السبت ٦ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٧
«رجال ريا وسكينة» لصلاح عيسى:

ملحمة من وثيقة وتاريخ

عناية جابر

في عمل توثيقي ضخم، هو الاول من نوعه بشأن رسم شجرة «عائلة همام» التي تنتسب إليها الشقيقتان: ريا بنت علي همام، وسكينة بنت علي همام، نجح الكاتب والصحافي والباحث في التاريخ صلاح عيسى، في إعطاء مؤلفه: «رجال ريا وسكينة» الصادر عن «دار الاحمدي» القاهرية كل خصائص الرواية. بل اننا في قراءتنا: «رجال ريا وسكينة» السيرة السياسية والاجتماعية، رواية منجرة، مذهلة الى حد، ولا تترك لك على ضخامتها، أن ترتاح الى قراءات اخرى ما عداها.

رواية مذهلة، يتدخل في ذهول القارئ إليها، ليس السرد فحسب، أو التوثيق المجهد والبارع والمتابع لكلة التفاصيل، أو النفس الروائي الرشيق والحساس للكاتب، بل يتأتى الذهول برأينا، بالاضافة الى كل ما ذكرنا، من فضول القارئ الجارف، الى معرفة أدق تفاصيل جريمة العصر، بعد سماعه تواتراً وشفاهة عنها، وبعد مشاهدته للعروض السينمائية والمسرحية التي جعلت لأجلها، وحاولت الى مقاربة جرائم الشقيقتين اللتين وصفهما عام 1921 الكاتب عباس محمود العقاد، بأنهما من أصحاب النفوس الميتة.

ريا وسكينة؟ من يجهلهما أو يجهل فعلتهما، وإثرها دخلتا التاريخ، باعتبارهما رمزاً للشر المجرد. الكاتب صلاح عيسى في كتابه أو جديده وقد مضى على إصداره زمن لا بأس به يرهق أيدينا فعلاً، في رغبتنا الليلية الى متابعة كتابه نحمله الى أسرّتنا ويشحذ خيالنا وفضولنا الى سيرة حياة الشقيقتين، التي لم يعن أحد من المؤرخين قبل عيسى، بتقصي حقيقة ما نسب إليهما من جرائم، أو بالبحث عن الدوافع التي قادتهما الى ارتكابها، حتى صدور «رجال ريا وسكينة» لعيسى، محاولته الناجحة الى «نبش» السيرة الحقيقية لـ«ريا» و«سكينة» ولكل من أحاط بهما من رجال ونساء، والظروف السياسية والاقتصادية العامة التي رافقت ارتكابهما فظائعهما المتتالية، مستنداً عيسى الى وثائق تاريخية، وليس الى مرويات الخيال الشعبي الذي أسقط عليهما كل كراهيته وازدرائهما لأنهما وبشكل أساس، قد خانتا علاقة العيش والملح التي يقدسها المصريون، بالاضافة الى جرائمهما.
صلاح عيسى كان نشر سبعة عشر كتاباً في التاريخ والفكر السياسي والاجتماعي من أبرزها «الثورة العُرابية» و«حكايات من دفتر الوطن» و«مثقفون وعسكر» و«البورجوازية المصرية وأسلوب المفاوضة» و«دستور في صندوق القمامة» وكلها وجدت قراءها ومتابعيها، في مصر والعالم العربي، سوى ان نجاحه الباهر في «رجال ريا وسكينة» متأت من حافزه المحموم والهادئ في آن، الذي صرفه في تقصي ما جرى للشقيقتين القاتلتين خلال نصف القرن الذي عاشتاه، قبل أن ينفجر اسماهما في سماء مصر كالقنبلة، محاطاً بالدماء والاشلاء والغبار، وبالدموع والصرخات والعار.

في سرد عيسى، تخلقت أمامنا كقراء، صورة حية لابنتي «علي همام» منذ طفولتهما، بلا ملامح أو ذاكرة، سوى ملامح الفقر والعوز والجوع حتى شبتا وغادرتا مسقط رأسيهما في «الكلح» في أقصى الجنوب بالقرب من أسوان، متنقلتين في خط سير طويل بين القرى والعزب والكفور، باحثتين عن اللقمة ومنتهيتين الى الاقامة في الاسكندرية، حيث البحر وأضواء الكهرباء والشوارع الواسعة النظيفة والخبز الطري.

في حارة النجاة

ريا وسكينة أخيراً في «حارة النجاة»، في أضخم عملية قتل للنسوة، كلهن مارسن البغاء بمن فيهن ريا وسكينة ـ ما يوثق لسبع عشرة جريمة أو عملية قتل، دفنت جثثهن في غرف سكنتها الأختان.

الصحف المصرية التي عاصرت بروز اسمي الشقيقتين كمجرمتين، لم تقصر حينها في إشباع فضول المصريين، إلا أنها لم تقصر كذلك في نشر كثير من الوقائع المغلوطة أو الناقصة أو المختلقة، من إحساس عميق بالعار مما ارتكبته ريا وسكينة كان يتخلل أو يلطف روايتها للوقائع التي دلت على نقص الرقي الاجتماعي للمصريين ـ نظراً لوقائع الجرائم المخزية حينها ـ وان صدقها أو كتابتها بحرفيتها كانت لتستغل وتدلل على عدم كفاءة المصــــريين المطالبين وقتذاك بإلغاء الحماية البريطانية على بلادهـــم، وبيــن غلاة المستعمرين، حول هذا الموضوع تحديداً.

خفايا عالم مرعب سطره صلاح عيسى، عن أعتى قاتلتين في مصر مستنداً الى الوثائق والبلاغات وتقصي الحقائق، مبتعداً عن طقوس القتل المضللة التي لجأ إليها العامة وتناقلوها في مبالغات خيالية أضافت لتاريخ الحدث ما لم يحدث فيه كأن يتم اختيار الضحية، اصطحابها الى البيت، خنقها، تمزيق جثتها الى أجزاء وحرقها في الفرن الكبير، ودفوف الزار التي كانت تغطي على أصوات استغاثات الضحايا حتى لا تصل الى نقطة البوليس أمام دار ريا وسكينة. أما عيسى ففند الكثير من الخيال الذي جمح بالمرويات، الى التماهي مع جرائم مروعة حصلت في الغرب، كجريمة السفاح الفرنسي «هنري لاندرو» الذي تجمعه بكل من ريا وسكينة، مشابهات منها انه كان مثلهما متخصصاً في قتل النساء فقط، ومنها انه كان معاصراً لهما، فقد اكتشفت جرائمه في صيف عام 1919 وقبل شهور قليلة من دخول الاثنتين في قدرهما الذي قضى عليهما، مشتركتين ومذنبتين في جرائم قتل.

الحرب العالمية

في قراءة صلاح عيسى لملف الجريمة، اكتشف حقيقتين إضافيتين تقول إحداهما إن كل رجال ريا وسكينة الذين تم على أيديهم فعل القتل في كل الجرائم المكتشفة كانوا ممن شاركوا في الحرب العالمية الاولى ودعموا جهود الحلفاء بالخدمة في الخطوط الخلفية لميادين القتال، والحقيقة الثانية ان شركة «رجال ريا وسكينة» كانت تنشط في مجال اقتصادي محدد، هو تنظيم الدعارة السرية، وان معظم ضحاياهم كانوا من الداعرات اللواتي يبعن أجسادهن. مهمة عيسى هنا، اختلفت عن مهمة المحققين والقضاة، بإعادة بناء سيرة كل شخصية من الشخصيات الرئيسية (ريا، سكينة، حب الله، عبد الرازق، عبد العال، عُرابي) بحيث تسلسلت بشكل زمني مفهوم، منطلقا من دوافع نشأة وتطور المشروع الاجرامي الذي جمع بينهم، والظروف التي أدت لفشله وانكشافه، ما قادهم الى أعواد المشانق.

من الوثيقة الرئيسية اذاً، التي اكتشفها عيسى بصدفة محضة، ومستفيداً في ما بعد من كل ما تضمنته من حقائق، وضعها في فهارس خاصة تعتني بما أثبتته الوقائع، وما قاله الاعلام وما حكاه ناس تلك الاماكن، أمكن لعيسى بعد جهد طويل (البحث عن الشهود الاحياء، والصور الفوتوغرافية والوقائع، والبلاغات المقدمة للأمن، وأنساب الضحايا وسوى ذلك) إعادة تخليق زمن الواقعة، بمبانيها وأزيائها وتقاليدها ورسوم أبطالها المباشرين وغير المباشرين.

لا تخلو الرواية من بعض الهفوات الطباعية، كأن تطبع سلسلة من الأوراق بشكل مقلوب، أو يطيش السرد الى مناح خارج السياق، أو تغلب عملية التوثيق على الاسترسال في وصف حيوات الاختين القاتلتين، سوى أن عيسى برفضه لجماليات الخيال الشعبي الذي اعتمد في تناقل «المجزرة» وبتركيزه على ما يشبه الرواية السيكولوجية لصالح كشف النقاب عن الدوافع، منح روايته أبعاداً ثقافية جيدة، منحتها شرعيتها ورغبة القراء في قراءتها، وتعلمنا منها أشياء عن ذلك العصر، سياسية واجتماعية واقتصادية وقفت جميعها خلف الاحداث، بل وأادت إليها.

عناية جابر

عن السفير - لبنان


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى