الثلاثاء ٦ نيسان (أبريل) ٢٠١٠
حوامدة في المكتبة الوطنية:

نصنع من آلامنا الماضية حكمتنا المقبلة

عزيزة علي

الشاعر موسى حوامدة في امسية المكتبة الوطنية أول من أمس

عمان - قال الشاعر موسى حوامدة إن الحديث عن الموت في بداية أمسية شعرية، أمر منفر ومزعج، ولكنه بيّن أن ذلك ليس ذنبه، "بل ذنب الذين رحلوا وتركوا سطوتهم على القصائد، حتى وصل الأمر أنهم سكنوا فيها، وقد كانت حياتهم في منازل أرضية أرحم بكثير".

وأشار حوامدة، في الأمسية الشعرية التي أحياها بمرافقة عازف العود علاء شاهين أول من أمس في المكتبة الوطنية ضمن فعاليات برنامج "كتاب الأسبوع"، وأدارها الزميل عمر أبو الهيجاء، إلى ان الحضور قد يجدون "الحب بين ثنايا القصائد، وفي تأويلات الشعر، أو قد تساعدكم القصائد على إعادة النظر في الحياة، والتقرب منها ما دامت ممكنة".

ورأى أن الحزن الذي نحمله، والعمر الذي كسرنا قبل أن نكسره، والزمن الذي تجبر علينا، حتى أدمى قلوبنا، هو في مجموعه "حكمة مخفية"، لافتا إلى انه لا يعد بشيء أكثر من نثر رماد أولئك الراحلين في هذه القاعة.

وأمل حوامدة، في الأمسية التي تناغم فيها الشاعر مع الموسيقى، أن يسعفه العمر حتى يتابع "قصائد الحب الهاجعة في قبور هذه القصائد"، وان لا تغلق الأبواب في وجهه.

حوامدة أهدى قراءاته إلى صديقه الروائي العراقي عبدالستار ناصر، ومن ثم قرأ مجموعة من القصائد التي اتشحت بأنغام الفنان علاء شاهين على آلة العود، وهي قصائد تمحورت حول الرحيل وعذابات الروح.

وكان للموت حضوره وسطوته في القصائد الملقاة، وذلك من خلال صور جدلية عميقة ومقاربات بين الموت والحياة، استطاع خلالها أن يجعل الحضور ينحاز كثيرا إلى نصوصه التي كشفت عن مكنونات روحه وأرواحنا المشبعة بغبار النفي والهزائم.

في "قصائد ليست شعرية" استخدم حوامدة بعض الرموز والدلالات الإيحائية التي أفضت إلى الهم الإنساني المعاش في فلسطين، وكيف خطرت بباله أمه التي ألقى عليها سلامه الموجع، وسلامه على أبيه الذي قادها إلى عتمة القبر.

واشتملت القصيدة على بناء درامي واضح المعالم، انحاز المتن إلى تقصي الألم والأحزان، من خلال نبش ذاكرة متخمة بالتفاصيل؛ صغيرها وكبيرها.

في هذا النص، تنفلت روح الشاعر لتعانق سنوات تمر بلا صهيل وخيول تسابق الضوء:

«خطرت ببالي يا أمي
قلت السلام عليك
السلام على أبي الذي قادك للقبر
السلام على قريتنا المنسية إلا من دوريات الجند والجواسيس».
ويتابع في وصف أوجاعه قائلا:
 
«سنوات تمر بلا صهيل
تسابق الضوء
تمر بلا جنون أو سكر
تمر مثل سكين في عظم القرى
تسلب منا وهج الصراع وخزينة الذكريات».

وحلق بنا الشاعر في فضاءات التاريخ والأمكنة والأسماء، حين أخذ الجمهور على أجنحة قصائد تقصت جراحات العراق وعذاباته، إلى الشاعر العراقي عقيل علي من خلال «يا دم العراقي.»

وبين حوامدة أن عقيل علي الذي "مات مهملا ومرميا مهجورا في محطة باصات بأحد شوارع بغداد"، وجدوا في جيبه قصيدة «يشيع فيها العالم ويرثي الحياة».

واستشرفت قصيدة حوامدة ما آل إليه العراق، مستحضرا دم العراقيين المسفوح في الطرقات، ماضيا إلى خطى انكيدو وصولا لرموز الشعر العراقي، سرير السياب ومنافي الحيدري والبياتي وسعدي والصايغ وسركون ونازك وانزواءات مهدي، ومقابر السومريين وسجن أبوغريب.

وفي القصيدة، يقول حوامدة:

"اعتن يا دم العراقي بماء الخليج
زده طميا وشعرا وخورا
علقه على سعف جيكور
وفي حديقة البريكان
فوق سرير السياب في الكويت
في منافي بلند والبياتي وسعدي
في موت رعد جان
في تجاعيد الصايغ
في نشيج سركون
في صمت نازك وانزواء مهدي
في بيارق الحسن والحسين
في دم السلالة
فوق بلاط الخيانة
عند عتبات النجف".

واستذكر حوامدة بلوعة القاص الراحل محمد طملية، فقرأ قصيدة «للخديعة طعم الأبوة»، و«سلالتي الريح وعنواني المطر». فيقول:

«من يملك بيضة الرخ في يده
من يدلني عليّ
قلبي مليء بوجيب العالم
خطواتي تأخذني لبيت النار الأول
لعلك أنت مني وأنا من ثرى المريخ
لا أنكر صلتي بزيوس
ولا أقر بدمه في عروقي
لا أطعن في صحة النهر
ولا أخبئ البحر في خزائني
لالتي الريح وعنواني المطر»

الموسيقي علاء شاهين قدم مجموعة من المقطوعات الموسيقية، منها واحدة تستجمع اللحن للتعبير عن الغارة التي تعرض لها ملجأ العامرية، إضافة إلى معزوفات، أتقن من خلالها مجاراة الشعر، لتكتمل الأمسية بطرفيها؛ الكلام واللحن.

حوامدة يقرأ من سفر الوجع

عمان - الرأي- مهد الشاعر موسى حوامدة باعتذارية لطيفة مخاطباً الجمهور بالقول: اعتذر اني اجيء هذا المساء خالي الوفاض من قصائد الحب، وقال: لقد نصحني عدد من الاصدقاء بقراءة بعض منها، لترطيب هذا المساء النيساني الطالع من عباءة عيد الربيع، وللأسف وأنا اقدم اعتذاراً مكرراً هنا، أني حملت الموت بدل الغزل، في هذه الاوراق التي بين يدي التي ستسمعون قليلاً او كثيرا منها حسب طاقتكم على الصبر والصمود.

واشار الزميل الذي يتسلم ادارة الدستور الثقافي اعرف ان الحديث عن الموت في بداية امسية شعرية، امر منفر، ومزعج، ولكن قد لا يكون الذنب ذنبي، فهو ذنب الذين رحلوا وتركوا سطوتهم على القصائد، حتى وصل الامر انهم سكنوا فيها، وقد كانت حياتهم في منازل ارضية ارحم بكثير مستدركاً، لن احاول تلفيق مبرر للأمر، ولن انظر عليكم لأقول قد تجدون الحب بين ثنايا القصائد، وفي تأويلات الشعر، او قد تساعدكم القصائد على اعادة النظر في الحياة، والتقرب منها ما دامت ممكنة، غير اني لست متفائلاً بهذه النتيجة، ربما يكون للحزن الذي نحمله، وللعمر الذي كسرنا قبل ان نكسره، ولهذا الزمن الذي تجبر علينا، حتى ادمى قلوبنا، حكمة مخيفة، ولكني لا اعد بشيء اكثر من نثر رماد اولئك الراحين في هذه القاعة،.

ودعا في اللقاء الذي ادار وقائعه الشاعر الزميل عمر ابو الهيجاء وشاركه بالموسيقى الفنان علاء شاهين دعا ان يسعفه العمر لمتابعة قصائد حب هاجعة في قبور هذه القصائد، معرباً عن شكره لموسيقى الفنان علاء شاهين.

وكان الزميل ابو الهيجاء قال: الشاعر موسى حوامدة بقامته العالية مثل شجرة الاعلى، سيأخذنا على اجنحة قصائده ليحلق بنا في فضاءات التاريخ والامكنة والاسماء التي يستحضرها في سياقات نصوصه الشعرية ذات الابعاد الدلالية والرمزية التي تخدم نصه بحيث تجعلنا منحازين جدا الى تلك النصوص التي لا تخلو ايضا من الحكمة واللغة المنسوجة بحرفية وتقنية حداثة النص الشعري وكثافة المعنى المفضي الى ايقاعات الحياة والموت.

واضاف ان حوامدة نتجول معه الليلة في ردهات التاريخ مع اسلافه القدامى وسلالاته الكثيرة، فهذه المخيلة الخصبة والثقافة والمخزون الفكري لديه انعكس على مجمل قصائده، أي ان قصديته مثقفة، فلم تخلو من حبكة البناء الشعري والتراكيب اللغوية الجديدة والعلاقات الجدلية بين المفردات، هذا الشاعر يقرأ دواخلنا جميعاً حافزاً في ارضية صلبة دمعته التي تسبق قصيدته وللخديعة عنده طعم الابوة ومعنى الجمال مستعرضاً سيرة الشاعر الابداعية معرفاً شاهين بانه مؤسس لفرقة اوتار الاردن ومدير بيت العود العربي – فرع عمان وقد اصدر البومين «رجوع» و»الفلامنكو والاندلس».

منذ صغره كان مهتماً بسماع الموسيقى، كان يتجول في اسواق عمان القديمة لشراء بعض الكاسيتات لتيعرف على مختلف انواع الموسيقى، وبدأت رحلته مع العود حيث تعرف على الموسيقار المعروف نصير شمال ليصنع منه صوليست لآلة العود، للعزف في دار الاوبرا المصرية وفي المسرح الكبير للجامعة الامريكية بقاهرة المعز، وطاف بموسيقاه البلاد العربية وبعض البلدان الاجنبية، قال الاعجاب بعزفه لمؤلفاته.

قصائد ليست شعرية

تلك أشيائي القديمة؛
كلماتٌ وجدتُها على شاشة الكمبيوتر،
في Recycle Bin))،
كنت قد محوتها من أمامي؛
فليس شعراً هذا الذي يتناثرُ بلا موسيقى
يسيل بلا قافيةٍ أو فراغٍ مقصود،
كنتُ أدخلُ القصيدةَ كما ضبابٌ تجتاحُه غيمة
لم يكن يربطني بالإيقاع
نايٌّ أو أنينْ،
قلتُ: أقولُ ما يجول بخاطري
أبدأ بما..
أو كأنَّما..
أو كما بدأتُ ذاتَ مرة بالكاف،
لكنَّها لم تصمدْ أولَ السطر
وفرتْ باتجاه المصطافين في أروقةِ الكتب.
تعلمتُ من حبِّ الكلماتِ كرهَ العالم
هنا يجلسُ شاعرٌ محاطٌ بعشائر المنافقين
يَحملونَ مجدَه واسمَه،
ويكتبون إهداءاته،
دونَ أن يَمدَّ رجليه في وجه حكمتهم الفائقة،
هنا سوفَ أكتبُ بعيداً عنهم
بعيداً عنكم،
وبعيداً عني،
ليسَ لي مسعى يُعذِّبني
كلُّ ما أطلبُه يسبقني للمستحيل.
خطرتِ ببالي يا أُمّي؛
قلتُ السلامُ عليكِ
السلامُ على أبي الذي قادَك للقبر
السلامُ على قريتنا المنسية إلا من دوريات الجند والجواسيس،
قلتُ السلامُ عليكِ يا بلدْ،
ولدتُ فيها كما تلدُ الوشاياتْ
تحت زيتونةٍ رومية
رأتني أمي هارباً منها
أبحثُ عن غُصنٍ أخضر
لا لأرفَعَه في يد الرئيس الموهوم
ولكن لأفقأ عينَ الحضارة
تلك التي شاءت أن أولدَ بلا سريرٍ أو وطن.
على مهلِكِ أنتِ
رويداً رويداً
فما زلتُ قادراً على نحيب الأمومة
وضياع الذاكرة،
هدْهِديني
وغني لي
ولا توقظيني في كرنفال الجَدَل.
خَطئي يَستحقُّ القتلَ
فعلى رسلِكَ أنتَ يا أبي
جريمَتي تنوحُ في صدري،
اصفعني بما شئتَ من لوازم الكروم،
لن أحمي نفسي منكَ
فأنتَ أبي
وبيدك الحياة كانت والشفاعة.
الثاكلاتُ يَمضينَ وَحدَهنُّ
البائساتُ الباحثاتُ عن شبابٍ تائهين
يلتقطنَ الوردَ من شُرفات العَناء
يُخبئنَ شَهوتَهنَّ المُمطرةَ في صمت القريةِ الثقيلْ
تلك التي فَتحتْ ساقيها للدبابات
وأغلقت بابها في وجه المساء.
لم يأخُذْنا إلى حَتفِنا العدم
لم تُعلِّمنا العصافيرُ حكمةََ إطفاء النار
لم تدربنا جداتُنا على الخسارة.
سنواتٌ تمرُّ بلا صهيلْ
بلا خيول تسابقُ الضوء
تمر بلا جنون أو سكر،
تمر مثل سكينٍ في عظم القرى
تسلبُ منَّا وهجَ الصراع
وخزينةَ الذكريات.
أبجديتي حائرة
تاريخي موحش
تأمَّلته اللغاتُ
فترجمتْ حروفَها للصمت.
كانوا يشربون الشاي
ليس شعرياً ما كانوا يفعلون،
كانوا يسترجعون الماضي
ليس نثرياً ما كانوا يعملون،
كانوا يأكلون خبز الطابون
ليس مدهشاً كذلك،
كانوا يَدهَنونَ الليلَ بذكراهم
بدأتَ تأخذُهم للقصيدة،
ما كنتُ أنوي أن أكذبَ عنهم
كانوا لا يفعلون شيئا.
أرفعُ القصيدةَ عن كاهل الأرض،
لن أقلِّلَ من شعريتها بذكر رفح وخانيونس
وزياد البردويل أو هدى غالية،
لن أُمرِّرَ خطاباً سياسياً من باب الشعرية
لن أفعل ما يسيء لشعبي
وهم يرفعون الليل وحدَهم بلا موسيقى
أو نجوم.
سأعتقلُ الجنون في جملةٍ شَرطية
وحين تصفقون لمقدرتي البلاغية على اعتقال الكلمات
سأحرِّرُ المدينةَ منكم
وأفرشُ الطرقاتِ
بساطاً للألم.
لدى بورخيس الضرير
مقدرةٌ على دسِّ الليل في عين البصير
ولدينا قدرةٌ على هتك عشتار
في وضح النهار.
انبهرتُ برثاء الخنساء لأخيها صخر
أعجبتُ برثاء الجاهليين لموتاهم
وبكاء الهذليين على من رحلوا،
لكني حزنتُ على قتلانا،
موتوا أيها الأحباب
فلن تخسروا شيئاً لدينا
كلُّ شيءٍ قَدَّمناه لكم؛
كسلٌ جفاءٌ خيبات،
موتوا
فربما تحتاجون لعصورٍ ودهور
حتى تنسوا إساءاتنا لكم
ولسنواتٍ أكثر
حتى تفهموا لماذا لم نُقبِّل جباهَكَم عندَ الرحيل.
احتموا بنا يا قطاعَ الطرقات
في ثنايا ما نكتبه؛
ملاجئ لرجال الأمن وللمخبرين.
أقسمتْ قبيلَتُنا بالثأر،
ليسَ ممن قتلَ جسّاسا
أو قطع رأسَ الزير
ولكنْ ممن وَشَى بانطفاءِ السراج
قبلَ أن يفضَّ المختارُ بكارةَ العويل.
بدأتُ بفلسطين وانتهيت بالسراج
لعلّي نسيتُ الممنوعات
وذهبتُ للجاهلية
أعرفُ غلطتي
لا أريدُ
أن يندفعَ النهرُ مثلَ قاتلٍ يفتشُ عن مخبأ
أو جنرالٍ يدَّعي السأم.
يا مرحباً بالضلالة
لم تنفع الجهالة
فاشتريتها بالجملة.
بينَ شاطئِ الحكايةِ وضفةِ الحكمة
شرطيان؛
واحدٌ للرَّوي
وآخرُ يشطبُ ما تبوح به العتمة.

ليست ميتةً هذه القصيدة

غير منشورة

حينَ يأتي الموت
إلى محمد طمليه
حينَ يأتي الموتُ
سأبصقُ في وجهِ الحياةِ
أقنعُ نفسي؛ أنَّ الدُنيا بائسةٌ
والناسَ كلَّ الناس ديدانٌ صفراء.
حين يأتي الموت
سأزرع الغروب في حديقة الوداع
أعلنُ هزيمةَ الإنسان
وألقي فلسطين
في دفتر الغياب.
حين يأتي الموت
سأرمي زهرةَ الخلود
في وجه جلجامش
وأهزأُ
من نصائح الأطباء.
حين يأتي الموت
لن أساومه
لِيُحرِّضَ المُقرَّبين
على حفلات النواح
كُلَّما كان عددُ المشيعين أقلّ
كان ضميري أكثرَ بياضاً
وكلما كانت الدموع أقلّ
كانت أخطائي أجمل.
لينصرف المُعَزّون
قبل تدشين البياض
لينصرفوا
ليست بي حاجةٌ لمديح ناقص
ليستْ حسناتي مشجباً للنفاق
لينصرف الأوغاد
ما نفعُ الزَفَرات لأطباق السماوات.
لينصرف المحسنون
طيبو القلب
مخلصو النوايا
ماضيَّ حاضري وغدي مات
و لستُ حريصاً على فرصةٍ للنجاة.
حين يأتي الموت
لن أعتذر للريح التي تَنفستها
ولا للخيطان التي لامَسَتْ جسدي
لن أعتذر للماء الذي شَربتُ
ولا للوهم الذي تلبسني
أو توهمت
ولا للبلاد التي ظلت عالقةً في ظهري كالسلحفاة.
لن أعتذر لأحد
أو بلد
ربما أُحرِّرُ روحي من فساد الكون
أسرد لذاتي طيبَتي الكاملة
وأناقةَ الربيع في كتاب الصيف
ربما ألمسُ وجه أمي بيدين نظيفتين
أسمع سعالَ أبي
أشمُّ رائحةَ صدره بلا معجزات.
حين يأتي الموت
سأقطعُ المسافةَ بين الحياة والموت
برجفةٍ شبقيةٍ عابرة
تماماً كما حدثت تلك الشهقة المدوية
في المرة الأولى
على رَدْفَيّ الأرض العذراء.
جبالٌ لا تلهيها صلاةٌ
ولا أدعيةٌ عن مُناداتي
تموتُ معي
تمشي في جنازتي
بكامل العنفوان تُحيي حفلَ الختام.
حين يأتي الموت
سأهربُ إلى حضن أمي
ووجهها الناعم
ليديها الرقيقتين
ونظرتها الغريبة
سأحملُ لها سريرتي الكاملة
أعترفُ لها بهفواتي العديدة
بعجزي عن تحرير رقبتي من دنسِ الشهوات
بغفلتي السابقة عن مصادفةِ الحكمة
بطيبة التين والزيتون
باضطراب الذاكرة
بموت الناس جميعاً
عند انحسار النعمة.
لن أصرخَ نادماً على مسقط رأسي
لن أموتَ حزيناً لأني لن أدفن في طين بلادي
لديّ من الخيال
ما يجعلني أضمُّ ترابَ العالم بين يديّ.
في كلِّ ذرة من الكون
جسدي هناك
لن أموتَ غريباً في أي مكان
لدي في كل مربعٍ جثةٌ كاملة.
أسمعُ دبيبَ الخوف
يسري في أوصال الكائنات
لن أصرخَ مرتعداً
لستُ شجاعاً أكثرَ مني
ولستُ جباناً لأهرول خلف قطار الفرصة الضائعة
لا أملكُ طاقةً على الهروب من اللُعبة.
أضحكُ بملء شدقيَّ
أضحك إن أسعفني فكّاي
على الذين يبكون من الموت
يحسبونه عدوهم الوحيد
بينما تناسوا أن الزوال
لغةٌ فيزيائية قديمة،
تناسوا أن الموت لم يأتهم من الغيب
ولا من ربَّات الجحيم
بل من تعلقهم بالحياة
ومن أجسادهم المعطوبة.
اكتملتْ رحلة الأسى
انكسرتُُ بكلِّ بطولتي
بكاملِ شجاعتي
بملءِ إرادتي
وفي كل معاركي الوجودية والحياتية انهزمتُ
وتلكَ كانت فضيلتي.
كلما كان عدد المشيعين أقلًَّ
كانت حريتي كاملة
إيماني بالله حَمَلني بخفةِ الملائكة
لست بحاجة الملقن والمقرئ
لست بحاجة المراثي والنواح
فلستُ ذاهباً إلى حفلة خداع هناك
إنني
عائدٌ
مني
للأزل.

14\10\2008

للخديعة طعم الأبوة
للغيومِ نَهارٌ آخرُ
للخديعةِ طعمُ الأُبوَّة
للمشانقِ حكمةٌ تُخْفيها الرهبة.
آنَ يحملُنا النهرُ إلى أخطائنا الأولى،
آنَ يجمعنا النهارُ في وجبةٍ سيئة
آنَ يحرِقُنا العجزُ في أتون المنفى.
كلماتُه ترنُّ في أذن الجبالْ
سُعالُه يَصدحُ عالياً
بَياضُ حَطَّته
تَهدُّل عِقالِه
حزامُه الجلديُّ العريضُ
ظهرُه المُنْحَني
جَبهتُه الموشومةُ بتعاريج الصخور
بياضُ صَدْرِه
سُمْرَةُ وَجهِهِ
نَقيضانِ للطبيعة
شَبيهان بالوَريث.
آنَ تَقهرنا الفكرةْ
تصنَعُنا الحَسرةْ
آن تَسْحَرُنا الخَطيئة.
الآخرونُ لا يقيمونَ في مَآتِمنا،
الآخرونُ لا يشاركونَنا الفَضاءَ،
الآخرون
يتركونَ لنا جفافَ حقولِنا وحلوقِنا
يأخذون سِيَرَ الآباء
ويبقونَ لنا صحراءَ الذكرى
والندم.
آنَ يستوي المَيِّتُ والزهرةُ الذابِلة
آنَ أتَجرَّعُ وحدي كأسَ الخذلان
آن لي وطنُ الخسارة.
كنّا نقيمُ للسنواتِ قصرَها المَرْمَري
بقينا ثلاثةٌ نحكمُ العالم
بوظائفنا العمومية
برواتبنا الهزيلة
بحُكمنا الصارمِ على قُطعانِ الكلامِ
أحرارٌ يُقيِّمون الكائنات
شياطينُ على ضفة الجنوح،
وحين يبقى أحدُنا مستفرداً بالعرش
يختفي الأبُ دونَ أرثٍ عائلي.
بعيونِه المُشعةِ في الظلام
بعيونِه المختفيةِ خلفَ نهرِ الصورِ القديمة
تلاشى سَليلُ النار
غطَّت سُخونةُ العَبَرات
ما تبقى من ضياء.
حَقُّه أن يموت
حقه أن يُودِّعَ الهضابَ التي مشى عليها
النجومَ التي حاورها
الوجوهَ التي رآها،
حقُّه أنْ يفعل ما يشاء
ينهي حَبكة المسرحية
في لحظةٍ تَليقُ بجبلٍ لا يَتبدَّد.
هنا دمعُه المتدفق
هنا ماؤه العذبُ
هنا جنَّته الضيقة
هناكَ خلفَ اللاشيء
بنى للكلماتِ قبرَها وللغيابِ وَصاياه.
أبي الذي كانَ
أبي الذي يكونُ
أبي الذي لم يكنْ.
لستُ شاهداً على الفتنة
كنتُ حَطبَها المحترق.
الذي لَمْ يودعْ النهارَ
حَمَلَ عَتمَته وطارَ،
الذي لم يعرفْ الأبيضَ
كَسَرَ الليلَ شظايا
هيَّأَ مأدبةَ الضياء
ثم أظلمتْ عيناه!
جيشُه مُنتصر
قبيلتُه عائدةٌ من الغزوات
حربُهُ رابحةٌ
وحدي أنا فُلولُ المهزومين.
جيشُه مُندحر
قادتُهُ جَلاوِزةٌ
معسكراتُه فارغةٌ
حُطامي بين يديَّ
حطامي أمامي،
حطامي معي.
بيديه المُرتَعشتين
ضمَّ جَسَدَ المولود
مَسَّدَ جَبينَ الغبطة
سَرَد للخاسرِ رأسَمالِه.
أعودُ لمنزله
لطيبته السرية
لفاكهته البعيدة
لغصونِ يَديه وأشجار جلساتِه
أُقبِّلُ الحبورَ يرافقُ قطعانَ غزلانه الهاربة
أُقبِّل الفضاءَ يلفُ المكانَ بألفته النبيلة.
أعود لكلماتِه،
لرنَّة الأسى في صَوتِه
لمنازلَ اختفتْ مع عشائه الأخير.
أعودُ إلى باحة الحوش القديم
إلى بهجته الدفينة
إلى ذكرى صفعاته الأليمة،
إلى نداء الاستغاثة الذي لا يوقفُ هديرَ بَحرِه الفائض.
أعود إلى نَداهُ
لحُنوِ روحِه التي لا تَبين
لهَشَاشَةِ أنفاسِه المُعْتَذرة
لتفادي العاصفة
لاحْتِدامِ الوجاهة بالخشية.
أعودُ خاسراً مثلَ غيْمَةٍ تلاشتْ في الفراغ
خاوياً منكَ ومني
مليئاً بغيري.
يا صوتَ الجبال
يا صَدى الريف
يا حريرَ الرضا؛
أينَ يَدفعُ البحرُ ماءَه
أينَ يَكنزُ الغريبُ جُثةَ أبيهِ
كيف يَرتُقُ المكلومُ شقوقَ كلماتِه؟
يا غيومَ العمر العابرة
ترفقي بالماء،
اقطعي زَبَدَ السيول
رغوةَ المنابذة
أصيخي سمعاً لندائه البعيد
نداء الغَرقى الأخير،
أَصيخي سمعاً لثُغاء الماعزِ المذبوح
لوصايا الجَسد المُسَجَّى.

عمان 20-10-2003
يا دمَ العراقي

"إلى عقيل علي..
إلى روحه طبعا؛
فقد مات مهملاً ومرمياً في شوارع بغداد،
مات مهجوراً في محطة باصات.
مات وهو يحمل قصيدةً في جيبه، يشيِّعُ فيها العالم، ويرثي الحياة.
بُحْ يا دمَ العراقي بالنَّشيج،
بحْ بالعَويلِ على خُطى أنكيدو
بحْ بالحرائق للنار
تكلم بتلك اللغةِ الآشوريةِ المعلقةِ عندَ قبرِ تَمّوز
تَمْتِمْ بهذيان جلجامش لزهرةِ الخُلود
بحْ يا جَسدَ الشاعر بالهزيمة
بُحْ بالنقمةِ والضياع عند محطةِ الباصات
وفي سيارةِ الإسعافِ الشاخصة لنقل الخردة،
اعتَنِ يا دَمَ العراقي بماء الخليج،
زدْهُ طمياً وشِعراً وَخَوَرَاً
علِّقْهُ على سَعف جيكور
وفي حديقة البريكان
فوق سرير السياب في الكويت
في منافي بلند والبياتي وسعدي
في موت رعد وجان
في تجاعيد الصايغ
في نشيجِ سركون
في صمتِ نازكَ وانزواءِ مهدي
في بيارقِ الحسين،
في دَمِ السلالة
فوق بلاطِ الخيانة
عند عتباتِ النجف
تحت منابعِ التاريخ المرتعش
في سجنِ أبي غريب
في حريق الوشايات.
بُحْ يا نجيعَ الموتِ بالفاحشة
قُدْ عشتارَ من يديها
قَدِّمها وَجبةً لهولاكو المخصي
عَلّقها زينةً على مقابرِ السُومريين
جداراً في زَقُّورةِ بابل
قَدِّمها تبغاً للمرتزقة
زَوِّدْ دمَ الضحيةِ بعطرِ الجُناة
كلُّ الجناة من نبوخذْنَصَّر حتى مَطلع القصيدة.
اليومَ يذوبُ حديدُ السماء
تذوي جدائلُ التمور
تنز جثة الشعر دماً حراماً.
مرارةُ النشيد
لم تحرسْ نشوةَ القصيدة
بياضُ الموت
ينامُ في أرض الرافدين.
طوبى للقتلة
طوبى للقبور
طوبى للمُومِسات
في كلِّ العصور
طوبى لدم الحروف وخيانة الريح.

عمان 16/5/2005

عزيزة علي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى