الأحد ٢٨ شباط (فبراير) ٢٠١٠
بقلم صبحي فحماوي

«أرض البطولات»

لعبد الرحمان الباشا

أرض البطولات، لعبد الرحمان الباشا رواية تاريخية تعرض قصة كفاح شعبنا ضد المستعمر الفرنسي. ليس فيها من خيال القاص إلا ما يربط بين الوقائع، فزمنها هو ربع القرن الذي أعقب الحرب العالمية الأولى، ومكانها هو تلك الربوع الشامية، وأشخاصها مواطنون معروفون. وقد كُتِبَتْ هذه القصة بلغةٍ فصحى.

المجاهدة رتيبة من قرية «داريا» هي بطلة هذه الرواية، بمفهوم عبارة بطلة، وهي أرملة الشهيد "أبي عبادة" الذي هو من قرية «حرستا»، كان عمره خمسة وعشرون سنة، عندما خطبها وهي في الرابعة والعشرين من عمرها. دهم البلاد غول فرنسي، فنودي للجهاد، فامتدت يد العريس الشهمة إلى المال المجموع بقطرات العرق، واشترى بندقية وعتاداً..«وفي24 تموز 1920 وهذا التاريخ أخذته من خارج النص» زحف الجيش الفرنسي بمائة ألف من جنوده المدججين بالأسلحة المتطورة، تدعمهم الطائرات، ووقف يوسف العظمة وسط معركة ميسلون ، بينما قبع «غورو» وراء أسوار قصره في عاليه.استشهد يوسف العظمة ومعه المجاهد أبو عبادة..انتصر جيش فرنسا الجرار على أصغر دولة في العالم. وعند ضريحه العظيم، قال غورو: ها قد عدنا يا صلاح الدين!

رفضت الأرملة أم عبادة أن ترحل مع أخيها، ليعولها هي وابنها في بلدتهم «داريا»، وأبت أن تتزوج، وما زالت في الخامسة والعشرين من عمرها. وصمّمت أن تهب نفسها إلى ولدها. وباعت قرطها الذهبي، واشترت نولاً، وأخذت تصنع عباءة وتبيعها، لتنفق منها..

تتفجر في الشمال ثورة “ابراهيم هنانو” الذي كان رئيس ديوان محافظة حلب، فأحرق مفروشاته، ودمر ثرواته، لينسلخ عن طبقة الأغنياء، ثم قاد الثورة في الشمال، فحرر مدينة (كفر تخاريم)، وعَيّن حاكماً لها، يسوس الرعية، ويجبي الأموال لتزويد المجاهدين بالمؤونة والعتاد، وتكامَلَ مع مجاهدي دمشق والجنوب.

الدروز من «بني معروف» توحدوا مع الدمشقيين في المقاومة، فتم تحرير جبل العرب..

وعلى صعيد آخر، أخذ الطفل عبادة يخرج إلى الباحة الصغيرة، وكان في جملة ما سمعه من أترابه كلمة بابا، وعند ذلك بادر أمه سائلاً: أين (بابا) يا أماه؟ فقالت له: بابا مسافر.

تنجح الثورة في إعلان حكومة عربية جديدة في سوريا، وتتواصل معارك المجاهدين في الغابات التي أضعفت مسالكُها الوعرة جيوشَ الفرنسيين، ومزقتهم في معارك الغوطة، وقررت الثورة تحرير دمشق..

تشارك رتيبة بنقل الرسائل والأسلحة إلى ثوار دمشق المطوقة، وذلك بسلال الخضار وبين العباءات التي تبيعها، وذلك بالتعاون مع الحاج بائع الصعتر والصابون القادم من جماعة ابراهيم هنانو في الشمال، وذلك لتثأر لشهيدها الغالي، وتنتقم لابنها من الذين يتموه.

تبدأ عملية سيطرة الثوار على دمشق، حتى تتم محاصرة الفرنسيين داخل بؤرة دمشق، وبوابة الصالحية، ولكن الفرنسيين الفاشلين يهاجمون دمشق بالطائرات، ويدكونها بالمدافع من ذرى قاسيون، فتستسلم المدينة مرّة أخرى، وينسحب الثوار منها إلى دوما، حيث يشكلون حكومة لهم هناك. تستمر الأحداث إلى أن تعتقل أم عبادة، ويحكم عليها بالإعدام، ولكن خروج زكريا، ضابط السجن عن ذاته، وانتماءه إلى الثوار، جعله ينقذ أم عبادة من الإعدام، ويهربها من السجن.

رواية أرض البطولات« قصة» لعبد الرحمن الباشا، فازت بمسابقة وزارة التربية والتعليم في زمن الوحدة السورية المصرية. «الجمهورية العربية المتحدة» هل يوجد اليوم مسابقات للرواية في وزارات التعليم في الدول العربية، خاصة التي تشجع الأدب الملتزم بقضايا الوطن، مثلما حصل مع هذه الرواية؟ أعتقد أننا نعيش مرحلة تخلف ثقافي، مقارنة مع سباق الأدب الموجه والمسيس في العالم، خاصة في النظام الرأسمالي الاستعماري الغربي، يتبعه زيادة في عدد المواطنين الأميين في الوطن العربي، حسب الإحصائيات.

مفهوم «قصة» كان بديلاً لمفهوم «رواية» في تلك الأيام، فرواية زينب لمحمد حسين هيكل كان مكتوب عليها: نشرت هذه «القصة» عام 1914،ولم يكتب: «نشرت هذه الرواية » والتي هي ليست أول رواية عربية، فأول رواية عربية كانت سورية على ذمة «جمال شديد» الذي ذكر أن أول رواية عربية كانت سورية بعنوان«وي، إذن لست بإفرنجي»لخليل خوري، وصدرت عام 1859.

فكلمة «رواية»بدأت في التاريخ العربي للشعر.. ورواة الشعر جعلونا نحفظه حتى أيامنا هذه. وبعد ذلك انتقلت الرواية إلى الحديث النبوي الشريف، فرواة الأحاديث إنما يروون «روايات أحاديث نبوية شريفة». وبعد ذلك انتقلت الرواية إلى المسرح، فكنا نقرأ عناوين «روايات شكسبير» وكانت إذاعة لندن تعرض في برامجها روايات تحت مسمى «روايات شكسبير». وعندما حطم الشعراء الحداثيون شعرنا العربي الأصيل، دالت رواية الشعر «ديوان العرب» وصارت رواية «الرواية» بمفهومها الحديث «ديوان العرب». وكلمة رواية في رأيي المتواضع، تصف الأدب المسيطر- إذا جاز التعبير-..واليوم أهم فنون الأدب المسيطر، والذي يتابعه القراء، ويشترونه في معارض الكتب بنسبة أكبر، هي الرواية.

الرواية تاريخية: يقول عبد الرحمن الباشا في مقدمته: هذه (القصة) ليس فيها من خيال القاص إلا ما يربط بين الحوادث..وأشخاصها مواطنون معروفون، وفيها وصف دقيق للمواقع العسكرية إذ يقول: " وانقسم المجاهدون إلى فرق ثلاث، تدخل أولاها دمشق من حي الميدان، وتدخلها الثانية من حي الشاغور، أما الثالثة...." معن ذلك أن الروائي يؤرخ لسوريا المناضلة، في الوقت الذي يدهشنا بروايته الفنية هذه.. ثم يقول:

"واشتدت وطأة البرد على الفرقة السنغالية من جند العدو.." وهذا توثيق تأريخي للمرتزقة في جنود الفرنسيين. وما تكشف أخيراً من أن نسبة كبيرة من جنود فرنسا في الحربين العالميتين الأولى والثانية، هم مغاربة عرب..هذه الفضيحة الوطنية كان الباشا سباقاً في كشفها، في هذا السرد التاريخي الوثائقي الفني الروائي.الذي ندرت مواصفاته الجمالية.

وفي صفحة 212 يقول: "أُحرقت في المرة الأولى من قرى الغوطة: برزة، والقابون، وجوبر، والأشرافية، وجسرين..وجرمانا.ويستمر في التفصيل الوثائقي للحرائق.."

لقد نجح عبد الرحمن في تصوير معارك مترامية الأطراف أمامنا، وسرد تفاصيلها بلغته الجميلة وخياله الجامح. وميزة الرواية التاريخية، أن القارىء الشعبي يتعلم التاريخ، لا من المدارس والكتب الرسمية الصعبة التناول، بل يشرب تاريخه ببساطة تناول قراءة الرواية الممتعة المدهشة المسلية، وفي نفس الوقت الملتزمة المعلمة لما جرى للوطن...

وكنا نتمنى لو أن روائياً سابقاً، سرد لنا عبر روايات فنية ممتعة، كيف تمت تفاصيل معارك التاريخ العربي المجيد، مثل معركة حطين، ومؤتة، واليرموك، وأحد، وبدر، وغيرها، كما صور الباشا التفاعلات الشعبية والوطنية في مواجهة المحتل الفرنسي في معركة ميسلون، وما بعدها، وحتى التحرير. وهذا يؤكد حاجتنا الماسة للرواية التاريخية التي تصور تاريخنا بإيجابياته وسلبياته، وبانتصاراته وهزائمه، تصويراً صادقاً غير مزور.

يقول د. “عبد الملك مرتاض” في كتابه «في نظرية الرواية- صفحة 31-»:

" في مرحلة كانت الرواية غير واثقة من نفسها، ولا موقنة من جماها الفني، وسلطانها الأدبي المثير، تعوِّل تعويلاً شديداً على أحداث التاريخ، مما حمل “بلزاك” على عد الرواية حليفاً للتاريخ. بيد أن «فولكنير» عارض هذا المبدأ واعتبر أن جنس الرواية إبطال حتمي لمسار التاريخ. لأنها تجعل من الشخصية كل شيء في العمل السردي الروائي." نحن نتعلم من هذين النقيضين دون تعليق.
أسلوب السرد في الرواية سلس وممتع ومدهش، ومرسوم بدقة. والحوار محكم ومترابط وجميل، ويوصل الفكرة بسهولة، ويدفعك إلى المتابعة بتشوق.. فعبادة يقول لأمه في (ص99):

 - كيف تقولين يا أماه: إن أبي مسافر؟ فتجيبه موقنة:

 نعم إنه مسافر يا عبادة، لقد استشهد وسافر إلى الجنة.. ثم يسرد قائلاً:

«غفا عبادة على أحلام يومه الأسود، منكسر الفؤاد محزون النفس..» وهنا نلاحظ أن السرد يرسم أجمل اللوحات الفنية، وأن الحوار يساعد في سبر أغوار في الرواية، ما كان السرد ليوصلها بهذه الكفاءة التي أوصلها بها حوار هذه الرواية المتقن.

كثيراً ما يضعنا السارد في مواقف دراماتيكية، في سرد روايته، فيوترنا بحدث جلل، مثل اعتقال القائد إبراهيم هنانو، بينما هو يفاوض المحتلين الفرنسيين في الشمال.. ويشدنا ويوصلنا إلى أزمة خانقة، قمة التوتر خوفاً على مصير القائد، ثم يريحنا بحل قادم من الثوار الذين انقضوا على الموقع، فانتشلوا قائدهم من شرك نذالة المستعمر، الذي لا عهود له.... وأحياناً يسرد لنا مُسهِّلاً الكسب في المعركة، فنرتاح ونفرح لقرب التخلص من هذا العدو الغاشم، وفجأة يدخلنا في فخ قاتل، إذ يسيطر الفرنسي المحتل، فيرتفع ضغط القارىء، وتتوتر أعصابه، ويحزن، ويتفاعل مع المظلومين من أبناء الوطن، وفي النهاية يأتي الفرج، وينهزم العدو، فيرتاح القارىء ويفرح لفرح المظلومين.. إذ يقول: ص 137: " ثم ما لبثوا أن اصطدموا بفرقة دبابات العدو الضخمة.. وأيقن الحاج ومن معه أنهم هالكون لا محالة..ثم حدثت المعجزة التي رجاها الناس، فتساقطت على الدبابات عشرات من كرات النفط الملتهب. فانفجرت محركاتها بمن فيها..وشق الأبطال طريقهم بين الأشلاء.. لاحظ الدراما.. الشد والجذب في السرد المنسوج بقلم فني رشيق، والذي يخلق التوتر، ثم ما بعد الضيق إلا الفرج..

وأكثر المفاجئات المذهلة في الرواية، هي استشهاد الضابط عبادة، فتروح أمه تبكيه وتقول:

" لم يتح لي أن أشهد دفن أبي عبادة..ولم يتح لي اليوم أن أشهد دفن عبادة!" فيحصل إحباط لدى القارىء، من جراء هذا القدر الأعمى.. وما هي سوى لحظات، حتى تأتي البشرى بأن عبادة حي، وهو في المشفى.. صحيح أن طريقة المعالجة لاستشهاده، ثم اكتشاف أنه حي في المشفى كانت ضعيفة في رواية واقعية، ولكن القارىء، يقبل الحوادث غير المحبوكة جيداً في الرواية، لأنه قد قبل منذا البداية كونها رواية، وليست أحداثاً يعيشها على الأرض.

ومن الأساليب المؤثرة دراماتيكيا، هي استشراف المستقبل، إذ يقول في صفحة(58): "وعلى أيديهم سيكون الثأر، وعلى شفرات سيوفهم، ستسيل نفوس الطغاة المعتدين." فهذه العبارة تشدك، وتجعلك تتابع ما سيحصل، بترقب وتلهف.!

برغم كون الأحداث في الشمال وفي الوسط والشرق والغرب السوري، إلا أن الروائي المتمكن من أدواته، يربط شخصيات الرواية مع بعضها في عمود فقري واحد هو المناضلة أم عبادة، زوجة الشهيد أبو عبادة..إذ يقول: كانت أم عبادة من بين قاذفي الكرات.ثم يقول ص 151:

" وهبت رتيبة وغير رتيبة يهيمون في أزقة (جوبر) يستنهضون الهمم.." ويقول:

" ثم فكرت وقررت إرسال الذخيرة بالجرار المغلقة التي تطفو في «نهر بردى» باتجاه الزور.فيستلمها المجاهدون."

وتستمر أم عبادة في نضالها طوال أحداث الرواية، حتى بعد دخولها السجن، والحكم عليها بالإعدام، وبرغم الأمر القيادي لها بالتوقف عن الجهاد، والتفرغ لتربية ابنها، إلا أنها ترفض التوقف، وتقرر مواصلة المسيرة الثورية للنهاية." 

مع السرد يثير الكاتب أسئلته فكرية وفلسفية، من خلال الأم رتيبة:

" ماذا كان يضير القدر، لو أنه أبقى لهذا الصبي الصغير أباه؟"

" ما الذي فعله هذا الطفل، حتى يهصر قلبه الأسى؟"

"هل كان شؤماً على أبيه، الذي استشهد قبل أن يولد ابنه؟ "

وبذلك يثير قضايا ثقافية، فكرية وفلسفية، تشغل فكر القارىء، وتضطره للتفكير، والمناقشة وإعطاء وجهة نظر مغايرة لما تعود عليه..
يتكرر في الرواية تعبير "المجاهدون" واليوم فرض الجهاد لمقاومة المحتل ممنوع، حتى بقرارات منظمة المؤتمر الإسلامي، وعلى العكس، تحولوا إلى مفهوم جديد في الماكنة الإعلامية الغربية، لتقول عنهم " إرهابيين"، ويا للمفارقة !
تبدأ الرواية بوصف جماليات الشام، ومتعة الحياة الدمشقية، بعد تخلصها من حكم الدولة العثمانية، وانتصار حلفاء سوريا الغربيين في الحرب العالمية الأولى، إذ يكتب السارد:

" كان الليل ساجياً، وأغصان الصفصاف تتدلى على ضفاف بردى.. وكانت دمشق تهجع في أحضان هذه الفتنة الحالمة.."

وفوراً ودون إطالة، ينقلك من النعيم إلى الجحيم، مثل تسونامي أندونيسيا. ويا فرحة ما تمت..! إذ انقضت جيوش الجنرال (غورو)، المعسكرة في عاليه لاحتلال سوريا.! وتقع معركة ميسلون..فتشدك للمتابعة، ولا تدعك تترك الرواية، إذ أن كثيراً من القراء يتركون الرواية السخيفة أو المملة، بعد عشر صفحات، أو عشرين صفحة من القراءة.

كان عبد الرحمن الباشا يدرك الدراما والشد والتوتر الذي هو من مواصفات الرواية المدهشة. وكان يدرك الدخول في الأحداث الساخنة منذ بداية الرواية، كالقنبلة في باب البيت، كي يضطر القارىء للتورط في القراءة حتى النهاية، ومن ذلك أنه بدأ روايته بمعركة ميسلون الشهيرة.. وهذا ذكاء في الأسلوب السردي.

شخصيات الرواية أبطال، بمفهوم البطل، الذي استبدلناه اليوم بعبارة «الشخصية»، فلا أبطال في عصر الواقعية الحديثة. فأبطال الروايات يجري تقديمهم اليوم بشخصيات متشظية، ذات أفكار وسلوك متناقض أحياناً، وهذه هي حقيقة الشخصية.. والبطولة المثالية أو المطلقة ليست حقيقية.. فالبطل هنا كأنه ملاك، إنه يصيب ولا يخطىء، ولكن الشخصية تصيب وتخطىء، ولذلك سيطر اليوم مفهوم «الشخصية»على مفهوم «البطل» في الواقعية السحرية أو الواقعية الحديثة..

وأم عبادة هنا (بطلة) بكل أبعاد البطلة. تصيب ولا تخطىء، تفعل فتنجح، وتخطو فلا تُلام، وتقرر فلا تفشل قراراتها، وتدعوها قيادة الثورة للتفرغ إلى طفلها، فترفض، وتبقى ملازمة للثوار، مهما جرى لولدها، وهي المعيلة الوحيدة له... قد يكون هذا الفكر، هو أساس الدكتاتوريات التي لا تُناقَش، والتي حكمت منذ عهد ستالين، وحتى انهيار الاتحاد السوفياتي، فما بعد الدكتاتوريات إلا الفشل!

في الرواية مقارنات كثيرة، بين وقائع وأحداث وشخصيات قيادية، فالسارد «يقارن» وقوف القائد السوري “يوسف العظمة”، وسط المعركة، يضرم نارها، بينما يقعد الجنرال (غورو) وراء أسوار قصره في عاليه. ترى هل ما تزال عاليه....؟

يكتب في (صفحة 22):

" لقد خيل إليهم أن يوسف العظمة سيهزم غورو في ميسلون، كما هزم صلاح الدين الملك (غي) في حطين..." وفي (صفحة 75)يسرد:
" وعامل هنانو أسرى المعركة الفرنسيين، كما عامل صلاح الدين أسلافهم يوم حطين.."
وفي الرواية مقارنات كثيرة:

" يقارنهم بنيرون فيما أحرق، وهولاكو فيما دمر، وتيمورلنك فيما أراق من الدماء الطاهرة.." ثم يقول السارد في روايته:
"كان غورو يقارن بين انتصاره في ميسلون، واندحار سلفه نابليون أمام أسوار عكا!"

وفي كل مرّة يقارن نكث المستعمرين الفرنسيين لعهودهم واتفاقاتهم، بينما يلتزم المجاهدون السوريون بالمواثيق ! وهذا ما يتم اليوم مع المفاوضين الإسرائيلييين الذي ينقضون كل يوم اتفاقاً جديداً، ويبدأون يتفاوضون من جديد، لتحقيق مكاسب جديدة.
في الرواية بلاغة لغوية، وخيال جامح، ووصف جميل مؤثر في النفس بنوع من الرومانسية التي كانت ما تزال يومها مسيطرة، في كتابات جبران خليل جبران والمنفلوطي وغيرهما..إذ يقول:

" كانت أسلاك البرق الممتدة بين دمشق وعاليه تترنح تحت وطأة الإنذار.." وفي (صفحة 21) يقول:

" وبدت فروع بردى السبعة وكأنها مسايل دموع على خد المدينة المحزونة.." ويقول:

" فتلفت المسجد الوقور ليرى أولئك الوافدين، وأطلت مآذن الجامع الثلاث.." وفي صفحة أخرى:

" وكانت شمس الأصيل تلملم أذيالها لتتوارى خلف الأفق.."

"ترقد بلدة أريحا عروس مصايف الشمال آمنة مطمئنة تسند رأسها إلى سفح الجبل، وتريح جسدها وقدميها على السهل.."

خيال خصب، ولغة بليغة، ورسم جميل بالكلمات، ووصف تصويري جميل للقطار الذي أقبل من بعيد يهجم على المحطة هجوم المارد الجبار، وهو ينفث الدخان كثيفاً من منخره وكأنه ينفس عما يضطرم في صدره من غيظ..
توحيد دمشق وعاليه في العبارة:" كانت أسلاك البرق الممتدة بين دمشق وعاليه تترنح تحت وطأة الإنذار.." تؤكد وحدة البلد الواحد.
هناك تشابهات كثيرة بين ما سرده عبد الرحمن الباشا في روايته، أثناء احتلال الفرنسيين، وما يحصل اليوم على أرض العرب من فلسطين ودارفور والعراق ولبنان، وهذا يؤكد بعد نظر “عبد الرحمن الباشا” في طرحه للقضايا المصيرية العربية، ويؤكد النهج المستمر للعدوان على أمتنا العربية منذ انتهاء الدولة العثمانية وحتى اليوم..«وما بدلوا تبديلا»نذكر منه:

1.(ص 11 ) كانت أهم شروط الفرنسي المحتل على الحكومة السورية أنذاك:

" يتم تسريح الجيش العربي تسريحاً تاماً.." وهذا ما حصل ويحصل حالياً تحت الاحتلال الأمريكي للعراق، من تسريح للجيش العراقي،
" تنزل الحكومة العربية العقاب الصارم بخصوم فرنسا من أبنائها.." وهذا ما يحصل حالياً تحت الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، إذ يطلب من السلطة الفلسطينية حسب خارطة الطريق، القبض على المقاومين الفلسطينيين وسجنهم أو تسليمهم للعدو..!

1.الدروز من «بني معروف» توحدوا مع الدمشقيين في المقاومة، فتم تحرير جبل العرب... وليس غريباً أن يكون عميد الأسرى اللبنانيين سمير قنطار، من«بني معروف»هو أقدم أسير منذ 1979 في معتقل في سجن (هداريم ) الإسرائيلي حتى اليوم.. هذا يؤكد عمق ثقافة الباشا، وبعد نظره، ويؤكد أهمية التاريخ في استشراف المستقبل. 

2.حلف المفاوضون الفرنسيون بشرف فرنسا أن لا يصيبوا أحداً من المفاوضين بأذى، ولكنهم غدروا بهم أثناء المفاوضات واعتقلوهم..وهذا ما يحصل مع المقاومين الفلسطينيين الذين طلبت منهم السلطة تسليم أسلحتهم في بلدية نابلس، ووعدتهم بالعفو عنهم، وعدم ملاحقتهم إذا سلموا أسلحتهم، فلما سلموها، اعتقلتهم القوات الإسرائيلية داخل البلدية.

3.وبعثت فرنسا زبانيتها إلى تلك المناطق..وها هم المحتلون الإسرائيليون يستخدمون جواسيسهم هنا وهناك..

4.في صفحة 88 يقول: وأخرجوا أمهاتهم وأخواتهم ليشهدوا مصارعهم بأعينهم.. وهذا ما حصل ويحصل في غزة هذه الأيام، ومن قبل في دير ياسين، وكل المواقع التي تخضع للاحتلال الغربي.

5.قصف الفرنسيين لدمشق بالطائرات ودكها بالمدافع من ذرى قاسيون، يشبهه اليوم قصف الطائرات للمواطنين والمقاومين الفلسطينيين على السواء في غزة، والعراق وجنوب لبنان وحتى الصومال العزيز..

6.أرض البطولات، تصف الإذلال الذي يمارسه المحتلون على الحواجز...نفس الإذلال الذي يعيشه الفلسطينيون والعراقيون على الحواجز اليوم.

7.(في صفحة 156 يقول): (كان في وسعها أن تختفي وراء شجرة من أشجار الغوطة الباسقة، لولا أن الفرنسيين كانوا قد اجتثوا شجر هذه المنطقة، يوم أن سقطت في أيديهم..) نفس خلع الأشجار هذا يتم الآن في فلسطين.
في الرواية بث روح الشهامة والعزة والكبرياء: (ص 31) باتوا ليلتهم في ميسلون، يترقبون مطلع الفجر، ليخوضوا معركة، كانوا يرون أن التفكير في نتائجها عار... ثم يقول:

"وأضرموا مع الصباح نار حرب جعلوا وقودها أجسادهم.."

إذن هم يعرفون أن نتائجها خاسرة، ومع ذلك لم تسمح لهم كرامتهم الوطنية أن لا يدافعوا عن الوطن، مهما كانت النتيجة.

لاحظت شخصياً هنا، أحد أسباب اضمحلال المذهب الواقعي التقليدي، وهو أن السارد عندما يكتب الواقعية، فإن كثيراً من التصرفات تبدو غير منطقية، مثل انهماك رتيبة في يوميات الثورة والجهاد المقاوم، ولا تعود إلى بيتها إلا مساءً، بينما ليس لديها زوج، وهي الوحيدة التي ترعى طفلها عبادة، وهي الوحيدة التي تحصل على قوتها وقوت ابنها بعرق الجبين، وبصناعة العباءات على النول، فكيف لها أن تجمع بين كل هذه النشاطات، خاصة وأن ابنها في المدرسة، وعندما يعود يريد لقمة ومنامة، وعلى الأخص أن المواصلات لم تكن سهلة في تلك الأيام، والمسافات التي يذكرها السارد ليست قصيرة، فهي تسير يومياً من جوبر إلى منطقة الزور إلى حرستا..وماذا يحصل عندما يتم اعتقالها وسجنها، فمن سيرعى الطفل عبادة؟ ثم إن المرأة تصلي داخل السجن..الروائي يريد أن يصنع منها بطلة مثالية، والمثالية تتناقض مع الواقعية... هذا ما قصدته عندما قلت: إن الرواية الواقعية الحديثة قد حولت تعبير «أبطال الرواية» إلى تعبير «شخصيات الرواية»..فلا داعي لأن نجعل من رتيبة شخصية مثالية، وتقوم بكل هذه الأعمال البطولية المدهشة المتكاملة، فمثل هذه الأم الشابة الجميلة مثل رتيبة، في الروايات الواقعية الحديثة، قد تتعرض للاعتداء عليها، أو الاغتصاب، أو قد تَسرق لتُطعم الجياع من الثوار، أو ابنها على الأقل.وقد تحب رجلاً مقاتلاً. وقد تخطىء. ومن الأفضل أن تكون شخصيتها ضبابية، في نفس الوقت الذي فيه تصور أحداث واقعية، ولكن بطريقة غامضة، أو تعبيرية، وليست تقريرية..فإذا قدّمت لي تقريراً عن عمل ما، فإنني مضطر لأن أحاسبك على الساعة والدقيقة، وعلى عدد الحضور ودقة المصاريف..

لو لم تكن أحداث الرواية واقعية تقليدية، لكانت أحداثها أكثر منطقية، وأكثر خيالاً، ولأوصلت الفكرة بطريقة أكفأ، دون أن تجد من يعد عليها الهنات..وكما يقولون: "سكِّن تسلم"، فإن ضبابية التصوير الروائي، تعطيك مصداقية أكثر.. وكما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: «العجز عن الإدراك، إدراك» فإن ضعف إدراك الصورة الحقيقية، هو أكثر إدراكاً من وضوحها التام، ولهذا تلاشت الواقعية التقليدية، وسيطرت مكانها الواقعية السحرية، أو الواقعية الحديثة مؤخراً.

وجمالية الرواية، ونضوجها وتكاملها، وسبر أغوار مادتها،لا يمنع من ذكر بعض هناتها ومنها أذكر:

* " دخل الضابط على القائد الفرنسي، وقال له: جئت لأخبركم سيدي بأن القافلة الفرنسية قد أبيدت. فما هي إلا ساعة وبعض ساعة، حتى أصبحت القافلة أثراً بعد عين."

هذا السرد من وجهة نظر الكاتب.وليس ومن وجهة نظر الضابط الفرنسي الذي مطلوب منه أن لا يصف الحدث بهذه الشماتة! المفروض أن يلبس قناع الفرنسي، ويتفاعل مع الحدث، بتصور المعتدي، وليست بشماتة المعتدى عليه... ثم يقول في صفحة أخرى:

* وجرب المستعمر أن يشتري الذمم، فلم يجد في هذا الوطن من يبيع ذمته!" وهذا ما قصدته بالمثالية الواقعية.. يريد الروائي أن يقنعنا بأن أبطال روايته، وهم هنا الشعب العربي من عاليه إلى دمشق، كلهم لا تشترى ذممهم ! ولو كان هذا صحيحاً، فكيف نرى ونسمع الموالاة العربية اليوم، تولي الاستعمار زمام أمور وطنها؟ وكيف نجد اليوم في عاليه من...؟

* ثم يقول (ص. 20) اهتزت أسلاك البرق تحمل إلى باريس خبر انتصار جيش فرنسا الجرار على «أصغر»دولة في العالم. وسورية الكبرى آنذاك، وحتى اليوم، ليست أصغر دولة في العالم.. وفي المقدمة يقول: "هذه القصة كتبها شعبنا «الصغير» بشفرات السيوف.." فسوريا هي أم الحضارة الكونية منذ عهد الكنعانيين قبل 7000 عام، وعلى أرضها نشأت الآلهة القديمة، ومن آلهة الكنعانيين ابتدأ التوحيد بالله الواحد القهار.ومنها نشأت صناعة السفن العملاقة وصناعة النسيج المصبوغ بالأرجوان. الذي كان يصدر إلى أمراء وملوك أوروبا.. وسهول حوران كانت مخزن حبوب العالم، وحتى اليوم الذي تجوع فيه بعض الشعوب العربية،ولا تجد الخبز، تجد أن سوريا ما تزال تصدر القمح لشعوبها العربية..صحيح أن هناك بعض التقصير في زراعة الحبوب، خاصة في حوض الرقة. ولكننا أفضل من غيرنا بكثير! وحتى اليوم مكتوب على الخبز المفرود في الأسواق الأمريكية «syrian bread خبز سوري». لقد كان البحر الأبيض المتوسط في عهد الكنعانيين يسمى في الخرائط «بحر سوريا». ولهذا فلا أؤيد الباشا في تصغير أكتاف سوريا الكبرى.

* الروائي متمكن من استخدام اللغة العربية الفصحى، غير المحكية، ويبدو أنه يقصد ذلك، إذ يقول: "عرين يعج بالضياغم. ثم يفسرها في الهامش بمعنى:"الأسود"....

" جبل أرعن، طماح الذؤابة. ويفسرها في الهامش بكلمة "عالي" ..

" جلس أبو عبادة ساهماً لا يريم، واجماً لا ينطق." وفي مكان آخر يقول:

"كالطيور الغردة، تغدو مع الصباح خماطاً، وتعود مع المساء بطاناً." ثم يفسرها «ضامرة البطون، وممتلئة البطون»

مثل هذه الكلمات الطنانة الرنانة كثيرة في الرواية، وهي وإن كانت أصيلة، إلا أنها تشغل القارىء بالتفسير، بدل انشغاله بأحداث الرواية، وسردها المدهش. هل هو عرض للعضلات اللغوية، أم تعليم لنا كلمات عربية فصحى؟ وما دام يفسر كلماته، فلماذا لا يكتب الكلمات المفسرة بنفسه، فيريح القارىء، كي لا يضطر الجيل الجديد لاستخدام اللغة الأمريكية للتعبير؟

* ويخطر في بالي سؤال للثائر إبراهيم هنانو:

" ما دمت تريد نفقات للثوار، لماذا أحرقت ممتلكاتك وما في اسطبلاتك؟ لماذا لم تبعها في السوق، وتشتري بثمنها أسلحة ومؤونة للمجاهدين..؟"
 كأن هنانو هنا يقلد طارق بن زياد، الذي أحرق السفن، ليقول:"البحر من ورائكم والعدو أمامكم."

*ظروف رتيبة “أم عبادة” غير منطقية، فهي أرملة، ووحيدة، وليس لها سوى طفل، يذهب إلى المدرسة، وهي تشتغل على النول لتنفق على بيتها وطفلها. وأحياناً تعيش على الجوع هي وطفلها، إذ يقول السارد إنها كثيراً ما كانت تأكل هي وابنها وجبة واحدة، ويذهب عبادة إلى المدرسة من حرستا إلى دمشق سيراً على الأقدام، ومع كل ذلك تقضي نهارها بين المجاهدين، من الغوطة إلى دمشق إلى داريا.. تنقل المؤن والعتاد والرسائل..وتعود قبل أن يعود طفلها من المدرسة..طيب ألم تكن هذه المجاهدة تتوقع أن تُعتقل أو تُستشهد، فيضيع ابنها، ونحن نعلم أن رعاية الأطفال جهاد أكبر؟

وبالفعل اعتقلت أم عبادة، وحكم عليها بالإعدام شنقاً.. وبقدرة قادر، تم خروج غير مبرّر لضابط السجن زكي أفندي عن ذاته، فأنقذها من حبل المشنقة..

ماذا عن الطفل الذي هو أحق بالرعاية، ما دامت الأرملة ليس لديها معيل؟

يبدو أن الكاتب قد تأثر برواية (الأم ) لمكسيم جوركي، فحاول أن يبدع أماً عربية، مناضلة من هذا النوع.. ولكن ظروف هذه المجاهدة لم تكن مقنعة.. لو كانت مثل جان دارك التي ليس لها أولاد أو أسرة تعولهم، لقلنا نعم، ولكن..!

يقول السارد:

"ولد عبادة من أبوين فلاحين شريفين، فأحبه رفاقه في مدرسة دمشق، وتنافسوا في التودد إليه.." وهذا يجافي الواقع، فالشاب المدني لا يتودد إلى الشاب الفلاحي عادة، لما بينهما من فروق اجتماعية وسلوكية.. ولا أزال أذكر قصة “زكريا تامر”حول ذلك الرجل الفلاح الأصيل المهيب في قريته، والذي يعتز بشواربه بين رجال قريته، فيوم نزل من الريف إلى دمشق، تحرشت به امرأة سوقية من إياهن، فكان مآله النظارة، حيث تم حلق شواربه ونتف ريشه في القاووش..

وهنا تصوير الباشا- حسب رأيي- ليس في محله، في تثبيت مقولة «كل الناس خير وبركة» وهذا ليس صحيحا! فبعض الناس خير، وبعضهم شر. ولنا في غوار الطوشة وحسني البورزان، نموذجين يوضحان الصراع بين الخير والشر، داخل المجتمع الواحد.الباشا يطرح في روايته؛ الصراع فقط مع المحتل، ويعتبر أن «كل الناس خير وبركة».

يقول السارد في صفحة 235:

" كانت الحكومة الوطنية مغلولة اليد، مشلولة القدرة، فقد كان في يدها الحكم، وفي يد فرنسا الجيش.." ثم يقول في نفس الصفحة:

"وفتحت الحكومة باب التطوع للبذل والفداء، وكان عبادة في الطليعة.."

فكيف تفتح الحكومة المغلولة اليد باب التطوع، وهو ممنوع من الناحية الفرنسية؟

وكيف يدخل عبادة سلك الجندية أو الأمنية على الأقل، والسارد يقول:

إن التوظف في الأمن تحت الاحتلال، ليس لكل من تقدم، بل هو محصور على من له تاريخ حافل بالمسالمة والخنوع؟
فإذا كان عبادة وأبو عبادة وأم عبادة كلهم من الثوار، فكيف يسمح له بالتجنيد ضمن القوات التي ستخدم النظام تحت الاحتلال؟
وأخيراً كنت أتمنى لو كانت ندوة تكريم المبدع عبد الرحمن الباشا يوم 17 أو 24 نيسان، يوم جلاء المستعمر الفرنسي عن سوريا- حسب الرواية – بدل موعدها اليوم.

المراجع:

رواية «أرض البطولات»لعبد الرحمن الباشا.

كتاب «في نظرية الرواية» للدكتور عبد الملك مرتاض.

جريدة أخبار الأدب المصرية.

قصة زكريا تامر.

رواية «الأم» لمكسيم جوركي.

مراجع مختلفة من الإنترنت.

اتجاهات النقد الروائي في سوريا “د. عبد الله أبو هيف”

لعبد الرحمان الباشا

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى