الخميس ٥ حزيران (يونيو) ٢٠٠٨
أطياف متمردة (1)
بقلم زياد الجيوسي

هذيان بنكهة الياسمين

"أشكر الله بأنه خلق الزهور بأنواعها، حتى تكون منبعا تتدفق منه الأحاسيس والذكريات، قد تكون برعما لكنها رغم صغر حجمها، تأخذك إلى حيث لا تدري، تصل بك إلى حيث انتعاش الروح، بعد أن تكون طوية روح مضت في مفكرة صغيرة، حل ما حل بها، تبحث بين صفحاتها عن كلمات تعيدك إلى زمان يرفض إلا أن يعود عابرا للزمان، الجبال، الوديان، كل المسافات"

وأشكر الله الذي خلق لنا الروح التي تتحسس الجمال وبوح الياسمين وعبقه، فتحلق بنا الأرواح إلى فضائات بعيدة، إلى مجرات لم نكن نحلم بها، هناك حيث يمكن أن تتصادف مجرتان تحملان روحين، تشدهما إلى ياسمينة قمرية، إلى ظلال واحة بالقرب من شاطئ مهجور، ينيره قمر ليلي، فتخرج حوريات البحر ترقص على نيران مشتعلة، وقودها القارب الذي حمل الغريب إلى الواحة، فقاتل أمرائها ليفوز بقلب المليكة التي رحلت، وحرق مركبه فلم يعد يجيد السفر في أعالي البحار، لم يعد يرى أنه يمكن أن يبحر إلى واحات أخرى.

عاد الهذيان يسيل جارفا في طريقه كل السدود والحواجز، يأتي بكل الجنون المتراكم في صفحات الزمان، يفجر البراكين دفعة واحدة، فتزلزل القلوب زلزالها، هو القدر ما زال يلعب لعبته، جنونه.. فيجن بنا، الماضي الذي ينبثق فجأة بعد أن استقر في تلافيف الذاكرة ولم يغادرها، فكيف لبرعم الياسمين الناعم أن يحافظ على رونقه وعبيره، يبوح بالشذى من جديد، فأعود أهتف لروحي، أستعيد ذكرى وذاكرة، عصفورة تقف في نافذتها وحيدة، ترقب الدرب تبحث عيناها عن الهوى.

الخامسة مساء من كل يوم، تتسلل نفحات الهوى، طفل يقدم لطفلته باقات ياسمين، هواء طلق يعصف بنا، جنون اللحظة، جمالها، ماض يتسلل عبر الزمان، فحين همس لي الهدهد أن مليكة سبأ في جزيرة في قلب نجمة من الكون، فتشتها ورقة ورقة، شجرة شجرة، عبثت بكل الصنوبرات، نزعت لحائها، بحثت في أزهار كل الياسمينات المتعربشة على جدران الدروب، لم أعثر على صاحبة العرش، فقد كان الهدهد أحمق، كذلك العجوز ذو النظارات السميكة الذي كان يرقبنا من النافذة، فنختبئ وراء الجدران باحثين عن الهوى، بحثت عنك كثيرا عبر رحلة الزمان والمكان، ربما كان جنونا، من يدري لماذا يصر مجنون أن يبحث في تلافيف الذاكرة وثناياها، لماذا يعود للمكان الذي كان، يعلم أنه لن يجد فيه ما كان، ويعود يرقب نافذة كانت ولم تعد كما كانت، هجرتها العصافير ورحلت ونقلت وكنها إلى المجهول.

بقي الحلم والرغبة أن نلتقي ذات يوم رامي جميل، تتعربش فيه الياسمينات على الجدران، تتكوم الأزهار في الطرقات، فلا تحرميني من همسات وبوح الياسمين، حروف تضيء ليل عاشق مجنون، فقد كنتِ إلهام الياسمين، كما كُنت نسغ السنديان، أبوح بهمي في "يوميات فنجان قهوة"، فأنقشها "حروف من سيمفونية ليل"، فليكن كل صباح يحمل لك الأجمل، مع اشراقة كل فجر، حين يبدأ ينـزع عن كتفيه عباءة الليل، فبراعم الورود تكبر وتتفتح وتعبق شذى يبقى دوما أجمل، هو العطر البكر على طبيعته، كما الماضي الذي يصر أن يعود ولو بشكل آخر، منبعثا من مبسم نسرينة، من بوح ياسمينة.

انه الزمان المختبئ في صفحات دفتر صغير، يفتح حروفه للشمس، بعد أن مل الأسر والعتمة، انه الماضي المفقود يقفز في فضائي، حروف وهمسات، كمشاعر طفلة بريئة لم تلوث بعد، رغم رحيل المليكة عن عرشها.. ماض أبى المغادرة، بقي ينتظر اللحظة، تفتح الزنابق، فأصبح "نزف ليلي" ينبعث من جديد.

 [1]


[1ملاحظة: أطياف متمردة خواطر نزفت عبر العصور، لا علاقة لأرقام تسلسلها بتاريخ نزفها، وما بين الأقواس لا يعود للكاتب أبدا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى