الثلاثاء ٥ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٦
بقلم أحمد الخميسي

نجيب محفوظ لحظة الوداع

عبر نجيب محفوظ عالمنا إلي العالم الآخر، العالم الذي طالما كرر قوله عنه : " إنني لا أخشى الموت، بل أحبه، مثلما أحب كل ظواهر الحياة " . وقد نجح ذلك الأديب العربي المصري الكبير أن يقفز من أحد الأزقة الصغيرة في القاهرة إلي العالم أجمع، وإلي بيوت أغلب العواصم العالمية، ليصبح أولا شخصية قومية لاقت إجماعا لا يلاقيه سوى زعماء تاريخيين مثل جمال عبد الناصر، أو فنانين مثل أم كلثوم، ثم أصبح نجيب محفوظ شخصية عالمية، بالمعنى الإنساني لتعبير العالمية . وفي كل ذلك كان محفوظ شديد التواضع، والرقة، يتتبع كل ما يدور حوله بحب، وشعور مرهف . ولم يكن مستغربا أن يبكيه عند رحيله أبناء الشعب المصري من كافة الطوائف والتيارات السياسية . يقولون في الأدب الروسي إن كل الأدباء خرجوا من معطف جوجول، ويصدق هذا القول على محفوظ، إذ خرج من معطفه كل الروائيين المصريين وعددا كبيرا من الروائيين العرب .

لقد قدم نجيب محفوظ نموذجا إنسانيا نادرا – وربما وحيدا - في تاريخ الأدب العربي لما ينبغي أن يكون عليه الكاتب الكبير على المستوى الأخلاقي، والفلسفي، والإنساني، والأدبي . وقد يكون رحيل الكاتب العظيم مناسبة لإلقاء بعض الضوء على الاهتمام الخاص الذي تمتع به أديبنا الكبير من جانب الاستشراق الروسي قبل وبعد فوزه بجائزة نوبل . فقد أعدت رسائل دكتوراة جامعية كثيرة تناولت مختلف جوانب مسيرة محفوظ الأدبية، بعضها أعده باحثون عرب، وبعضها مستشرقون منها " الثلاثية إبداع الواقعية النقدية " للباحث المعروف روشين، و " الروايات الاجتماعية الأولى لمحفوظ " لطاش محمد وفا، ثم " قضية البطل عند نجيب محفوظ " للسيدة " أ . ناد " وغيرها . وخصصت فالنتينا تشيرنوفسكايا وهي مستشرقة معروفة فصلا مطولا في كتابها " الانتلجنسيا المصرية " تحت عنوان " نموذج المثقف المصري في رواية المرايا "، وهي قراءة خاصة وممتعة لذلك العمل . وبشكل عام اعتبر الاستشراق الروسي أن محفوظ أضخم ظاهرة أدبية في الأدب العربي، وأنه على حد قول فاليريا كيربتشنكو : " يذكرنا بالعمالقة الكبار ديكنز، وبلزاك، وغيرهما "، وكانت كيربتشنكو قد كتبت دراسة طويلة وعميقة تحت عنوان " البحث عن طريق " تناولت فيها بالتحليل والنقد الروايات الست لنجيب محفوظ بدءا من اللص والكلاب عام 1961، حتى ميرامار عام 1967 . إلا أن ثراء عالم نجيب محفوظ، وطابعه التقدمي المستنير، وعدائه للظلم الاجتماعي، قاد المستشرقون الروس إلي اضطراب النظرة إليه مرة باعتباره أفضل ممثل للواقعية النقدية، ومرة أخرى باعتباره من أنصار الماركسية تحتشد رواياته بروافد من تيار الواقعية الاشتراكية . وعلى سبيل المثال اعتبر المستشرق " على زادة " في رسالة دكتوراه أن : " جوهر أعمال نجيب محفوظ هو الرفض الكامل للنظام الرأسمالي وتصوير حتمية انهيار المجتمع البرجوازي " . ويضيف على زادة أن : " نجيب محفوظ وهو يتنبأ بمستقبل مصر الإشتراكي أثر تأثيرا ايجابيا وعميقا في مجمل الأدب المصري والعربي " .

وربما كانت فاليريا كيربتشنكو المستشرقة الوحيدة التي حاولت وضع يدها على بعض الركائز الفكرية - الفلسفية الرئيسية في أدب نجيب محفوظ . وتشير كيربتشنكو إلي أهمية الدعوة الأخلاقية في أدب محفوظ وإن كانت لا تستند إلي برنامج اجتماعي، وإلي أن " قضية المبادئ الأخلاقية لدي الإنسان " تشكل الفلسفة التي تقوم عليها أعمال محفوظ الأدبية . ولعل كتاب الناقد الكبير ابراهيم فتحي " العالم الروائي عند نجيب محفوظ " هو أعمق ما ظهر في النقد العربي في سياق البحث عن الرؤية الفلسفية لعالم نجيب محفوظ . فقد عثر إبراهيم فتحي على المفتاح الحقيقي الأساسي لفهم نجيب محفوظ حين تحدث عن " الجبرية المثالية " التي تحكم رؤى محفوظ للعالم، وما تشتمل عليه من الإيمان بالتقدم : " كضرورة نابعة من مجرد تعاقب السنين وتحقيقا لمبدأ العدالة المجردة الكامن في طبيعة العالم " إنه إيمان بأن الزمن بطبيعته يمضي بالبشرية نحو التقدم، وهو مفهوم يختلف كل الاختلاف عن الإيمان بالحتمية التاريخية للتقدم على أساس الصراع الاجتماعي . وبذلك وضع إبراهيم فتحي حجر الزاوية لفهم عالم محفوظ الخصب والثري، ومن دون كتاب إبراهيم فتحي يستحيل عمليا فهم عالم الأديب العملاق فهما حقيقيا .

لقد حفر نجيب محفوظ بنصف قرن من العمل المنهك اسم الرواية العربية جنبا إلي جنب مع شوامخ الأدب العالمي، ومع ذلك اعتبر على حد قوله أن كل ما قام به هو مجرد : " اجتهاد أديب عربي أخلص لعمله فاستحق تقدير المخلصين " .

لقد أحببت شخص نجيب محفوظ حبا كبيرا، وأحببت فيه عطفه على البشر والأشياء، وهو جانب لاح فيه بقوة أكثر حين تخطى السبعين . وقد بكيته في صمت، حين شاهدت صورته مع نبأ وفاته مبتسما بوداعة وأسى، كأنه يقول للزمن : أعلم أنت ستتغلب علي، كما تغلبت على كل شئ . وتذكرت عبارة من الثلاثية " لكن الزمان عدو لدود، للورود " . وبكيت ليس الأديب العظيم، فحق هذا الأديب مصان، لا ينازعه فيه أحد، لكني بكيت الشخص الدقيق، المرهف، الغفور، بحضور ذهنه في كل ما هو خير، وعزلته الشديدة ووحدته . لقد شعرت دائما أن نجيب محفوظ وحيد، وهو أمر طبيعي لمن بذل كل ذلك الجهد وفي حياته التي وصفها هو نفسه بأنها كانت " حياة الرهبنة "، وهو أمر طبيعي عند كاتب عظيم يدرك بقسوة وحب المأساة الكامنة في أن كل شئ لزوال، وأن علينا مع ذلك أن نعشق كل شئ . لم يكن الكاتب الذي سيبقى هو الذي آلمتني وفاته، لكن الشخص الذي سيزول . ولم أكن أتردد عليه في الأماكن التي يجتمع فيها أصدقاؤه حوله، ومعارفه، وأشخاص عابرون، كنت أكتفي بشعور طيب أن نجيب محفوظ حي، وأنه من حين لآخر، يرسل تعليقا، أو كلمة، ربما توقف عن الكتابة، لكنه يظل مثل نور هادئ يشير من بعيد إلي تاريخ لامع . وكانت محبتي له كشخص تتضاعف كل يوم، وأنا أراقب كفاحه الجميل من أجل استمرار حياته، يوما بعد يوم، بالتمشية، وبالالتقاء بالناس، وحين يكون وحده تماما، حين يستعيد الأغنيات القديمة بأنغامها لكي تظل ذاكرته وروحه حية . كان هذا الكفاح اليومي من أجل الحياة يضاعف محبتي الشخصية له، وإعجابي به بل وذهولي، فأتذكر وأنا أتابع ذلك الكفاح قول أنطون تشيخوف : " الحياة تعطى لنا مرة واحدة، وأريد أن أحياها بقوة، بوعي، بجمال . فلتتشبث بقوة ببقايا حياتك، ولتنقذها، إنني أريد أن أعيش بشدة، حياة سامية مهيبة كقبة السماء " . ليس الأديب والأدب هو الذي أبكاني، هذا لم يرحل، بل الشخص الذي كافح بنبل، وصمت، في سنواته الأخيرة من أجل استمرار الحياة، مع قبوله بتسامح بالمصير النهائي، الذي لم يمنعه ولا للحظة من مباركة حياة الآخرين من بعده، بمودة ومحبة من يجد نفسه في الآخرين.

أظن أن نجيب محفوظ هو الشخص الذي وصفه هو في الثلاثية حين قال : " إن الرجل القوي العذب أسطورة " . تبددت الأسطورة، وظلت لنا منها صفحات أيا كانت فهي قليلة لكنها ستظل تذكرنا بأن الحياة يمكن أن تكون مهيبة، ومنيرة، كقبة السماء.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى