«وراء السحاب» للطيب ولد العروسي
تعدّ سيرة الكاتب الجزائري الطيب ولد العروسي المعنونة بــ"وراء السحاب.. كلماتٌ من معركتي في الحياة"، سيرةً لجانب من حياة بلاده الجزائر، وهو حين يروي مساراته في دروب القرى الوعرة والمدن الغريبة، ويعاين الأحداث التاريخية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية فيها، إنما يروي بالموازاة محطات من حياة الجزائر نفسها؛ بخاصة ما شهدته بسبب الاستعمار وأعوانه، ثم استقلالها بعد أن حمل المجاهدون مشاعلَ الحرية على أكتافهم وقدموا التضحيات للعيش بحرية وكرامة.
محطات كثيرة تنقّل فيها الطيب العروسي في سيرته الصادرة عن "الآن ناشرون وموزعون" بالأردن (2024)، ونقلها بشفافية، دافعاً القارئ للتفاعل مع تلك الأحداث بكل جوارحه؛ يبكي ويضحك، يسخط ويرضى، يشجب الظلم تارة، وتارة أخرى يمنّي نفسه بالأمل القادم بالتحرر.
يمشي القارئ يداً بيد مع الكاتب وهو يجوب الطرقات الوعرة في "سيدي محمد الخيضر" (القرية التي وُلد فيها) ويقطع معه الدروب الموحلة، ويستأنس بأصوات الطيور المغردة والبساتين الخضراء وعيون الماء، يصعد أعلى التلال والجبال التي تمتد على مرمى البصرى، ويهبط للوديان التي تحتضن بيوت الطين المتواضعة وأسر الفلاحين الذي يعانون الشقاء بسبب عزلة قراهم عن العالم وبسبب الاستعمار الذي يلاحقهم بسياطه في حلهم وترحالهم.
يرافقنا صوت الطيب منذ ولادته عام 1953 في مرحلة كان إيقاع الحرب هو المسيطر فيها؛ الأمر الذي شكل لديه العديد من التساؤلات، وفيما بعد العديد من الآمال والتطلعات. وارتبطت ولادته نفسها بواقعة أقرب إلى الأسطورة، إذ كان والده يساعد المشرفين على "الزاوية"، ورُزق بطفلة لكنها توفيت صغيرة، وهو ما أصابه بقلق لاحظه "لخوان" (المشرفون على الزاوية)، وحين عرفوا السبب بشّروه أنه سيُرزق بطفل ذكر، وحين روى تلك البشارة لأمه قررت أن تسمي الطفل "الخوني"، وبقي الطيب يُعرف بهذا الاسم حتى دخوله إلى المدرسة التي اكتشف فيها أن اسمه في الوثائق الرسمية هو "الطيب" تيمناً بجدّه.
وكانت القرية التي عاش بها الطيب تعاني الفقر الشديد وضيق ذات اليد من جهة، وقمع المستعمر لسكانها من جهة أخرى؛ الأمر الذي دفع والده إلى تجنيد نفسه ضد الاستعمار، ثم قُبض عليه هو ومجموعة من رفاقه وتم الزجّ بهم في السجن.
قضى الطيب سنوات طفولته بينما تكفلت والدته وجدّته في تحمّل أعباء الحياة، ولعل هذا ما عزّز لديه حب المرأة وتقديرها واحترامها، وهو في كل مفصل يتذكر فيه والدته يثني عليها كامرأة عظيمة وشجاعة لم تعرف حلاوة الحياة إلّا نادراً، وقد تمسكت بعائلتها بعد سجن زوجها ورفضت ترك أطفالها والعودة من حيث أتت كما كانت تقضي العادات الأسرية.
والأمر نفسه عند حديث الطيب عن جدته (المرأة المكافحة التي كانت تقوم بالأعمال الخارجية كلّها من حراثة الأرض وحصد ما تجود به من خيرات والاعتناء بالمزرعة الصغيرة) فقال عنها: "كانت جدتي تقوم بذلك كلّه متحدّية قسوة الطبيعة وقلوب البشر، خاصة ذوي القربى". وكذلك عند حديثه عن النساء اللاتي ربطته بهن معرفة وصداقة أو علاقة في العمل أو الحياة.
وتتضح علاقة الطيب بوالده بعد أن خرج الأخير من السجن، فارضاً على ولدَيْه نمطاً آخر من الحياة، حيث بذل جهده وكلّ ما يملك ليعلمهما. وكان التعليم بالنسبة إليه العمود الفقري للحياة. وهذا ليس غريباً عنه، فقد كرّس وقته للتحصيل الدراسي، حتى عندما كان في السجن؛ فغادره وهو برتبة معلّم لغة عربية. وأضاف له ما تلقاه من تعليم آفاقاً أخرى بعد خروجه من السجن؛ إذ التحق بحزب جبهة التحرير الوطني، وأشرف على بلديات جزائرية عدة إلى أن تقاعد.
وخلال سرده لسيرته، يقود الطيب ولد العروسي القارئَ إلى ضفاف الشعر، ويتجول به في مدن جزائرية حيث عاش وتنقل، ومنها شلالة العذاورة، والبيرين التي وصفها أنها "وراء السحاب"، والهاشمية، كما يعرض لشخصيات كثيرة سواء من تلك التي كان لها حضور معنوي في حياة الناس، أو ممن ساهموا في تحرير الوطن، إلى جانب توقفه عند مفاصل كثيرة من تاريخ الجزائر، ومنها ما عانته خلال "العشرية السوداء".
يقول الطيب الذي يعمل حاليا مديراً لكرسي اليونسكو في معهد العالم العربي بباريس: "تحمل كلُّ سيرة في طيّاتها آهات إنسانيّة وظروفاً اجتماعيّة وسياسيّة وثقافية متنوّعة. وعلينا، نحن أطفال الثورة، أن ندلي بشهاداتنا لنروي بعض الوقائع الأليمة التي كنّا ضحيّة لها"، وبهذا الوعي يمكن عَدّ هذه السيرة وثيقةً فيها بُعد أنثروبولوجي وتاريخي، وهي تشكل شهادة حية وحيوية فيها جزء من آلام الحياة؛ سواء أكان في معايشة الكاتب ما يجري في نطاق الأسرة والأقارب والأصدقاء، أو ما يجري على نطاق ذاته الفردية الباحثة عن الخلاص.