نظرة في خطاب أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة
من بين المعايير المعتمدة في تحديد مقومات أي جنس أدبي، ثم ضبط هويته وموقعه بين باقي الأجناس الأدبية، هناك: مستوى الصياغة التي تهتم بتشكيل الخطاب، وطبيعة المضامين التي تتقيد بالدلالة المقصودة، بالإضافة إلى كيفية تقديمها، ونوعية التركيب الذي يسم أسلوب الكتابة، ويهدف به الكاتب إلى تبليغ ورسم أبعاد خطابه، ثم الوظائف الخطابية التي تدل على آثار الخطاب وتكشف عن آفاقه.
فجميع هذه المعايير وغيرها تقتسم أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، وتجعل منه في النهاية شبكة من الموضوعات الأساسية والفرعية، تقوم بالحفاظ على توازنه الإبداعي، بحكم أن كل موضوعة تمثل مركز ثقل خطابي، وقطبا يختزل شحنات دلالية، تنتظم بدورها نسيج العلاقات الداخلية للخطاب، وسنحاول في هذا المقال أن نكشف بإيجاز شديد مظاهر خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، وأن نبحث في مكوناته الكبرى، وفي طبيعة حمولته المتنوعة، اقتناعا منا بأن الخطاب الأدبي ليس مجرد صياغة وتركيب، ومضامين ووظائف؛ بل إنه نتاج ذو مظاهر ومكونات أكثر تشعبا، وكائن ينطوي على خفايا وأسرار، ويتشرب عناصر دقيقة ومجردة، تضرب بجذورها في ذات الإنسان وذاكرته.
ثم إن الحديث بالدرس والتحليل عن خطاب السيرة الذاتية الإسلامية في العصر الحديث، يعني كذلك البحث في بواعثه ودرجة الصدق التي ينطوي عليها، ونحن نطمح في هذا الفصل من الأطروحة إلى أن نحيط أكثر بهذه المحاور، وإلى أن نوسعها نقدا و توضيحا، على أن نتخذ هذه الخطوة ـ التي تقتضيها الضرورة المنهجية ـ تمهيدا مفصلا في مدارات، قبل الانتقال إلى معالجة ميثاق قراءة السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، وبواعث تلقي هذا الضرب من الأدب الإسلامي.
ونحن عندما نتناول بالفحص متن هذا الفرع الأدبي الإسلامي الحديث، لا نجد أنفسنا أمام مادة أدبية يستعصي فهمها وتأويلها، أو إزاء خطاب أدبي يتعذر علينا الوصول إلى معرفة تامة به، ذلك لأننا لسنا بصدد خطاب أدبي تخييلي، تتداخل وتتلاحم فيه العناصر الواقعية بالعناصر الخيالية، وإنما نحن نطرق باب خطاب لا يقترح عوالم تخييلية، سواء من داخله أم من خارجه، وبالتالي يعرض تجارب ذاتية إنسانية واقعية.
ثم إننا نرى أن خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، يتمتع بحياة متعددة، بحكم ارتباطه بالأزمنة الثلاثة (الماضي، والحاضر، والمستقبل)، مما يؤهله ليكون إشارة مفتوحة على كثير من المعاني والدلالات، على الرغم من التباين المبدئي القائم بين جنس السيرة الذاتية وباقي الأجناس الأدبية التخييلية.
فلا سبيل إذن إلى إسقاط طبيعة الخطاب الأدبي التخييلي على الطبيعة الخاصة بخطاب السيرة الذاتية المعتمدة على التجربة الواقعية، ثم لا يحق لنا أن نبرر عملية الإسقاط باحتمال اتفاق الهدف، وبكون باب التأثير المتبادل بينهما سيظل مفتوحا، و ناء على ما تقدم ذكره، نجد أنفسنا لا نشاطر رأي جورج ماي (GEORGES MAY) في هذه المسألة، إذ عوض أن يفضي به البحث إلى رسم حدود صارمة، تفصل ما بين السيرة الذاتية والأجناس المجاورة لها، نراه يؤكد على عدم وجود أي حد فاصل بين أدب السيرة الذاتية وأدب الرواية.
ويكفي أن ندفع هذا الرأي بالتنبيه إلى ما يتفرد به خطاب السيرة الذاتية من قراءات متميزة، سواء كانت عادية أم نقدية أم إبداعية، هذا إذا أخذنا بعين الاعتبار الكيفية التي سيتعامل بها القارئ مع هذا النص أو الخطاب الأدبي، وهي بداهة ليست نفس الكيفية التي سيتعامل بها نفس القارئ مع نص قصصي، أو نص روائي، أو نص شعري على سبيل المثال .
ثم إن من الخصائص الجوهرية للسيرة الذاتية كون صاحبها عاجز عن بلوغ الغاية المتمثلة في "الموت"، وقول الكلمة الأخيرة في حياته، ومن ثم فإن أدب السيرة الذاتية هو رحلة تبدأ من حاضر الكتابة وتنتهي إليه، وهي الرحلة التي تتم في حركة دائرية ببعديها الزماني والمكاني، لكن هل صحيح أن خطاب السيرة الذاتية لا يستطيع أن يتجاوز أحادية رجع الصوت الواحد؟ وأنه يفتقر إلى إمكانات الرواية الإبداعية ؟!
ونحن لا نتفق مع من يرى هذا الاعتقاد، لأن ما نصادقه للوهلة الأولى من رجع الصوت الواحد في خطاب السيرة الذاتية، ليس في الواقع وجوهر الأمر إلا مرآة تتراءى على صفحتها عدة أصوات، ومدخل إلى عالم يحفل بتعدد أصوات قراءة أدب السيرة الذاتية.
إن قراءة خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة يجب أن تتم بحس واقعي، بخلاف باقي الخطابات الروائية وغيرها، مما ينتمي إلى الأجناس الأدبية التخييلية، التي ستقرأ بحس تخييلي، لكن هذا لا يعني أن هذه الخطابات لا علاقة لها بالواقع، أو أنها ذات مضامين جوفاء؛ بل إنها في الحقيقة عبارة عن منافذ تفضي في أغلبها بالمتلقي إلى الحياة الواقعية بأدق تفاصيلها.
فما أدب السيرة الذاتية إلا جزء من الظاهرة الإبداعية على المستوى العام، وهذا شأن كل الخطابات الأدبية التي تحكي التجارب الواقعية، وكل من يلقي نظرة متأملة على مختلف الاتجاهات الأدبية في مختلف المراحل التاريخية، يعثر على ذلك التجاوب القائم بينها وبين جميع مناحي الحياة الاجتماعية الواقعية، وهي اتجاهات تعكس نبض المجتمعات وما يسودها من مفاهيم وقيم.
ثم إن غزارة وغنى المضامين والقضايا، وكثافة الموضوعات والأحداث التي نصادفها بوجه خاص في خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، هي من بين المعطيات التي نادرا ما نعثر عليها في الأدب العالمي الحديث، شعره ونثره، ومن ثم ستبقى هذه المعالم من أبرز سمات الخطاب الأدبي الإسلامي، الأكثر تميزا واغترابا في هذا العصر، على الرغم من أنه عمل على ملء فراغ كبير، وحرص على تقريب المسافة بين الذات الإنسانية ـ العربية والأعجمية ـ والإسلام.
وقد استطاع الخطاب الأدبي الإسلامي أن يجلي كثيرا من الحقائق التاريخية، التي أفرزها مجرى التحولات والاضطرابات في العالم العربي الإسلامي الحديث، حتى إنه يمتلك من خلال أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة من الخصب والتنوع، ما قد لا تمتلكه السيرة الذاتية، وهي الجنس الأدبي المنفتح على المضامين الأكثر تشعبا .
إن خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة نتيجة نهائية لتراكيب ومناهج معينة؛ إنه من جملة الخطابات الأدبية الإسلامية المرتبطة أصلا بذات مسلمة فاعلة، وذاكرة إسلامية حافظة، ثم إن هذا الخطاب الأدبي الإسلامي ينفرد بخاصية جوهرية، وهي أن الذات المنتجة له ليست أحادية، وإنما هي ثنائية: عربية وأجنبية، كما أنه خطاب ذو قواسم مشتركة يكمل بعضها بعضا، على الرغم من اختلاف المعطيات البيئية، والثقافية، والاجتماعية و غيرها بين الحضارة العربية الإسلامية و الحضارة الأجنبية.
ثم إن لكتابة السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة اليوم، وأكثر من أي زمن مضى، دورا كبيرا وفعالية لا تقل أهمية عن باقي خطابات الأدب الإسلامي الحديث، خاصة مع اكتساح الآداب، والمفاهيم، والقيم الغربية للبلاد العربية الإسلامية، التي انبهر كثير من مثقفيها بكثير من الإنتاجات الأدبية الغربية، التي لا صلة لها بواقع الحضارة الإسلامية، وأخلاق المسلمين، وثقافتهم، وعقيدتهم .
ونحن موقنون بأن أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة سيظل أحد أبرز مظاهر الأدب الإسلامي المتميزة في العصر الحديث، وأداة خطابية مؤهلة لتحقيق تواصل أدبي فاعل ومثمر، فضلا عن اعتباره مجالا فسيحا للدعوة إلى الإسلام، ومعينا لا ينضب من المواد التاريخية، والاجتماعية، والنفسية الموحية، ومن العناصر الفنية التي تبعث على الإبداع الأدبي، إذ باستطاعة كل أشكال التجارب الذاتية، والمعاناة، والأفكار، والرؤى، والمواقف، والمشاهد المسترجعة، وكذلك الفضاءات المكانية والزمانية أن تنمي في الذات الكاتبة والذات القارئة حسا فنيا وحدسا جماليا رفيعا.