيط
من رماد.

يلمس وازن في أكـثر قصائده، حافة اعلاء اللغة على موضوعها، فينتبه الى التخفيف من غلوائها (وهي فتنة بحد ذاتها) مستدعياً النسيج اللائق والمناسب الذي يجمع الكلمات الواحدة مع الاخرى، كما يعتمد تكرار التعبيرات المتشابهة (واحيانا الاقتباسات) في رغبة الشاعر الى اختيار كلمات، قريبة وشبيهة بهذا العالم المغلق، المحصن من دون ثغرات، ويصاحب هذا البناء التراكبي للكلمات، إتزان انعكاسه القصدي الذي يـــهدف الى خلــق تماثل، او استدعاء ايحائي، معهما تنجح قصيدته وموضوعها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى