ياااااه
يااااه!...
ها هو الآن بعد هذا العمر، يهيم في الشوارع بلا غاية، وقد حاصره ذلك الوجع الذي يصادر كليتيه..بينما الناس يزحفون في نشاط مريب، كان يبدو من بعيد، كمثال يمجد الموت..تفكيره الآن، منحصر في البحث عن الاستراحة..بمجرد ما بدت له مقاهي ساحة "أودان"، زحفت به خطاه الى إحداها، استسلم لأول مقعد، ويده الوفية تدلك عضلات ظهره عساها تخفف من حدة الألم..وها هو أيضا، يمسك بقلمه تدفعه رغبة الكتابة التي طفحت في هذه اللحظة المتشنجة..وانتبه أخيرا، الى العابرين من حوله، راودته في غفلة، تلك الأسئلة المبهمة التي عشقته منذ الصبا..(ترى الى أين يزحف كل هؤلاء؟..هل يتألمون مثلي؟..هل تخامر أحدهم رغبة الموت؟..) وأسئلة أخرى تسترسل كلما توحد بالوجع والتيه..لا شيء أشد على المرء من مصيبة الموت، لكن الموت أحيانا، يختصر كل المواجع، فيبدو كما الأمل، يتوق إليه المرء في مثل هذه اللحظات المستبدة..هنالك فقط، يتوحد اليأس بالأمل..
(أكتب..لا شيء يحوي الجنون سوى الكتابة..) تردد صدى هذه الجملة في أعماقه المهجورة..التفت حواليه كمن يبحث عن مصدر الصوت، وقد بدت على وجهه ملامح الخائف..وسرعان ما أدرك أن الصوت ينبعث من جوفه المتصدع.. انكمش.. تقلص..سد أذنيه مقاوما الصدى، ولكن بلا جدوى، فاستسلم ممغنطا لهول الصوت.. (أكتب عن جسدك المهترئ بالمواجع التي تنبت في كل حين، أوراما تتكاثر في أحشائه..أكتب عن نفسك التي ترفض الاطمئنان..اسألها لماذا ترنو دوما، الى العزلة كي تهيم وحدها في الفضاءات المقفرة، ثم تستسلم لمصيبة الاضمحلال)..
يااااه!...
كم يتلذذ الزمن ألمه واغتيال كل الأشياء الجميلة فيه؟..كلما رنا قلبه الى نفحات الفرح، يصادره بهول الخطب، ثم يسلمه قربانا لقوم يعشقون وصفه بأرذل الأوصاف، يشكلونه قذارة تمقتها كل المخلوقات..ينعزل وحده كي يستسلم مرة أخرى، قربانا لهول الاضمحلال..
الزمن وحده الفاصل في المواجع، يمتصها ويزرع بدلها نعمة النسيان، لكنه يأبى تحريره، يرفض امتصاص وجعه، ويصر على نحته في كبده والذاكرة ليزوره في كل حين..ويصر أيضا، على بعثه خطيئة أزلية تتكرر قهرا عبر الأزمنة، تتقاذفها أقدام أولئك الذين يتلذذون بوصفه بأرذل الأوصاف، ويشكلونه قذارة ممقوتة تتنابزها الألقاب..ينعزل وحده للمرة الألف ويستسلم لفجيعة الاضمحلال..
(أكتب..لا شيء يحوي الجنون سوى الكتابة)..عاد الصوت مرة أخرى، ليرميه في جوف التعاسة..يتقلص أكثر، يبدو من بعيد كقذارة تثير اشمئزاز العابرين..مازالت يده الوفية تدلك ظهره، وأذناه ممغنطتين لهيمنة الصوت..(لماذا هم الصواب دائما، وأنت الخطأ؟..تستقبل نظراتهم المريبة كسهام طائشة تدمي الإنسان فيك، تدنسك، تحتقرك، تقلصك، وقد تشكلت على وجوههم ملامح القرف تذكرك بأنك القذارة وهم الطهر، سرعان ما تتسلل الى حيث الاعتكاف وهول الاضمحلال؟)..ذلك "القهواجي" المزعج انتصب أمامه كالصنم..أسرع الى طلب أي شيء كي ينفيه من لحظته، وانغمس في جوفه مغازلا الصوت الذي اختار الصمت..اندفع واقفا، وزحف في نشاط مريب، تجرفه خطاه الى حيث لا يدري مثل العابرين من حوله تماما..
يااااه!...
لقد وصل بسرعة الى ضفاف المدينة..ها هو الآن، يقف وسط ذلك الجسر المعلق، يبدو كتمثال يمجد الموت..
(أكتب..لا شيء يحوي الجنون سوى الكتابة)...