السبت ٢٢ نيسان (أبريل) ٢٠٢٣
بقلم صالح عبدالعظيم

هوامش الدكتور عُلوي

في المساحات الصماء الكالحة والفارغة غالبا ما يحضر الدكتور عُلوي. يملأ المكان بحدوده الضيقة أو المتسعة، الكئيبة أو المبهجة، الشتوية أو الصيفية. يصول ويجول. يستحضر ما لذ وطاب من الأحاديث والحكايات. قصيرها وطويلها. قديمها وجديدها. ما يبعث على الإثارة والتشويق. ما يثير الملل والجمود. يشعر بسعادة غريبة في تلك المساحات، كأنه طفل صغير وجد ضالته المنشودة، وعثر على لعبته الساذجة.

صلعته المبكرة بتضاريس ألوانها الداكنة جدا، والنقاط والتعاريج فاتحة اللون التي تملأها، منحت رأسه خرائط متداخلة، وجزرا عديدة متناثرة. طوله الفارع، وطريقة حديثه، جعلت له حضورا غريبا كحاشية تكأة لا نتذكرها سوى عندما يلم الألم بمرفقنا. غالبا ما كان الدكتور علوي يجد نفسه في هذه المساحات، يجول ويصول فيها. يستمتع بمحاوراته العديدة مع أطرافها. كانت متنفس الحياة بالنسبة له. الحياة التي منحته قدرا ما من الوجاهة من خلال وظيفته الجامعية الجديدة، لكنها أيضا الحياة التي حرمته لذة التعيين المبكر كشأن الآخرين في هذا المسرح العلمي البائس. لم يكن يحب التجمعات كبيرة العدد. يتوه فيها ولا يشعر بذاته. فقط اللقاءات التي يتحكم فيها، ويديرها لحسابه، حينما يصادر آذان المحيطين به!!

المساحة كانت دائما متسعة لوجهاء العلم القدماء الذين غالبا ما كانوا يلتحفون ببطانة متخلفة، وعقول فارغة، وأزلام متقزمين. غالبا ما كان أعضاء البطانة من صغار السن الذين يبدأون حياتهم الأكاديمية، ويخطون بدايات انحرافاتهم الأولى مثلما يخط الشعر خفيفا تحت أنف قادم جديد إلى عالم البلوغ، أو يعلن ثديان جديدان عن حضورهما المبكر لعالم الأنوثة الفريد.

لم يكن الدكتور علوي صغير السن مثل أقرانه. دخل إلى عالم الدراسة متأخرا جدا. جاء إليها بميراث طويل وعتيد من إحدى المؤسسات الحكومية، حيث عالم الأسطوات والعمال ومفرداتهم الهائلة الحكيمة والعقيمة، الراقية والمتدنية، الإنسانية والقاسية في آن. ظلت حياته كلها على هذا المنوال. رجل في الجامعة، وأخرى في المؤسسة الحكومية. عايش الحدود بين الوظيفتين، رغم انتقاله الفعلي إلي الجامعة، وبداية مساره الأكاديمي فيها.

لم يستطع الدكتور علوي في يوم من الأيام أن يتخلص من ميراث المكوث فترات طويلة بين أفراد الشركة وعوالمهم العجيبة والثرية. حينما تم تعيينه كان قد تجاوز عمر بعض الأساتذه، وهو أمر أضفى عليه وقارا من نوع غريب. لم يكن وقار العلم، بقدر ماكان وقار العمر، والسمات الجسدية. وهو أمر وضعه دائما بشكل دائم وغريب على الحافة، فلم ينتم لعالم الكبار، كما لم يكن مرحبا به في يوم من الأيام بين عالم الصغار. عاش مثل هؤلاء الذين يعيشون حياتهم كاملة في مناطق الحدود بين الدول. لا ينتمون إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. عاش مثلهم على الأطراف بين عوالم عديدة متعارضة ومتضاربة. منسجما مع هوامش سمير أمين الفاتنة التي لم تنقله يوما إلى المراكز.

كان الدكتور علوي ذكيا جدا، بحيث أدرك هذا الوضع من يوم عمله الأول. ساعده على ذلك سوء ظنه في كل المحيطين به أيا كانت علاقتهم به. غالبا ما يمنح سوء الظن البشر القدرة على التعامل مع أى شخص صغيرا أو كبيرا، أعلى مكانة أو أدناها. حتى في تحليلاته العلمية فيما بعد لم يستطع التحكم في هذه النزعة المرتابة في كل شيئ يحيط به، والتي جعلت بحوثه القليلة جدا والنادرة ملتحفة ببنية هائلة من سوء الظن والافتئات على عوامل التحليل. وهو ما وسم ماركسيته بالفجاجة المطلقة، إلى الحد الذي جعل شيخ الماركسيين في القسم يطلق على كتاباته "بالوعة أيديولوجيا".

أخبرته في احدى المرات بزميل لنا مصاب بالزائدة الدودية، وضرورة زيارته، فأخبرني قائلا:

مظنش إنه دخل المستشفى علشان الزايدة الدودية زي مهو بيقول، أغلب الظن إنه بيتعاطى حاجة، ودا سبب دخوله المستشفى!!

وفي إحدى المرات كنا نناقش عمارة الشيخ الماركسي، وأخبرته بكفاحه الغريب في بنائها، وإصراره المتواصل على متابعتها، فكان رده مربكا لحساباتي، مفتئتا ربما على حقيقة الأمر!

أظن ورا كل دور في العمارة دي ممارسات فساد غير عادية، وعلاقات، ومصالح عديدة لا نعرفها!!

تأتي ردوده صادمة جدا بحيث تشعر كأن كلب عقرك، أو ثعبان لدغك، فتلتزم الصمت. لا يسكت بعدها!! يواصل حديثه مستمتعا بصدمتك وخرسك!! كانت هذه هي انتصاراته اليومية، في المساحات المسموح له بها في التواجد. أن يهزم الآخرين أثناء الحوار، ويصيبهم بالدهشة وبالكمد في الوقت نفسه!! وإذا صمت فإنه يفاجئك بابتسامة صفراء غريبة على أطراف شفتيه، تصيبك بالعجز والحيرة. ابتسامة غريبة تستقر على أطراف شفتيه. تتجاوز منطقة الوسط بحيث تصيب الطرفين. يتخيل المرء ساعتها بأن ثمة كائن خفي يجذب طرفي شفتيه. يسرح بهذه الابتسامة الغريبة بعيدا بما يجعلك تظن أنه لن يزيد من الحديث شيئا. تتخيل ساعتها أن الحوار إنتهى، وأن مخزونه الهائل من التحليل والرصد والريبة والشك وسوء الظن قد إنتهي. ساعتها يدير وجهه لك مرة أخرى مكملا كلماته وآرائه وظنونه!!

في منطقة الحدود هذه نما الدكتور علوي وترعرع، واستطاع أن يستفيد من حدود عمره، وحدود انتماءاته. لم يحاول في يوم من الأيام أن يغير من هيئته. كانت هذه هى حدود قدرته المرتبطة بعالم الأزياء وأهوائها الطائشة. ربما جاء هذا متسقا مع رتابة كلامه وتكراره وعدم تجدده. كان شكله رتيبا بدرجة كبيرة. محددا بمفردات ملبس متكرر صيفا وشتاء. وهو الأمر الذي وضعه في مواقف محرجة، تصور من خلالها البعض في يوم من الأيام أنه الميكانيكي الذي جاء من أجل فحص إحدى سيارات الأساتذة. كان يعي ذلك ويدركه، بل ويتسفيد منه أيضا.

كان يندهش جدا حينما يبادره أحد المحيطين بإعجابه بملبس جديد يرتديه جاء متوافقا بقدر ما مع تحولات الموضة وعوالمها المجنونة. يبتسم له تلك الابتسامة الصفراء التي لا يستطيع أحد أن يفسرها. لحكمة ما كان الدكتور علوي يخلق عالما لذاته من الردود والابتسامات لا يستطيع أحد أن يفسرها أو يفكك شفرتها أو محتواها. تجد نفسك مرتبكا جراء هذه الابتسامة، بحيث تفضل فيما بعد أن تقطع حديثك معه وتقصره على السلام والتحايا. وحتى في عالم السلام، فجأة تجده يرحب بك بشكل مبالغ فيه، مستبشر الوجه يكاد يضمك ضما بشكل يبعث في داخلك كل آيات الشكوك والخوف. يثير لديك في تهكمه الخوف، وينشر في ذاتك التردد في ترحابه.

وحتى بعد رحيل الأجيال القديمة التي عايشها، ووضع من خلالها قدما في أرجائها، إستطاع أن ينقل تلك القدم ليضعها بين الأجيال الجديدة القابعة في الحجرة المكتظة ذات الرائحة الخانقة. استثمر الآذان الجديدة، وهيمنة شفتاه، بماركسيته الفجة، وأحاديثه الغريبة. عاش بين حدود هؤلاء ورغبته الدفينة في الإلتقاء مع القيادات الجديدة ومحاولة تعظيم مكاسبه. استطاع أن يصادر آذان الباحث الجديد والروائي التاجر صاحب الوجه الرخامي الصلد. رجل في القسم ورجل في العالم الخارجي ينقل الأخبار بمرونة ويسر وأريحية مفرطة. أي أخبار أى حكايات لا يهم. المهم ألا تنغلق الشفتان، وتبقى الآذان الأخرى مستعرة وخائفة وتابعة له.

علاقته بنقل أخبار الآخرين وممارساتهم لم تكن عشوائية، كانت أقرب للإنتقام والتفشي والنيل من الأحياء والأموات على السواء. والغريب أن هذا كله كان يتم بشعور من الأخوة والدفء وربما الإنسانية. حكى للروائي التاجر قصة الأستاذ الراحل مع زوجته.

تخيل أن الراجل رجع بيته فلم يجد أي عفش، حتى باب الشقة خلعته زوجته وطفشت.

ثم يزيد قائلا بمكر هادئ وقميء:

تخيل أنت بقا ماذا فعل لتقوم بكل هذه التصرفات.

هكذا يتم استدراجك رويدا رويدا، لتتلاشى المسافة بين شفتيه وآذان الآخرين، ليهيمن علي المستمعين تماما، ويفرض رؤاه التي تلقى رواجا لديهم، وتزيد في قربهم منه.

أستاذنا تفضل، أستاذنا ربنا يخليك، أستاذنا العظيم، منكم نستفيد أستاذنا.

كان يسعد بكل هذه الألقاب التي يثيرها البعض، وخصوصا من هؤلاء الذين ليس لهم من ممارسة أكاديمية فعلية للتقرب من الآخرين، واكتساب المواقف وتعزيز الصدارة، سوى هذا الكلام الممزوج بالعسل، والأقرب للخنوع والرياء.

في الحجرة المكتظة، التي لا يمكن للمرء أن يتوافق بسهولة مع الرائحة المريبة المنبعثة منها، عاش أيامه الأخيرة، يتحدث ويناور بهدوء شديد وملل مخيف فرض نفسه عليه بعد اعتلال قلبه. وهو أمر فرض عليه اختيار أحاديث المرض، وكم الأدوية الموصوفة له، والسعادة التي يشعر بها وهو يتعاطى العلاج. فرض عليه المرض أجواء جديدة من الحكايات المبالغ فيها أيضا كعادته. والغريب أنه استطاع بمهارة فائقة المعايشة الدائمة بين عالمين، عالم الكبار وعالم الصغار، واستطاع في كل حقبة وعصر أن يخلق صغارا له بمهارة ودقة فائقين، وأن يتناغم مع عالم الكبار بمهارة وحنكة وحكمة وقدر ما من الخنوع والكلام المعسول.

في يوم وفاته، كانت المسافة أيضا قريبة من القسم. رجل في المستشفى ورجل في القسم. كأنها دائما الانتماءات المزدوجة، أو كأنه القدر يفرض علينا طبيعة الموت والصلاة والكفن والدفن. في الجامع الكبير الذي تكدس بمئات الأموات الذين ينتظر المشيعون انقضاء الصلاة عليهم، تراصت الصناديق بعضها بجوار بعض. وفي لحظات الهرج والمرج، ورغبة المشيعين في الانتهاء من مراسم الصلاة، اندفع المشيعون سريعا كل يحمل كفنا ما، بغض النظر عما يحتويه. حُمل الدكتور علوى خطئا، ووضع في إحدى السيارات، التي اندفعت صوب مدافن إحدى المحافظات. كما عاش الدكتور علوى لا منتميا، قدما بين الكبار وقدما بين الصغار مات أيضا لا منتميا، مع أموات جدد لا يعرفهم، ولا يمتون له بصله، ليمارس مرة أخرى فن التعايش والتناغم مع المحيطين بأساليب وطرق وشغف الموتى!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى