الاثنين ١٤ حزيران (يونيو) ٢٠٢١
بقلم أحمد الخميسي

21 كـلـمـة عـلـى شـرف ايـفــلـين بـوريــه

كنت أود من صميم القلب لو أن قلمي كان سلاحا أضعه على كتفي، وأقف بتواضع في طابور حرس لأصوب 21 كلمة على شرف ايفيلين بوريه التي فارقتنا في الأول من يونيو الحالي عن عمر ناهز الثمانين عاما قضت منها نحو نصف قرن بين الفلاحين المصريين في قرية "تونس" النائية بالفيوم. هناك ظلت بدأب وحب تعلم الفلاحين وأبناءهم كيف يحولون الطين إلى تحف فنية والخزف إلى أشكال ساحرة. حسب وصيتها دفنت ايفلين وهي السويسرية في القرية المصرية مع فلاحين بسطاء عاشت معهم ولأجلهم أنشأت مدرسة لتعليمهم الحرف الفنية، عاشت ايفلين في القرية السنوات العشر الأولى على لامبة جاز من دون كهرباء أو ماء نظيف أو أي مظهر من مظاهر المدنية! وظلت تعلم الفلاحين بدأت وحب وإصرار، وأتقنت اللهجة المحلية، وكان الفلاحون ينادونها بالست"أم أنجلو". وعلى مدى نصف قرن لم تظهر إيفلين ولا مرة على شاشة تلفزيون أو في برنامج أو صحف أو مراكز ثقافية ولا سمع أحد صوتها عبر الأثير، وكانت إذا طلب منها أحد حوارا تقول:"تكلموا مع أولادي. أنا مش لازم". ومثلما يحدث دائما، سوف تختفي تفاصيل حياة تلك السيدة الرائعة، وسيبقى فقط مغزى حياتها حين تمسي حياة الآخرين هي حياة المرء، وسعادتهم سعادته. أنهت ايفلين جامعة جنيف قسم الفنون التطبيقية في بلدها سويسرا وجاءت إلى مصر في الستينيات مع والدها الذي كان يعمل في الكنيسة السويسرية بالقاهرة، وتعرفت إلى الشاعر سيد حجاب وتزوجته رغم أنه كان فقيرا لا يملك شيئا، وسرعان ما تم اعتقال حجاب مع الأبنودي وصلاح عيسى وآخرين في سبتمبر 1966، وتمكنت ايفلين وحدها من نقل رسالة إلى جان بول سارتر خلال زيارته للقاهرة عام 1967 تطلب منه التدخل لدي عبد الناصر للافراج عن المعتقلين، وكانت وحدها من يستطيع القيام بتلك المهمة لأنها أجنبية لن ينتبه إليها رجال الأمن عند مصافحتها سارتر.

وبالفعل تم الإفراج عن المعتقلين، وصارت ايفلين أسطورة بين المثقفين. وسرعان ما انفصلت عن حجاب لتتزوج من الفرنسي ميشال باستوري الذي عاش معها حتى النهاية في القرية ذاتها، ومنه أنجبت ابنها"أنجلو"وابنتها. وظلت تعلم الفلاحين حرفة الفخار والخزف وتساعدهم حتى أصبح للغالبية منهم ورشة خاصة، وأسهمت ايفلين في تحويل القرية النائية إلى مقصد سياحي عالمي. ولكم تبدو قصة ايفلين الآن ونحن نحكيها بسيطة وقصيرة ولكم كانت في الحقيقة شاقة وطويلة، مثل قصة الدكتور المصري أشرف عمارة الذي توفي في مارس العام الماضي في كينيا فجاء في نعي الشعب الكيني له :"إنه يوم حزين للغاية فقد فقدنا الطبيب الذي رسم البسمة على شفاه أطفالنا"، بعد أن أمضى د. أشرف قرابة 15 عاما في كينيا ليعالج الجميع، وبعد أن نقل خبراته في الجراحة إلى تلاميذه في الصومال وأوغندا وجيبوتي.

لقد اختار هو الآخر أن تكون سعادة الآخرين سعادته، وعندما تختفي التفاصيل سيبقى من د.
مغزى حياته، كما توارات تفاصيل كثيرة بشأن حياة ومصرع جيفارا في أكتوبر 1967 في بوليفيا وبقي فقط مغزى حياته الذي لخصه هو بعبارة بليغة حين قال:"وطني هناك أينما كان الظلم". لم تنشغل ايفلين بوريه بالشعارات الثورية، لقد قررت أن تقوم بعمل صغير بسيط، ونافع، ومؤثر، وبجهد صادق من دون تمويل، وبفضل ذلك التواضع والاخلاص وحب الآخرين كنت أود من صميم قلبي لو أن قلمي كان سلاحا أضعه على كتفي وأقف بتواضع في طابور حرس لأصوب 21 كلمة على شرف ايفيلين بوريه لحظة وداعها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى