الثلاثاء ١٦ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٧
بقلم نضير الخزرجي

هكذا ينبغي أن تكون حواء المثالية

يوزن الإنسان بمواقفه في الشدائد والملمات، ولا يوزن بجسمه أو حسبه ونسبه، فتلك عوامل فرعية، قد تؤثر في سلوك الانسان سلبا أو إيجابا، ولكن المرء بما هو وبما يفرزه سلوكه تجاه نفسه والدوائر المجتمعية المحيطة به، من العائلة الى العشيرة الى المجتمع الى الأمة الى البشرية، فكلما كان معترفا بقدر نفسه، محترما لها، وكلما كان قريبا من مراكز الدوائر مؤثرا على نفسه حتى وإن كان لا يملك إلا كلمة حق يقولها أو صدق ينطقها، فكلما ترقّى الى سماء القيم الخالدة وطال سهيلها.

وإذا صدرت مثل هذه المواقف من امرأة، مكتنزة العاطفة، خبرت الحياة حلوها ومرها، غادر عنها زوجها وفي حضنها ايتام لم يبلغ بعضهم الحلم، فان قيمة مثل هذه المرأة في سوق المكارم أكبر من أن تثّمن، وكيف يمكن تثمين إمرأة صابرة محتسبة، فقدت زوجها بسيف الخارجي، ثم فقدت أربعا من أولادها وعددا من أحفادها، في معركة غير متكافئة، طالتهم يد الغدر والعدوان وهم في الشهر الحرام، بل إنها فقدت سيدها بعد زوجها وحبيبها وحبيب قلوب أهل الأرضين والسموات.

تلك هي شخصية السيدة فاطمة بن حرام (حزام) الكلابية المشهورة بأم البنين، حرم الامام علي بن أبي طالب (ع)، ووالدة أبنائه الأربعة العباس وجعفر وعبد الله وعثمان، الذين قضوا جميعا شهداء في كربلاء المقدسة بين يدي أخيهم سبط النبي الأكرم (ص) وسيد شباب أهل الجنة الامام الحسين بن علي (ع).

هذه الشخصية النسائية القليلة الندرة في عالم حواء من قبل ومن بعد، والتي دخلت بيت علي (ع) بعد أيام من فقده فاطمة الزهراء (ع)، التقطت الكاتبة أم زهراء الحاج حسن، لآلىءَ أخبارها المنتثرة بين طيات أجزاء من دائرة المعارف الحسينية لمؤلفها البحاثة الدكتور الشيخ محمد صادق الكرباسي، فنضدتها في عقد جميل حمل عنوان "لبوة العرين وأشبال أم البنين"، صدر عن بيت العلم للنابهين في بيروت، في 128 صفحة من القطع المتوسط، وتكون بذلك قد سهّلت على القارئ، الإطلاع على سيرة أم البنين ومحطات من حياة أبنائها الأربعة، دون الرجوع الى أجزاء الموسوعة وتسقّط أنبائها.

وكان لاختيار هذا العنوان مغزاه الظريف ووقعه الحسن، فاللبوة هي أنثى الأسد، ومن أسماء زوجها علي (ع) حيدرة وهو من أسماء الأسد، أشهره في معركة الخندق (الأحزاب)، في وجه فارس المشركين عمرو بن عبد ود العامري، عندما تصدى له مرتجزا:

أنا الذي سمّتني أمّي حيدره

كليث غابات شديد قسوره

ومن ألقابه التي اشتهر بها "أسد الله الغالب"، واشتهر بـ "ليث العرين" الذي وصفه به معاوية بن أبي سفيان في معركة صفين، مرتجزا في قومه مؤلبا على خليفة المسلمين:

أتاكم الكاشر عن أنيابه

ليث العرين جاء في أصحابه

والشبل هو وليد الليث واللبوة، وهذه الأسماء الثلاثة دالة كلها على القوة والشهامة، فجاء عنوان الكتاب اسماً على مسمى.

ولكن مَن هي أم البنين؟ ومن أين جاءت الكنية؟ وما علاقتها بأم البنين التي ذكرها صاحب المعلقة، لبيد بن ربيعة العامري (ت 41 هـ)، مخاطبا ملك الحيرة النعمان بن المنذر (نحو 15 ق. هـ):

نحن بني أم البنين الأربعة

الضاربون الهام وسط المجمعة

والمطعمون الجفنة المدعدعة

ونحن خير عامر بن صعصعة

هذه الأسئلة وغيرها، يجيب عليها المحقق الكرباسي تحت عنوان "فاطمة بنت حرام الكلابية"، فهي فاطمة بنت حرام (حزام) بن (خالد) بن ربيعة بن عامر (الوحيد) بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، المولودة في السنة 4 قبل الهجرة والمتوفاة في العام 64 هـ، كما يذهب الى ذلك المصنف، واشتهرت بأم البنين وقيل إن اسمها (وايسي) وعرفت بفاطمة، وتنتمي ولبيد الشاعر الى جد واحد، وأم البنين المشارة في شعر لبيد، فهي جدته من أبيه وجدّتها من أمه.

وجاء زواج علي (ع) من السيدة الجليلة أم البنين، بتوصية من نسّابة العرب في حينه، أخيه عقيل بن أبي طالب، بعد أن طلب منه الامام علي (ع) أن ينظر له في: "إمرأة قد ولدتها الفحولة من العرب لأتزوجها فتلد لي غلاماً فارساً"، فأولدت له أربعة فرسان، على رأسهم العباس الذي شارك أباه في معركة صفين وهو في مقتبل العمر، وحمل راية أخيه الامام الحسين (ع) في معركة الطف وهو في العقد الخامس من عمره، ومن هنا جاءت كنيتها بأم البنين على أكثر الأقوال شهرة.

وينطلق المصنف من موضوعة اقتران الليث باللبوة، لعرض خارطة بالزيجات التي عقدها الامام علي (ع) من بعد رحيل فاطمة الزهراء (ع)، وبيان عدد أولاده، ووضع ذلك كله في جدول، تفرد به المصنف بعد تحقيق في أمات كتب التاريخ والسير، أتى على اسم الزوجة وتاريخ ولادتها ونكاحها ووفاتها وما عقّبت من بنين.

وتحت عنوان "أشبال العرين العلوي من اللبوة أم البنين" تنقل المعدة شذرات من سير أولاد علي (ع) من فاطمة الكلابية، وهم على التوالي: العباس المولود في العام 18 هـ، وجعفر المولود في العام 31 هـ، وعبد الله المولود في العام 35 هـ، وعثمان المولود في العام 39 هـ. ولما كان الشبل العباس بن علي (ع) هو البكر لأم البنين، وعلى ولادته انعقد اصل الزواج بين الليث واللبوة، وهو حامل لواء الامام الحسين (ع) في واقعة الطف، وهو ممن ترك عقباً من بعده، فان الكتاب استغرق أكثر في تناول شخصية العباس، الذي سماه أبوه على اسم عمّه العباس بن عبد المطلب، فكانت كنيته أبا الفضل نسبة الى ابنه البكر كما كنية ابن عبد المطلب نسبة الى بكره الفضل. وشيء جميل أن يكون كأبيه يحمل اسمه أوصاف الأسد، فعباس هو الأسد الغاضب، وكان العباس كذلك، لا تأخذه في الحق لومة لائم، غاضب في سبيل الرسالة وفي سبيل نصرة أهل بيت الرسالة المحمدية، فاستحق وسام الشهادة والمكانة التي فيها شهيد مؤته جعفر الطيار، يقول ابن أخيه الامام علي بن الحسين (ع): "رحم الله – عمي – العباس فلقد آثر وأبلى وفدى أخاه بنفسه حتى قطعت يداه، فأبدله الله عز وجل بهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنة، كما جعل لجعفر بن أبي طالب، وإن للعباس عند الله تبارك وتعالى منزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة"، وأكرم بها من منزلة عظيمة، فالعباس بن علي (ع)، كما يقول الكرباسي: "ارتضع من ثدي البسالة وتربى في حضن الإمامة ونشأ في بيئة المعرفة واستشهد في معركة الكرامة وهو أبو الفضل والشهامة".

ويستظهر المصنف، من خلال الرواية التي تشير الى اشتراك العباس في معركة صفين، أن يكون من مواليد العام 18 هجرية، على خلاف بعض المصادر التاريخية التي تشير الى العام 26 هجرية.

ولا يفوت المصنف، وهو يشير الى العباس وأخوته مستعرضا بعض الروايات والقصص، أن ينتقد بعض الكتاب المتأخرين الذي يقدمون العاطفة الجيّاشة على الواقع عند سرد الروايات، وينسجون قصصا، إما أن تكون من وحي الخيال أو لسان الحال دون أن يشيروا الى ذلك، او أنها غير موثقة، أو أن تكون من المسموعات التي يردد الخطباء بعضها دون تمحيص او توثيق، او أنها خليط هجين من الحقيقة والخيال، وهذه وغيرها، مما يخلق انطباعا مغلوطا لدى القارئ، ينعكس سلبا على ثقافته التاريخية، فضلا عن حصول شبهة التقوّل على الامام المعصوم.

ويتطرق المصنف في مبحث مستقل الى جعفر بن علي (ع) وهو الشبل الثاني من أشبال لبوة العرين، فيتناول الاسم من حيث اللغة والاصطلاح، حيث يرمز الاسم الى النهر المتدفق او الى الناقة الغزيرة اللبن، ويحتمل المصنف أن يكون جعفر بن قريع التميمي وهو جد جاهلي هو أول من سمي بهذا الاسم، ومن المخضرمين هو جعفر بن أبي طالب الطيار، وأما جعفر الشهيد بكربلاء عام 61 هـ، فان أباه سماه تيمنا بأخيه جعفر الطيار الشهيد بمؤته عام 8 هـ.

ويتطرق المصنف في مبحث مستقل الى عبد الله بن علي (ع) وهو الشبل الثالث، فيتناول الاسم من حيث اللغة والاصطلاح، ويستظهر المصنف من نص لأخيه العباس بن علي (ع) أن عبد الله مات دون عقب.

ويتطرق المصنف في مبحث مستقل الى الشبل الرابع وهو عثمان بن علي (ع) المستشهد مع أخوته في واقعة الطف، فيتناول في البداية الاسم من حيث اللغة والاصطلاح، فهو اسم للجان وفرخ الثعبان بل فرخ كل حية وفرخ الحبارى أيضا، فهو اسم للحيوان واستخدم للأعلام مثلما هو اسم أسد وفهد، ثم يأتي على حياته وسبب تسميته، فعنده: "إن عليا (ع) إنما سمّى ابنه هذا بعثمان تكريما لعثمان بن مظعون بن حبيب بن وهيب الجمحي (ت 2 هـ)، الصحابي الجليل وحكيم العرب في الجاهلية، ومن أوائل المسلمين، ومن المهاجرين الى الحبشة، والذي كان يحبه الرسول (ص) وآله حبّاً جمّاً، وهو أول من مات من المهاجرين بالمدينة وأول من دفن منهم بالبقيع".

وهنا يتحدث المصنف بشيء من التفصيل عن الأسماء والمسميات عند عامة المسلمين، وحجم العاطفة التي تمنع هذه الطائفة أو الملة التسمية بأسماء وتمتنع عن غيرها، وتحبيب تلك الطائفة لأسماء دون غيرها، فالحب والكراهية مسألة: "عواطف وذكريات ومن الطبيعي أن المرء لا يختار لأولاده أسماء لها مواقف، بينما يختار الاسم الذي تربطه به علاقة حميمة"، كما إن التسمية الحسنة سنة نبوية، وتدخل في عداد حقوق الولد على والده، فقد ورد عن النبي محمد (ص) أن: "من حق الولد على والده أن يحسن اسمه اذا ولد، وأن يعلمّه الكتابة اذا كبر، وان يعفّ فرجه اذا أدرك".

ويعود المصنف في مباحث أخرى للحديث عن السيدة أم البنين، متسلسلا مع حوادث معركة كربلاء وما بعدها، فيشير تحت عنوان "أم البنين تستقبل ركب الأسرى" الى ما بعد استشهاد أبنائها الأربعة ورجوع ركب الامام الحسين (ع) الى المدينة المنورة بعد رحلة الأسر الطويلة من كربلاء المقدسة الى الكوفة ثم الشام ثم العودة الى كربلاء المقدسة ثم المدينة المنورة. وتحت عنوان "أم البنين والشعر" يتحدث الكتاب عن أم البنين الشاعرة، ولكن التاريخ لم يحفظ لنا إلا مقطوعات قليلة جدا. وتحت عنوان "مقام أم البنين" يستبعد المصنف أن يكون للسيد فاطمة الكلابية مقام في روضة ابنها العباس في كربلاء المقدسة، كما يذهب البعض، بلحاظ أنها ماتت في المدينة ولم تزر قبر ولدها، والمقام إنما يصار للموضع الذي نزل فيه الولي.

وتختم المعدة الكتابَ بقصيدة أنشأها المحقق الشيخ محمد صادق الكرباسي في فاطمة الكلابية وبنيها. كما يقدم الكتاب ببليوغرافيا بالكتب التي صدرت في أم البنين مثنيا على كتاب "أم البنين سيدة نساء العرب" من تأليف الباحث مهدي محمد السويج، فهو الأول من نوعه اعتمد أسلوب الدراسة والتحليل.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى