الخميس ٢٢ تموز (يوليو) ٢٠١٠
في المركز الثقافي الروسي
بقلم صبحي فحماوي

ورقة رواية «الإسكندرية 2050»

يا إلهي ما أبهاك أيتها البجعة البيضاء الجميلة، الطافية فوق بحر أزرق، أيتها الجنّة المضطجعة على رمال شاطىء من ذهب! ما أشهاك يا أجمل الجميلات، وقد ضمّخك عطر البرتقال، حتى لقد تُيِّمت بحبك النسمات. ما أنقاك وموج البحر يغسل قدميك، ويرشق ماءه المالح الذي يرغي ويزبد في حوضك، متسلقاً ساقيك العاريتين، يدلكهما صباح مساء، فتبدين فيه ساحرة الحوريات، وصدرك العامر موج البحر، يعلو ويهبط، وصفحات أمواجك المتصاعدة هبوطاً، تشكل تضاريس أجساد نساء الإسكندرية السمينات النحيلات الشقراوات السمراوات الكاسيات العاريات الحاملات بأيديهن أوراق البردي..

لم أكن أتوقع لروايتي ( الإسكندرية 2050 ) كل هذا النقد والتحليل، والقيل والقال، الذي ما تزال تحظى به على مستوى الوطن العربي الكبير.

 وعندما بدأت كتابتها، كنت أنوي تدوين مجرد مشاعر وأحاسيس اسكندرانية في رواية، فوجدت نفسي متورطاً في حمل جَنين يتطور ويتضخم باتجاه مضاد لديناصورات (جيراسك بارك) المتوحشة، التي حطمت أقفاصَها، وأكلت الإنسان الذي أنتجها، وافترست الحيوان والنبات..

 وتصور هذه الرواية الإنسان الذي غير الحياة على هذا الكون، إذ لم يعد الإنسان الأخضر يفسد في الأرض ويسفك الدماء، ولم يعد الحيوان يبني نجاحاته على شقاء الآخرين، ولم تعد السمكة الكبيرة تأكل السمكة الصغيرة، إذ أن شخصياتها الخضراء أوقفت مفهوم الحياة القائم على الصراع على سطح الكرة الأرضية، وعممت السلام المطلق بين الكائنات الحية..

يقول (هرمان هيسّة- في روايته - دميان):

«إن انهيار عالم عتيق، وشيك بالفعل. إن شيئاً سيحدث على نطاق واسع. العالم يريد أن يجدد نفسه.» ولهذا ازداد اعتقادي بأن العالم يجب أن يتغير، كي يستمر، وتشجعت لترسيخ مفاهيم السلام الإنساني بهذه الطريقة الخضراء، التي تحاول إيجاد جنة على الأرض، وهذه الجنة لا تتم إلا بترسيخ الإنسان والحيوان الأخضر، التي أخذت فكرتها عن حياة كائن حي صغير يسمى (اليوجلينا) وهو حيوان أخضر دقيق جداً، يتغذى بالتمثيل الضوئي...

 هذا الكائن الأخضر في رواية الإسكندرية 2050 المتفرغ للحب، والتمتع بمباهج الحياة، لم يعد يأكل، ولا يعد يعتدي على أحد، وتوقف الفيل عن تحطيم أشجار الغابة وأكل أوراقها، وتوقف الأسد عن افتراس الغزال، وتوقف الذئب عن المهاجمة، وحتى البعوضة الخضراء لم تعد تلسعك وتمتص دمك، ذلك لأن كل الكائنات الخضراء، والمنتجة في مختبرات الوراثة بعد عام 2050 صارت تتغذى من التمثيل الضوئي..

 تصور كم هي الحياة بسيطة ولذيذة، لو أننا نتغذى مثل الأشجار على التمثيل الضوئي! يقول جبران خليل جبران في هذا الصدد:

" لو نقدر أن نعيش على عبير الأرض، فنكتفي بالنور كالنبات.... وليس دمنا سوى عصارة أعدت منذ الأزل، غذاءً لشجر السماء.... فأنا كرمة مثلك، وستُجمع ثماري وتُحمل إلى المعصرة."

قرأت قبل أسبوع ما قاله الكاتب البريطاني إيان ماكيوان، صاحب رواية شمسي:

 " إن قلة الروايات عن خطر تغير المناخ، وعدم اتخاذ موقف حازم من تغير البيئة تدهشه، لأن هذا بدأ يؤثر في حياتنا، ونتائجه ضخمة على المستويين الفردي والجغرافي – السياسي!"

 ولكن روايتي الجديدة بكل محتواها لم تحظ بتلك الضجة الإعلامية الدولية، كالتي حظيت بها تجربته الروائية البريطانية، التي تناقلتها وسائل الإعلام، لسبب بسيط وهي أنها عربية اليد واللسان!

صحيح أن هذه الرواية مفروشة بأقاصيص الحب والغرام، والحكايات الجميلة، والقضايا الوطنية الحاسمة، والبحث عن سلام مفقود، ولكنها تصور عالم المستقبل المخيف حيث تجف مياه نهر النيل. وتغمر مياه البحر الساخنة منطقة الدلتا سلة الغذاء المصرية. ويلتهم البحر مكتبة الإسكندرية التي أنشأوها حديثاً...إذ يقول(توماس بلفينش)-في كتابه ( عصر الأساطير):

" ولاذ النيل بأذيال الفرار، وخبأ رأسه في الصحراء. وإذ اعتاد أن يقذف بمياهه عن طريق سبعة مصبات، فلم يبق سوى سبعة مجار جافة."

 وفي الرواية تسيطر شركات صينية عملاقة على مقتنيات الحياة في مصر وباقي الدول العربية، وتطير الطائرات بطاقة غير نفطية، وبسرعة تختصر الزمن، ويكون الرجل الآلي هو المعين والرفيق والصديق، والمرأة الآلية هي الفاعلة والمنتجة والموظفة الذكية وهي الحبيبة في الحمام وغرفة النوم!

 تصور الرواية عصر2050 وما بعده، حيث يطول عمر الإنسان إلى أكثر من مئة سنة، ولا تعود النساء تحمل في بطنها، بل تتحول مستشفيات الولادة إلى مختبرات إكثار بالأنسجة: إذ تقول الرواية:

 " هذا إذا بقيت حتى الآن امرأة عاقلة تحمل حملها في بطنها!"

 وتعتمد الإسكندرية على خيالات "ألف ليلة وليلة"، إذ يعيش الناس الخضر في قيعان البحار، ذلك لأنهم يعيشون على الضوء مثل الطحالب والكائنات البحرية، إذ نقرأ فيها:

 "...فباستطاعة الإنسان الأخضر لو عُمِّم وسيطر على الأرض، أن يتوسع في بناء مدنه داخل البحر، ويعيش هناك متنقلاً بين البحر واليابسة، فبذلك تخفف مدن البحر من أعباء اليابسة، دون تلوث بيئي."

 ورواية الإسكندرية 2050 مثل سائر رواياتي، ترسم حياة شخصية تدور في دائرتها، كالخيول التي تطارد طيلة حياتها إلى أن تموت في ميادينها.. والشخص الذي اسمه هنا " مشهور شاهر الشهري"، يولد في عكا، ويدرس في الإسكندرية، فيجد نفسه يدور لبحر عكا من جهة الإسكندرية، إنه بحره الأبيض المتوسط! وبعد تخرجه يعمل في الإمارات العربية، ويسافر في كل الدنيا، ولكنه يجد نفسه ما يزال يدور في دائرته، إذ لا يملك إلى أن يعود إلى ميدانه.. إلى مسقط رأسه في عكا.
 
واستهل الناقد الدكتور علي المومني ورقته النقدية بعنوان(المتخيل والواقع والسخرية في رواية الإسكندرية 2050 ) للروائي صبحي فحماوي بقوله:

ما بين العجائبي والغرائبي والسخرية المريرة التي عبر عنها صبحي فحماوي في روايته الإسكندرية 2050 نجد صورا وأشكالا عديدة لعذابات الكائن البشري منذ ولادته وحتى اللحظات التي تخرج فيها أنفاسه الأخيرة.

 هذه الرواية مزيج متقارب زمنيا ومتواصل، ويربط بين هذه الأزمان المتباعدة خيط شفاف ومتين في الآن نفسه يجعل الرواية التي تتكون من سبعة وثلاثين فصلا تكوّن بناء" معماريا متناسقا محملا" بمشاعر الإنسان وضعفه،وفرحه، وآلامه، وحبه، وعنفوانه الذي يصل إلى درجة الدمار والقتل لأخيه الإنسان.وتتنوع أحداث الرواية وتتشابك فيما بينها لتصوغ عملا إبداعيا قل نظيره على المستوى الروائي والإبداعي.

 ويمكن أن نطلق على هذه الرواية: الرواية الحديثة أو الرواية المستقبلية لأنها اعتمدت تقنيات السرد الحديث وما يتبع ذلك من مخترعات وعلوم وتطور في شبكة الاتصالات والسيارات الطائرة ، والهواتف النقالة والعولمة والشرائح الممغنطة التي يمكن أن نخزن عليها مئات الآلاف بل الملايين من الكتب مع أن حجمها لا يزيد عن خمس سنتيمترات.

 ولا يمكن أن نتجاوز العتبات السردية في هذه الرواية فالعنوان:(الإسكندرية 2050) وهو العتبة الأولى يؤكد التلازم بين المكان والزمان واذا كان المكان معروفا لدينا فان حوادث الزمان مجهولة لأنها تحدث في زمن قادم لم يأت بعد.والإسكندرية كما عرفها الراوي ببحرها وناسها ومنارتها وجامعاتها ونسائها وصياديها وشوارعها موجودة وماثلة أمامنا ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هل ستبقى الشوارع هي الشوارع والنساء هن النساء.
 يرسم الراوي صورة للإسكندرية عام 2050 وقد تبدلت معالمها ومسحت حاراتها وتحولت عماراتها إلى ناطحات سحاب،كل ذلك حدث بعدما بيعت الأرض وما عليها لشركة صينية.

 وفي رواية الإسكندرية 2050 يحلم صبحي فحماوي بالإنسان الأخضر وهو وان سرد في روايته أحداث ثلاثة أجيال:الجد-مشهور والابن: برهان والحفيد:كنعان.إلا أنه وضع الأمل كله بالحفيد وهو إنسان أخضر نتج عن عملية دمج خلية حيوانية مع خلية نباتية بعد تطوير جينات الوراثة من قبل الأب برهان في أحد مختبرات ألمانيا في المحطة الدولية الفضائية للأبحاث، والتي كان اسمها سابقا محطة مير.

 والحيوان النباتي (الأخضر)لا تعتمد حياته على غريزة القتل بل البقاء من أجل الحب وليس الصراع من أجل البقاء (ص123) فالجيل الثالث( كنعان) وهو جيل قادم بحسب الرواية ويتخلص من تكاليف الحصول الطعام والفضلات والكون.

 ومع مجيء الحيوان الأخضر يتبدّل المثل القائل :إذا لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب، إلى قول الأديب ( صبحي فحماوي ): الإنسان مفكر مبدع جميل،وفنان محب ورفيق بإخوانه؛ الإنسان والحيوان والنبات. فالروائي يأمل أن يعمّ السلام الأرض وتشيع المحبة بين أبناء البشر. 


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى