الخميس ٦ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٨
بقلم أحمد الخميسي

نحن والقمر جيران فكيف سبقتنا الهند إليه؟

استطاعت الهند أن تثير دهشة العالم حين أطلقت في 22 أكتوبر مركبة فضائية إلي القمر ستقضي عامين في استكشاف طبقات سطح الكوكب والبحث عن معادن ومياه ومواد كيميائية، ومع أن نصف القرن الماضي شهد إطلاق أكثر من 65 مركبة إلي القمر إلا أن أسرار ذلك الكوكب مازالت كثيرة. وتدعونا هذه الوثبة العلمية لبلد فقير إلي إعادة النظر بشكل جذري في معيار التطور والتخلف التاريخي الذي استقر لدينا. فقد كانت الإنجازات الأوروبية العلمية والثقافية هي المعيار الوحيد الذي نقيس به تقدمنا من تراجعنا. وكانت تلك الإنجازات تبدو لنا دوما بعيدة المنال، بحكم المسافة الشاسعة التي تفصلنا عن أوروبا حضاريا وعلميا. الآن تتجرأ دولة آسيوية فقيرة كالهند وتدخل عصر الفضاء لتثبت لنا أن ما تصورناه دائما " مستحيلا " هو أمر ممكن، وأن ما كنا نردده من أن مئة عام على الأقل تفصلنا عن الحضارة هو كذبة، يمكن تخطيها. فالهند هي أفضل نموذج في العالم لإلقاء الضوء على أحوالنا.

فأوضاعها العامة أسوأ بملايين المرات من أوضاعنا، إذ يتجاوز تعداد سكانها المليار، وهو مليار ممزق بين مئات القوميات والأديان والمذاهب والطوائف كما أنه يتكلم بأربع عشرة لغة رئيسية علاوة على أربع وعشرين لهجة، هددته دائما بالحروب والاستنزاف الأطماع الإقليمية الصينية والنزاع الحدودي مع باكستان.احتلها الاستعمار البريطاني مثلنا وتحررت فقط عام 1949، ومازالت بلدا فقيرا فيه ثلاثمائة مليون نسمة يعيش الفرد منهم بأقل من دولار يوميا.

ومع استقلال الهند ربطتها بمصر معاهدة صداقة عام 1955، وعلاقة تفاهم سياسي خاصة بين عبد الناصر ورئيسها نهرو أدت إلي تأسيس حركة عدم الانحيازوانعقاد مؤتمرها الأول في بلجراد عام 1961، وكانت الهند تعاني من المجاعات والأوبئة، حتى أن عبد الناصر تردد في قبول مشروع نهرو للتعاون في صناعة الصواريخ خوفا من فقر الهند ومشكلاتها. لكن الهند الفقيرة الممزقة دينيا ولغويا واقتصاديا استطاعت بعد عشرين عاما من استقلالها أن تطعم نفسها بل وأن تصل إلي تصدير الغذاء، وأنشأت الصناعة التي يعتمد الناتج المحلي الإجمالي عليها بنسبة 27 %، وأنفقت بسخاء على البحث العلمي والتعليم. أما نحن فكنا قادرين على الاكتفاء ذاتيا من قمحنا فصرنا نستورد ستين بالمئة من احتياجاتنا الغذائية من الخارج، ولم نعد نرى منتجا صناعيا مصريا، كما أننا لم نصل إلي الفضاء إلا في أغنية " عشانك ياقمر أطلع لك القمر"! وأغنية " نحن والقمر جيران "! لقد مضت الهند مثلنا في طريق الرأسمالية، ممزقة مهلهلة، محاطة بأخطار الحروب، يسحقها الفقر، والطائفية، والجهل، وإذا بها تؤكد فجأة أن بوسع الإنسان بشكل أو بآخر أن يتخطى كل العوائق نحو العلم والتقدم. فالمركبة التي أطلقتها الهند تعني أن لديها حقلا من علوم كثيرة متكاملة متطورة: في أنظمة التحكم، والاتصالات، والالكترونيات، وصناعة الصواريخ التي أطلقت المركبة،وعدد العلماءوالخبراء، وفي الصناعات والتكنولوجيات التي يجب أن ترافق هذه العملية. هل حققت الهند هذه المعجزة لأنها كما يقال سلكت طريق الديمقراطية السياسية؟ لكن الاتحاد السوفيتي وألمانيا استطاعتا في ظل حكم عسكري أن تنجزا الكثير؟ هل حققت ذلك لأنها كانت تنفق على البحث العلمي ونحن لا ننفق عليه إلا أقل القليل؟ هل حققت ذلك لأنه كانت لديها خطة عامة دؤوبة متصلة لا يهدمها تغيير القادة؟ هل تمكنت من ذلك لأنها تؤمن أكثر منا بالعلم حتى أنها انتخبت رئيسا لها في يوليه 2002 عالما مختصا في الصواريخ والفضاء هو د. أبو بكر عبد الكلام؟. قصة النجاح العلمي الهندي المفرح، والمحزن من زاوية ما، هي قصة رئيسها السابق العالم الكبير الذي قفز من صبي يبيع الصحف في الشوارع البائسة إلي عالم نووي ثم إلي رئيس للهند.

وفي سيرته الذاتية يوجز د. أبو بكر مغزى حياته بقوله: " لن أدعي أن حياتي قد تصلح نموذجا لأي شخص، ولكن طفلا فقيرا يعيش في مكان تعس في ظروف اجتماعية شاقة، ربما يجد العزاء في الطريقة التي تشكل بها قدري". إنها الطريقة التي تشكل بها قدر الهند وتحقق بها نجاحها، وعلينا الآن أن نفكر في أن بلدا فقيرا، يعيش في ظروف شاقة يمكنه أن يجد مثالا في صعود الهند إلي القمر. أما نحن الذين ظللنا نحلم منذ نهضة محمد علي باللحاق بأوروبا، فإن علينا أن نحلم الآن باللحاق بإنجازات العالم الثالث.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى