الجمعة ٣ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٦
بقلم صابر الفيتوري

وحدة رؤية الجيل

قراءة في مقطع من الشعرية الليبية

خالد محمد المغربي / صالح قاد ربوه / صلاح الدين الغزال / وليد الشيخي

هذه القراءة المقاربة بين أربعة شعراء ليبيين يشتركون في كونهم يحملون ذات الحلم في كتابة قصيدة شعرية تحمل طموح الشباب ونبض التجديد , إضافة إلي أنهم يعيشون بيئته واحدة ووفق ظروف زمنية ومكانية واحدة و هذه محاولة لرصد ملمح تقارب يجمع بينهم أو عامل أخر يفرق لينتج رؤى مختلفة عن ما يفترض أن يكون .. وهل ما يجمع الشعراء يزيد من إزكاء روحي تعبيرية تنضوي في بوتقة رؤية واحد وهنا سنقرأ ما يمكن تسميته ( وحدة رؤية الجيل ) باعتبار الروابط سالفة الذكر ..ومن بين حزمة من النصوص الشعرية اخترت منها نماذج بعينها ..
الشاعر (خالد محمد المغربي ) يقدم لنا نموذجين من القصائد فهو من ناحية ينشد قصيدته المقفى بمعزل عن الانجرار إلي البحر الشعري فهي حين تُسمع يلفتك حضور قافية ما لكن دون الركون إلي أي وزن بعينه فهي تقفز من وزن إلي وزن وبذلك تكون ممارسة سجعية لطيفة محببة ,وجميلة الوقع علي الأذن .ومن ناحية أخري يقدم لنا الشاعر نموذجا أخر وهي قصيدة الشعر الحر التي تركن إلي التفعيلة فنجده يقول في قصيدة بعنوان : (آخر ما تبقى مني)

في هذا الليل الـمُتماوج فوق ظهرك
صورٌ من وجع الآمال
المُعلّقة بأطياف المشيئة
أمضي . . .
والزمن لا يعرف إلا أن يُرتّل
بعض نبضاتي بأنين الشوق
عبر خطواتك . . . وأنا . .
أعبر هذا المدى من حولك
أنسج من ثغرات الصمت
أغنية تُصَفِقُ لها في الختام
أيدي الوداع مجبرة

ونلمح في مضمون القصيدة ألما ووجعا وأنينا صارخا يصل إلي حد الإفراط في المباشرة دون الالتفات إلي البناء الفني للقصيدة وبذلك يطغي المضمون أو الموضوع عنده علي الشكل فلا يكون مهما فألاهم في نظره ما يؤمن به الشاعر لا ما تؤمن به القصيدة وبذلك يقولها صراحة :

فلا تملك الرؤى إلا . .

الانحناء وإسدال الستار

باختناق عبراتها . .

مرهق إتّساعي

لم يعد يحتمل مزيداً من ضياعي

أما الشاعر (صالح قادربوه ) فان الشكل الحر الضارب في عمق القصيدة التقليدية هو القاسم المشترك في تجربته الشعرية فما يزال حلم معانقة قصيدة النثر مراده وغايته التي لم يتمكن من الوصول إليها فكلما اقترب من قصيدة النثر هناك نداء داخلي يعيده إلي الوراء ويجبره علي الانغماس في رؤية ماضوية مبنية علي الخطابية والمنبرية وبذلك لم يستطع ان يمنح القصيدة صبغة الحداثة ولم يجانبه التوفيق في جعل القصيدة تأخذ الشرعية التقليدية الكلاسيكية بمعنها الصريح فاستمرت قصيدته تراوح بين هذا و ذلك ولم تتجسد الرغبة في كتابة النص الشعري المسكون بهاجس الحداثة فنجذه يحاول أن يبني شكل بصفات خاصة لكنه يظل أسيرا لتجارب شعراء من المحيط تأثر بهم كالفزاني مثلا فنجده يقول في قصيدة بعنوان :

القصائد المتاخمة

بدائية التكوين
اسميها سرتي الراعفة
علب سجائري
دواوين الفعل اللازم
اكتظاظ الفراغ
تكسر انكسار الروح
وتجبر اليقين القديم
بيقين جديد نوعا ما

قصيدته تشتغل علي ألذات والانا ويقين داخلي في القديم كذلك فالتعبير يسر بالتصاقه بذاك القديم وهو يحاول تبريره في مواضع مختلفة فيقول متابع لذات القصيدة :

والأطفال الحقيقيون مخلوقات ناعمة

لا تنتمي في خضم الجمل الاعتراضية

لبديهية "الزمكان"

هم قصائد متاخمة

مازلت اسميها في سياق انشقاق الطين

سرتي الراعفة

هكذا نجده غير معني بأي رؤية أو اهتمام بأي جانب يشتغل علي شكل القصيدة فلا توجد أي من موتفات الحداثة أو لوازمها فتغيب الصورة والتشبيهات ويختفي الرمز أصلا ويأخذ الخطاب السلس الأقرب إلي المباشرة حيزه كاملا وكأنا القصيدة عنده حديث عادي وغير مرتبط بالشعر أصلا وهذا منهج يسلك في بعض قصائد شعراء القصيدة المناضلة والمعنية بخطاب المتلقي العادي لبت روح العزيمة والانفعال واضع استفهاما هنا مفاده الاستغراب مما يجعل الشاعر يمارس فعل التشظي عن القالب الحداثي فهو بهذه الرؤية الوسط يفقد أمرين الأول التواصل مع المتلقي الذي ما يزال مولعا بالقصيدة المقفاة والثاني اللحاق بركب الحداثة والذي ما يزال ينتظر المتلقي أن يلحق به ..لكنه شاعر ممسك بزمام القصيدة ويرسم منها أفقا لذاته ..

(صلاح الدين الغزال) شاعر يطالعنا في كل مناسبة اجتماعية أو دينية أو غيرها بقصيدة رغم ان الشكل والمضامين بعيده كل البعد عن التنظير وأحاديث النقاد هو اكثر الشعراء الليبيين حضورا ورغم انه يعاني عدم الاعتراف بقصيدته التي هي ابنة شرعية للقصيدة العربية المتبحرة في بحور الخليل وعلي الرغم انه لم يتعلم الشعر كالذين يكتبون هذا الشعر كحصيلة مدرسية فهو غير متخصص في اللغة العربية لكن قصيدته خرجت من ذلك النبع لتجد الرفض وعدم الاحتفاء والتجاهل الممارس ضد كل ما هو قديم في ذائقة المثقفين العرب فالقصيدة عنده لم تخرج عن أغراض الشعر القديم لكنه يمارس ذالك بوعي كامل فنجدة وبعد الإساءة التي تعرضت لها الأمة بالرسوم التي طالتهم ورسولهم(ص) يقول :

لِتَعْـذِرَنَا رَسُــولَ اللهِ إِنَّـا
نُعَانِـي تَحْـتَ أَهْـوَالٍ عِظَامِ
أَمَاتُـوا أُمَّـةً هَانَتْ وَنَـادُوا
بِـأَنَّ سُبَاتَنَــا لِلدِّيـنِ حَـامِ
وَهُمْ أَعْـدَاؤُنَا سِـرّاً وَلَكِـنْ
هُنَـاكَ تَفَـاوُتٌ عِنْـدَ الصِّدَامِ
فَبَعْضٌ فِي التُّرَابِ يَدُسُّ رَأْساً
وَيَشْمَـخُ بِاسْتِـهِ مِثْـلَ النَّعَامِ
وَآخَرُ يَدَّعِي الإِسْـلاَمَ زَيْفـاً
يَسُوسُ النَّـاسَ قَسْراً بِالحُسَامِ

فتارة يشتكي من الحبيبة وتارة يشتكي ضنك الحياة وغياب الرزق وفي مرة أخرى يستنهض همم العرب وعلي الرغم أني لا اتفق مع طبيعة هذا الشعر لكني اجزم أحيانا انه من الضروري أن يكون موجودا ومادام يحصد ويستأثر بالتصفيق في القاعات وتحت أضوء الأمسيات فجميل أن يستمر لعله يحمل عنا هول وقع التصفيق.ويقول في تتمتها :

فَلَيْتَ لَنَا بِجَوْفِ الغِمْدِِ سَيْفـاً
وَلَيْتَ لَنَـا وَرَاءَ القَـوْسِ رَامِ
جَمِيلُ الفِعْلِ لَيْسَ هُنَاكَ شَـكٌّ
نَزِيـهٌ أَنْـتَ عَـنْ كُـلِّ اتِّهَامِ
نِدَائِـي يَا رَسُـولَ اللهِ يَوْمـاً
بِأَنْ أُشْفَى بِحَوْضِكَ مِنْ سَقَامِي
بِمَدْحِكَ أَرْتَجِي وَالوَيْـلُ خَلْفِي
وَقَدْ عَاثَ العِدَى حُسْـنَ الخِتَامِ

والأكثر تقديرا استمرار الشاعر رغم أن شعراء هذا اللون سرعان ما يتوقفون وينطفئون لان مواقفهم تكون عرضة بشكل مباشر للهجوم ولذا أخذت له هذه القصيدة التي نتفق جميعنا مع مضمونها بشكل قطعي..

الشاعر (وليد الشيخي) يفاجئك حين تلقاه بأنه قد عرف تطورات القصيدة العربية وألم بنقلاتها وهو إذا أعلان مباشرة أن قصيدته تركن إلي الحداثة وتشتغل علي رصد التغير وان كنت لم اعثر للشاعر علي أي قصيدة تقع في شرك الإيقاعات التقليدية ولكن ما صادفني هو العكس هو انصراف القصيدة عن الوزن مطلقا وإذا غاب الوزن فبعض قصائده صور قلمية او هي كما يحلوا للبعض تسميتها ( خاطرة ) وهي جنس أدبي غير محقق وغير معترف به وقد سمعت انه يهتم بالبحث في السريالية وغيرها لكن لم أجد لهذا الاهتمام أي اشتغال علي قصيدته علي أي حالة يبدو علي الشاعر نية الاشتغال علي القصيدة الحديثة وبذلك هو يتفوق علي الآخرين بأنه يصبوا إلي كتابة قصيدة مختلفة تنطلق مستفيدة من الموروث الشعري صوب المستقبل فيقول :في قصيدة بعنوان( ليلة الرحيل عن مدينتي) ..

ليلةُ الرحيلِ عن مدينتي ...
عائداً إلى دفاتري الضائعة ...
تهاوتِ الأشواقَ على صخرةِ الراحلين ...
وكأن الدنيا لكِ وحدكِ ...
في زمنٍ استوى على صفحةٍ بيني و بينكِ ...
خرجتُ ...
راحلاً عن مدينتي ...
عائداً إلى دهاليزِ الحكايا القديمةِ ...

نضج اقل في التجربة ورغبة اكثر في الإتيان بالجديد فهل يكفي ذاك لتكون القصيدة الحديثة هي وسيلة الشاعر وعنوانه الأكيد لكتابه ذاته بشبق الرؤية واعتمار التطور في النفس و يتابع القول في ذات القصيدة :

يثقلها الهجير ...

خرجتُ ...

بين البكاءِ المؤجلِ والفائتِ ...

كان الرحيل ...

وكانت العودة ...

إلى زمنِ اللاعودة ...

إلى صفحاتِ دفاترٍ عبثت مع النسيان ...

فتاهت في اللاوجود ...

معلنةً ساعةِ الرحيل ...

إلى حيث يرقدُ الخلود ...

شاعر ينتظر منه الكثير إذا خرجت الرؤية وتحولت من فكرة شفوية إلي ممارسة عملية ,حينها فقط تستحق أن ينظر لها علي أنها تستحق الثناء فالكتابة هي فعل التجريب دون توقف وفعل الاستمرار في المطلق دون أن يكون هناك حد أو فاصل ..

أخيرا ..وبذا وبعد هذه البسطة الموجزة عن أربعة شعراء يتضح لنا أن ما اصطلحنا علي تسميته سابقا بوحدة رؤية الجيل لا يوجد بيان له وان تشابه الشعراء الأربعة في وحدة الزمان والمكان لكن لكل منهم مفهمه الخاص ورؤيته التي تضل قاصرة كونها رؤية فردية غير مدعمة بمنهجية تساندها او انطلاقات تحضي بتبني جمعي .. واستطعت أن اثبت عدم وحدة الشكل وان تشابهت مع جل القصائد الليبية في العموم من ناحية المضمون فكل منهم يحاول أن يجد طريقا لكتابة نصه بمعزل عن مؤثرات التأثر بالعناصر المحيطة..

قراءة في مقطع من الشعرية الليبية

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى