الأحد ٢ حزيران (يونيو) ٢٠٢٤
بقلم عارف محمد نجدت شهيد

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ

يعيش المرء سنواته الأولى في الحياة مدفوعاً بغرائزه فقط ضارباً بالقيم والقوانين عرض الحائط، وهو ما يؤكده عالم النفس فرويد في نظريته الشهيرة التي تقسم النفس البشرية إلى ثلاثة مكونات؛ الهو والأنا والأنا العليا؛ أما المكون الأول "الهو" فهو الجانب الحيواني في المرء والذي يعبر عن غرائزه بشكلها الخام، كغريزة البقاء، والجوع، والشهوة الجنسية، وما إلى ذلك، وأما "الأنا العليا" فهي القيم والقوانين التي يتعلمها المرء ويمتثل لها بشكل صارم، وأما "الأنا" فهي المسؤولة عن إشباع الغرائز دون خرق القوانين، فإذا شعر المرء بالجوع، ستدفعه "الهو" إلى السرقة، وتحذره "الأنا العليا" من السرقة، وتأتي "الأنا" لحل المشكلة وتدفع صاحبها إلى العمل لجلب النقود وشراء الطعام.

وبمرور الوقت، يستكشف الطفلُ العالمَ من حوله وتنشأ "الأنا العليا" لديه، فيتعلم المشاركة وحب الآخرين واحترامهم من برامج الأطفال، ويلقنه والداه بعض الدروس الأخلاقية كتقبيل يد جده والامتثال لأوامر معلمته في المدرسة، واستخدام العبارات اللبقة بدلاً من التعبير عن ذاته واحتياجاته بعبارات مباشرة وجافة، فإذا اشترى الطفل قطعة حلوى يجب أن يقول للبائع "تفضل" ولا يجب أن يقول له "خذ". وما إن يتم الطفل عامه الخامس حتى يجد نفسه أمام مفترق طرق، فهو قادر على القراءة والحفظ، ولذلك، يشجعه والداه على حفظ القرآن الكريم، فهو من أهم مصادر تشكيل "الأنا العليا"، ليجد الطفل نفسه يحفظ كلاماً بلسان عربي مبين لا يشبه الكلام في لغته العامية الفقيرة التي تعلمها في السنوات الماضية.

وبغض النظر عن طريقة الوالدين في تشجيع أطفالهم على حفظ القرآن، سواءً كانت بالترغيب أو الترهيب، يحفظ الطفل عدداً لا بأس به من السور، ثم تمر الأيام مسرعة وتنتقل تلك السور إلى عقله الباطن، ويتوقف عن مشاهدة برامج الأطفال ويستبدل المسلسلات التلفزيونية بها. تلعب هذه الأعمال الدرامية دوراً حاسماً في تشكيل شخصية الطفل وصناعة نظارته التي يرى من خلالها هذا العالم، وخاصة تلك الأعمال التي بقيت محفورة في الذاكرة لأكثر من عقدين من الزمن، فمن منا اليوم ينسى "المعلم عمر" و"المختار أبو حاتم" وجميع رجالات حارة الصالحية؟ من منا اليوم ينسى البطل "نصار" ورفاقه الذين ضحوا بأرواحهم فداءً للوطن؟ وفي هذا السياق، هل يمكننا أن نغفل عن ذكر حكيم الحارة "أبو عصام" وعقيدها "أبو شهاب"؟

لقد تلقى أبناء جيل التسعينات جرعات مفرطة من المثاليات التي ظهرت في برامج الأطفال كصقور الأرض وداي الشجاع وفي المسلسلات التلفزيونية كالتي ذكرتها آنفاً، ثم تلقى صفعة قويةً حين أدرك أن الواقع لا يشبه تلك الصور الخيالية التي كانت تظهر على شاشة التلفاز، فأبناء عمومتهم ليسوا كالمعلم عمر، وأصدقائهم ليسوا كأصدقاء نصار، كما أن إخوانهم وآبائهم ليسوا أفضل حالاً!

وقد سلكت هذه الطريق كما فعل أقراني وصلت إلى نهايتها المسدودة، ووقفت على حافتها أنظر بعين دامعة إلى جثث رفاقي الذين سقطوا في نهايتها، وأدركت حاجتي إلى الفهم الصحيح للحياة وأنظمتها المعقدة، ومن هنا، استأنفت رحلتي مع القراءة وفارقت شاشة التلفاز فراقاً لا رجعة فيه.

تجنبت قراءة الروايات خوفاً من خوض عوالم مثالية كالتي وجدت نفسي فيها منذ سنوات، رغم معرفتي بوجود بعض الروايات التي تعلم الإنسان الكثير، ولكن، كما يقول المثل المصري الشهير: "اللي اتلسع من الشوربة بينفخ في الزبادي". وبالإضافة إلى القراءة، اعتدت التدبر ليلاً، وخاصة في الوقت الذي يسبق أذان الفجر، وهو وقت ساحر، يتسلل فيه صوت المنشاوي العذب من مآذن المساجد إلى آذان المرء بذات الطريقة التي تتسلل فيها نسائم الليل الباردة إلى وجهه.

اعتدت الإنصات لتلاوة المنشاوي والتدبر في الآيات، وخاصةً تلك التي تروي قصص الأنبياء التي روتها والدتي لي في مرحلة الطفولة لتعلمني بأن العاقبة دوماً للمتقين. ووجدت أن هذه القصص تحمل في طياتها دروساً وعبراً لا يعرفها إلا من تدبرها بعناية ولا يمكن للطفل أن يفهمها في هذه السن المبكرة.

ومن هذه التأملات، أن جميع الأنبياء قد ابتلوا في آبائهم وأبنائهم، ونجحوا في هذه الاختبارات حتى نالوا مكانتهم الرفيعة، فهذا إبراهيم، يجادل والده بأدب ويدعو له بالهداية فيقول له: " يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا "، ومع ذلك، يأبى أبوه ويوافق قومه على قذف إبراهيم في النار، وهذا نوح، يدعو ولده إلى الحق فيخاطبه بحسرة: "يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين" فيكابر الابن ويقول له:" سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ " فيموت غرقاً أمام أبيه " وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ "، وهذا هابيل ابن آدم، يقول لأخيه الذي يضمر له الشر والعداوة: " لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ".

تظهر هذه القصص الصورة الحقيقية لعالمنا وتكشف زوايا مظلمة في أعماق النفس البشرية، محطماً تلك الصور المثالية التي صدعوا رؤوسنا بها لسنوات طويلة، فقد يقذف الأب ابنه في النار، وقد يفارق الابن أباه، وقد يعدو الأخ على أخيه فيقتله! ولعل قارئ التاريخ يدرك هذه الحقيقة جيداً، إلا أن صفحات التاريخ تروي لنا تجارب السابقين وتترك لنا التدبر واستخلاص العبر، أما القرآن الكريم، ففيه الخبر والعبر، إذ يروي لنا قصص الأولين وتجاربهم القاسية ويعلمنا الطريقة الأمثل للتعامل معها، فما الذي فعله إبراهيم حين حاربه قومه؟ دعاهم إلى الحق وأحسن إليهم ثم اعتزلهم، فنصره الله عليهم ونجاه " قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ " وجاء أمره بمكافأة إبراهيم كما ورد في سورة مريم: " فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۖ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا "، وماذا صنع نوح مع قومه الذين قالوا له " يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا "؟ استمر في دعوتهم حتى أُعذر وجاء أمر الله كما ورد في سورة الصافات: " وَلَقَدۡ نَادَىٰنَا نُوحٞ فَلَنِعۡمَ ٱلۡمُجِيبُونَ * وَنَجَّيۡنَٰهُ وَأَهۡلَهُۥ مِنَ ٱلۡكَرۡبِ ٱلۡعَظِيمِ * وَجَعَلۡنَا ذُرِّيَّتَهُۥ هُمُ ٱلۡبَاقِينَ * وَتَرَكۡنَا عَلَيۡهِ فِي ٱلۡأٓخِرِينَ * سَلَٰمٌ عَلَىٰ نُوحٖ فِي ٱلۡعَٰلَمِينَ * إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِينَ "

وختاماً، فإن التدبر في قصص الأنبياء حديث لا ينقضي بكلمات، وقد أكتب عنه لاحقاً باستفاضة، أما في ختام الحديث عن جيل التسعينات أو جيل الألفية كما يطلق عليه، فلا أنكر أنه قد تعلم في طفولته دروساً أخلاقية عظيمة ولكنهم أخذوها من مصادر وضعت مساحيق التجميل على وجه الواقع القبيح، وهو ما يفسر إنكارهم للواقع وعقدة المثالية التي يعانون منها، ولو التفتوا إلى القرآن لوجدوا ضالتهم وعرفوا حقيقة هذا العالم وحفظوا أنفسهم من هذه الاضطرابات، والآن، يمكنك تدبر قول الله في عزيز كتابه: " نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى