الأحد ٤ تموز (يوليو) ٢٠١٠

أزمة سيناريو أولاد البلاد

محمد بنعزيز

هذا فيلم كل شيء فيه حقيقي، في مكانه، واقعي تماما... وحسب الورقة التعريفية لفيلم "أولاد البلاد" فهو يحكي عن ثلاثة أصدقاء، لمفضل، عبد الحميد وعبد السلام، الذين جمعتهم دروب مدينتهم الصغيرة كما جمعتهم رحاب جامعة محمد الخامس بالرباط حيث تفوقوا، وبامتياز، في دراساتهم العليا ليجدوا أنفسهم بعد جهد طويل أمام وحش البطالة الفتاك..

بعد بحث مضن وعقيم، سيضطر الثلاثة إلى نهج طرق مختلفة بحثا عن عمل يؤمنهم ضد ظروف الدهر... في نفس المنطقة التي ولدوا فيها (واد لاو شمال المغرب، قرب تطوان).

كيف يمضون في طريقهم؟

جاء الجواب تسجيلا بالصوت والصورة للواقع اليومي، في فيلم يعلن تناول الأوضاع الحالية بأمانة، نرى المعطلين فيه يحتجون أمام البرلمان... يسكنون جماعيا في منازل مكتراة يأكلون ويتحدثون ويشتكون...

يعلن بطل الفيلم (المفضل، رشيد الوالي)من المشهد الأول أن الأمور لديه واضحة... يرفض أن يكون من عامة الناس لأنه تعلم، لذا يصر على أن تجد له الحكومة وظيفة محترمة... فهو يحمل شهادة عليا... يدور بين الإدارات بحثا عن عمل وهو يعرف أنه لا نتيجة... فالأمور واضحة لديه... فهو محبط، لا يبادر، بحثه عقيم لأن الدهر ضده...

الفيلم عن فكرة لعبد الإله أمزيل، سيناريو محمد اسماعيل و عبد الإله بنهدار ورين دنان، وقد كان للانطلاق من فكرة سائدة عن شخصية جاهزة أثر سلبي على صياغة السيناريو على مستويين.

مستوى كبح حرية التخييل ومستوى بناء الشخصية.

فقر في الخيال

على المستوى الأول، تسبب الانطلاق من حقيقة منتهية في عرقلة بناء وتطوير الحبكة، فالمعطل محبط، والواقع قاسي وصلب. إذن فالغلبة للواقعية المفرطة.

هذا هو المنطق الذي اختاره كتاب السيناريو لتوجيه الكتابة.

ألقى الفريق الذي كتب السيناريو نظرة على الواقع كما تقدمه الجرائد اليومية فوجد مسارات محددة للشبان فبقي الفيلم وفيا لتلك المسارات.

يتتبع الفيلم مسار شخصية المفضل المحبط يتدحرج بدون إرادة، بدون أسئلة إشكالية، فقد أخذ منه تاجر المخدرات حبيبته السعدية (منى فتو) فسافر للدراسة، تقدم المعطلون للنضال فخاف من الشرطة، تركته رفيقته صليحة (حنان الإبراهيمي) فرجع إلى القرية، جاءته السعدية وقد ترملت فنام في حضنها... شخص يتدحرج، لم يقرر ولا مرة، هذا طبعه... لنر معجمه السلبي، يكرر:

"هذا الواقع المر" "هاد شي كاين" "نعيش نفس المشكل" "البطالة هي هذه"... ويفسر بطالته "بالتابعة"...

من هي "التابعة" في 2010؟

لا جواب في الفيلم، لأن السيناريو يفترض أنه ينقل واقعا معروفا للمتفرج. ولما كان هذا الواقع معروفا فلا داعي لتدقيق الأسئلة وتقديم الأجوبة.

النتيجة هي استنساخ الواقع.

العاشق يعود لحبيبته.

القنوع يتزوج ويشتغل ليل نهار ليأكل.

الشابة العاطلة ترحل إلى الخليج...

الرفيق يتابع التحريض...

ألإخواني يصير إرهابيا.

هذه هي ظلال الواقع التي تخفي الحقيقة، بحيث يقدم كل شيء جاهزا، وبذلك يعفي كاتب السيناريو نفسه من البحث والإبداع. وهذا شرط السرد، سواء بالكلمات أو بالصور.

لنوضح بمثال: ما الذي يخفيه التبرير الشعبي للبطالة.

من هي التابعة وما الذي تخفيه؟

"التابعة" هي النحس الذي يتبع المعطل ويطارده لكي لا يحصل على عمل. والتابعة مشخصة في أنثى من الجن لا تطرد إلا بزيارة ولي صالح وذبح جدي له. وإذ يحصر حامل الشهادة العاطل نفسه في هذا المستوى المنحط من الوعي، فإنه بذلك لا يتوفر على أي تفسير اقتصادي وسياسي لبطالته، هذا التفسير الذي سيمكنه من الارتقاء من حالة البؤس المادي والنفسي التي يعيشها ليطل من فوق على وضعه ليفهم قوانين اللعبة التي تسحقه.

بسبب غياب الوعي الراقي وسيطرة اليأس على الشخصيات، فقد زال التوتر نهائيا في الفيلم، لذا اضطر كتاب السيناريو إلى البحث عن طرائف من هنا وهناك، اضطروا إلى افتعال توتر جنسي لفظي مرتين، وهو توتر ليس من صلب موضوع الفيلم، المرة الأولى في المقهى حول تعريف من هو الرجل وكيفية الاغتسال من الجنابة والمرة الثانية في السيارة عند تحميل السائق النساء مسؤولية عدم تحديد النسل.

يجب أن يظهر التوتر في الأحداث وليس في العنف اللفظي العابر (لم يظهر السائق والمرأة التي تعنفه لفظيا إلا في تلك اللقطة طيلة الفيلم، لا صلة لهم بالأحداث).

الحدث هو الدافع للعنف، وهذا لم تتضمنه قصة السيناريو الذي كان رتيبا، دون صراع، دون حركة، وقد أدرك المخرج محمد إسماعيل مشكلته، فعندما يقول Action لا تجري أي حركة، يتم تصوير أشخاص يتحدثون... وهذا رتيب، الحل تحريك الكاميرا عبر البان. ونأخذ مثالين في محل الانترنيت وفي موقع الجريمة.

قبل ذلك تستخدم حركة الكاميرا بشكل دائري لاكتشاف المكان (panoramique). وقد استخدم المخرج تلك الحركة ليقدم لنا فضاء الانترنيت، ثم اعاد استخدامها دون ضرورة. ليوهم المتفرج بحركة لا تجري، فالأخ في المحل جالس طيلة الوقت أمام الحاسوب إلى أن أصبح إرهابيا كبيرا. تصويره يتدرب في جبل مكلف للإنتاج.

في موقع الجريمة حيث جرى قتل تاجر المخدرات الكتامي (محمد أخيي)، تقوم الكاميرا بحركة بانورامية لنكتشف جثة هامدة ورجال الدرك ينقلونها... الحركة لا ترى والمشهد رتيب... لكن الكاميرا تتحرك.

Action لا تقال للكاميرا، تقال للممثلين.

أين المشكلة؟

جواب دوستويفسكي "الواقعية فظيعة"

يريد الجمهور الفن ليرتقي من ضجر الواقع الخبزي الذي يعيشه. لذلك لا جدوى من جمع أخبار المعطلين من الجرائد ثم جمع ست شخصيات يفترض أنها تعكس تلك الأخبار ثم رصف تلك الأخبار في فيلم.

ما سبب فشل هذه الخلطة؟

من الخطر تناول موضوع مستهلك، تكون معارف الجمهور عنه كبيرة، تصعب خلق مسافة مع الموضوع، تشتت المادة وسخونتها تعرقل تطويعها، النتيجة هي تقديم الحياة اليومية في رتابتها بسيطة عادية دون لمسة دهشة أو أثر فني وهنا تزول وظيفة السينما تماما ليقع الفيلم في وقائعية مضجرة تكرر ما يعرفه المتفرج الذي يمكنه سماع نفس الحوارات في المقهى المجاور لقاعة السينما... واقعية فظيعة سطحية تمنع المشاهد من عيش الوهم السينمائي...

يقول أندري بازان BAZIN "إن مهمة السينما ليست أن تضاعف multiplier بل أن تكثف Intensifier "

وهذه مهمة الفن ككل، لذلك حذر غابريل غارسيا ماركيز في "ورشة سيناريو" من المحاكاة الحرفية للواقع لأنها تنفر المتفرج، وتساءل:

كيف ننجو من ذلك؟

أجاب "عن طريق لمسة خاصة، من خلال مثقال غرام جنون تحتويه كل قصة من قصصنا" ص 189.

من أين يأتي غرام جنون؟

من التخييل.

لا تخييل في فيلم "أولاد لبلاد".

لقد بدأ السيناريو فكرة وانتهى فكرة، وهي فكرة واقعية خام، لكن الواقع مجرد موضوع يجب مقاربته، الموضوع هو المادة في وضعها الخام، خشب مثلا، سيتدخل فكر ويد النحات ليحول شكل الخشب، وهذا هو العمل الفني، بفضل تدخل الفكر في مادة الخشب حصلنا على الجديد، هذا هو الفن.

الخشب في الشجر المقطوع ليس فنا، البطالة والدعارة وتشغيل الاطفال والجريمة والتطرف مجرد مواضيع... تحويلها إلى فن مسألة أخرى تماما.

في تصريحاته، يؤكد محمد إسماعيل أن أفلامه تتغذى من ملاحظاته للحياة العادية للناس البسطاء، وأنه يتناول مشاكل المجتمع. وفي حديثه عن مشاكل كتابة السيناريو اعترف بصراحة:

" بعد خمس محاولات لكتابة سيناريو متين ومقنع، قررنا الرحيل إلى واد لاو [شمال المغرب حيث صور الفيلم] حتى نتمكن من استيعاب روح الفضاء الذي سيؤثث حبكة هذا السيناريو"

الحبكة لا توجد في المكان بل يصنعها الخيال.

ما هي حبكة الفيلم؟ متى تم حلها؟

الحبكة لا وجود لها في الفيلم.

ما الدليل؟

بمكن حذف شخصية سعدية من الفيلم دون أن يتغير شيء.

يمكن حذف شخصية صديق الرفيق بلا خسارة. يمكن إضافة عاطل آخر دون مشكلة.

توجد شخصيات كثيرة في الفيلم لا صلة بينها إلا البطالة، بينما الحبكة هي تعاقب الأحداث وترابطها سببيا، هذا الترابط لا وجود له في الفيلم، والرحيل إلى شمال المغرب لكتابة المحاولة السادسة كان بلا نتيجة. لأن المشكل كان في المقاربة الفنية لا في المكان. ولملأ الوقت فتح السينارسيت مواضيع كثيرة على حسب الشخصيات، ثم صعب عليه إغلاقها بطريقة مقنعة فطواها بسرعة في نهاية الفيلم... مثلا تلغى شخصية صليحة، كيف؟ ذهبت إلى الخليج. مثال آخر: عشر ثواني لاعتقال الإرهابي (سعيد باي) الذي يدخل المطار واضحا بلحيته ولباسه المقصر وكأنه يجهل مطلقا الخطر المحدق به، يقول لهم اعتقلوني، يقف عليه شرطيان: اختفى من الشاشة.

هل تغير شيء عندما اختفى هؤلاء؟

لا.

للمقارنة، ولإثبات التحليل أعلاه عن التخييل والحبكة، وهذا ضرورة لأن المخرج المغربي يفترض أن كل نقد فني عداء لشخصه لا تفكيكا لعمله تبعا لمهام الناقد السينمائي، أقدم فيلما ناقش المخاطر التي تهدد الشباب، التطرف والجريمة المنظمة... نفس موضوع فيلم "أولاد لبلاد"... لكن المعالجة الفنية غلبت المادة الخام وطوعتها، النحات صقل الخشب، الخيال فكك الواقع وأعاد بناءه، وبذلك كثفه بدل أن يستنسخه.

يتعلق الأمر بفيلم "باب الواد الحومة" للمخرج الجزائري مرزاق علواش. وفيه نرى الجزائر الخارجة من الاشتراكية الفاشلة تتلقفها يد الجريمة والتشدد، فقد إمام المسجد تأثيره على الشبان المتشددين الذين أطرهم، وقد تجاوزوه ونصبوا 14 بوقا فوق مباني الحي الشهير بالعاصمة ليسمع الجميع دفعة واحدة بشكل إجباري خطب الإمام... غير أن شابا يعمل خبازا ليلا سرق بوق الإسلاميين الرابع عشر، لأن صوت البوق يمنعه من النوم نهارا... من هو المتهم؟ هنا الحبكة... الصراع على أشده والتشويق يقطع الأنفاس... وخلال ذلك يمرر المخرج تصوره: العلاقة بين التشدد والتهريب والإرهاب... الأبعاد الرمزية للبوق ترفع المتفرج شبرا وذراعا في مدارج الفن... كان البوق هو غرام الجنون الذي نقل الفيلم من "الواقعية الفظيعة" إلى الفن.

في السينما المغربية التي تعتمد على كتّاب سيناريو جلهم ذوي صلة ضعيفة بالسرد الروائي، يكثر وصف الموضوع، ولكنه لا يصبح حكاية لها حبكة، الفيلم الآخر الذي يسري عليه التحليل الخاص بفيلم "أولاد لبلاد" هو فيلم "المنسيون" لحسن بنجلون، وفيه يستغل تركيز الصحافة على دعارة المغربيات بالخارج ليحقق سبقا لكنه ليس سينمائيا، لأن السيناريو فقير تغلب عليه الوثائقية، أما قوانين السرد، أي التشويق وتعرجات الحكاية والطرافة فلا وجود لها.

إن كتابة سيناريو فيلم تخييلي، بنفس طريقة إعداد تحقيق صحفي كارثة. لأن التحقيق يبحث عن مطابقة الواقع، والبحث عن هذه المطابقة في السيناريو، تسجن التخييل وتضجر المتفرج البصاص.

ننتج الأفلام التي نريد ونحكيها كما نريد، لكن لا نحكيها لمن نريد، هنا يتدخل أفق انتظار المتفرج وسلطته.

يطالب المتفرج بالفرجة، لكن غياب التوتر في الفيلم، وضعف الجانب الدرامي، يشعر المتفرج أن كل ما يراه يعرفه مسبقا، لذا لا يتوقع جديدا. لا فرجة دون تشويق، دون توهيم يتواطأ معه المتفرج.

كيف وصلنا إلى هنا؟

هل يكفي باسم الواقعية، أن نجمع عشرة تجار لنصنع فيلما عن الرأسمالية؟

لا.

ومع ذلك، فبفضل نجاح عدة أفلام واقعية، تولد انطباع خاطئ مفاده أنه كلما أوغل المخرج في التصوير الفج للواقع صار الفيلم أفضل. وقد عزز نجاح فيلم "هي فوضى؟" للراحل يوسف شاهين هذا الانطباع. والصحيح أن اللمسة الفنية للمخرج هي التي صنعت الفيلم. وعندما كرر المخرج خالد يوسف تلك الوصفة دون لمسة فنية، سقط في "دكان شحاتة". فجسد هيفاء بكامله لم يرْق إلى لمسة يوسف شاهين. الفن مسألة كيف لا مسألة كم.

لذلك، فالواقع مجرد مادة خام، مجرد كم، مجرد كتلة تحتاج تطويعا، تحتاج لمسة فنية، تحتاج وجهة نظر، وتحتاج خيطا ناظما، أي حكاية وحبكة مشوقة تمرر وجهة النظر تلك على طول الفيلم. غياب تلك الحكاية أضعف الجانب الدرامي في الفيلم، يقول غابريل غارسيا ماركيز:

في الحكي "أنت لا تستطيع أن تفعل ما تشاء إلا ضمن المنطق الذي فرضته على نفسك، فالأمر كما في الشطرنج. لماذا يتحرك الفيل مجانبة؟ لأننا توافقنا على ذلك وتقبلناه مسبقا"ص153.

عندما اختار كتاب السيناريو تجميع أخبار المعطلين من الصحف ورصفها في الفيلم باسم تناول الواقع، ودون وجهة نظر ولمسة فنية، فقد حكموا بذلك على شخصيات "أولاد لبلاد" بالتشتت والهشاشة.

يتجلى الضعف في تناول حياة المعطلين بطريقة سطحية، دون بعد سياسي وكأن البطالة طبيعية مثل العجاج، دون مقاربة وجودية للبطالة ولدور العمل كحاجة إنسانية وكسبيل لتحقيق الذات، بل وكمحدد لهوية الفرد. وهذا نموذج لما ذكر قي مقال سابق عن أزمة السيناريو، وفيه أن السيناريست المغربي يكتب عن أمور لا يعرفها، لم يعايشها، ويسرع لينهي السيناريو دون جمع المادة، دون تعميق البحث والتفكير، دون توثيق ومناقشة، دون الإصغاء للناس...لذا لا يتماهى المتفرج مع الشخصيات، لا يجد فيها نفسه.

في حوار هاتفي مع المخرج محمد إسماعيل، قال أن الفيلم المغربي متوقف على الدعم، ولذلك يصعب أن يحصل المخرج على سيناريست متفرغ لمدة سنتين لكتابة سيناريو ليس من المؤكد حصوله على الدعم. وأضاف أن استمرار التلفزة العمومية في إنتاج 44 فيلم تلفزيوني في السنة ضروري لتحقيق تراكم في الكتابة، خاصة وأن المشاهدة تصل ـ حسب المخرج ـ إلى 46% حين تعرض الأفلام المغربية على التلفزة.

هنا جوهر المشكل: العلاقة بين جودة الكتابة ونسبة المشاهدة.

البطالة مأساة، وفي السينما المأساة تعاش ويتقاسمها الممثل والمشاهد، في الفيلم لا تشي الصور بهذه المأساة، بل تقال شفويا، عبر انطباعات الممثل عن نفسه، يقول المفضل إنه يائس وقلق ويعاني الأرق... يتحدث عن الأرق ولا نراه.

لقد كان لتلك السطحية أثر على معجم الشخصيات أيضا وهي تفسر ما يجري بجمل مثل:

"ما جابش الله"، "السعدية ما عندهاش السعد""هذا ما اعطى الله"

وبذلك لا يظهر نهائيا أثر معجم التخصصات الجامعية في حوارات المثقفين حملة الشواهد العليا، فالمعطل، الذي قيل لنا انه كان متفوقا في الجامعة، يتحدث بمعجم عامي، يكرر حوارا أُمّيا قدريا.

ولكي أشرح صلة المعجم بوجهة النظر أقدم مثالا: في فيلم أمريكي سأل طالب مادة الفيزياء أستاذه عن سبب انجذابه لطالبة في الفصل، فرد عليه الأستاذ:

لأن نسبة الماء في جسمها اكثر من نسبة الماء في جسمك.

انتهى المثال.

هنا كل العالم يفسر من وجهة نظر فيزيائية.

لا إبداع دون وجهة نظر تلتصق بجلد المبدع. هذا ما قاله المخرج الشهير بيتر بروك.

بسبب غياب وجهة نظر تحتوي الواقع فنيا بدل أن يحتويها، فإن بناء الشخصيات على مستوى المظهر والمزاج (Portrait et caractère ) فضفاض يفتقد التفاصيل والحبكات الصغري الفرعية التي تفهم وتسلي... وقد تسبب غياب وجهة النظر التي تخترق كل مشهد وجملة في عدم التناغم بين سيكولوجية الشخصية وسلوكها ومصيرها:

 في حالة صليحة ـ الرفيقة المناضلة في الثلاثين من عمرها ـ التي تطالب بوقفات احتجاجية حضارية، فجأة وعلى سرير الحب تعلن قراراها "ندبر على راسي" هذا معجم غريب عن وعيها المعلن وتكشف أنها ستحج إلى الخليج الذي يمنع فيه تأسيس جمعية لأصحاب المخابز.

 في حالة لمفضل، متردد، لا يقرر، يتدحرج وتقرر له المرأة التي أرادته أن يتزوجها... يعتبر البطالة لعنة ربانية، يخضع لقدرية وخوف من التظاهر، ثم فجأة يصبح تاجر مخدرات مسلح... فكيف لمن خاف العصي البلاستيكية في تدخل قوات الأمن ضد احتجاجات المعطلين أن يصبح فجأة تاجر مخدرات ويحمل مسدسا حديديا محشوا بالرصاص ليتحدى به زعيم عصابة...

كيف ولماذا؟

بسبب البطالة؟

ألم يخف من النضال وهو عاطل؟

في جو روتيني، تحول المفضل من قط إلى نمر... المشكل أنه ليس في السيناريو أي حدث صادم يمهد ويبرر ويسوّغ هذا التحول في سلوك الشخصية، وهذا خطأ دراماتورجي يظهر عدم تماسك طبع الشخصية وأفعالها ومصيرها.

لهذا يشبّه ماركيز منطق السرد بمنطق الشطرنج، البيدق لا يصبح حصانا.

الخطير أن ضعف بناء الشخصية قد انعكس على أداء الممثلين أيضا، فبالنسبة للأدوار الرئيسية، كان حضور منى فتو بارزا، أما رشيد الوالي فقد كان باهتا، لم يعط شيئا للدور، كان واثقا من أنه نجم وأن هذا يكفي، لذا لم يبذل جهدا في دور يحتاج ممثلا مثقفا، يحمل موقف المعطل من الواقع في معجمه وأدائه...

رشيد الوالي، كنجم وسيم وطيب... غريب بالنسبة لطبعه أن يكون حادا صاحب موقف، هذا ليس طبعه، ولا يمكن للمخرج أن يخرج من الممثل ما ليس فيه.

بالنسبة للادوار الثانوية، فإن فاطمة العمري ونزهة الركراكي قد جلبتا معهما الأداء المسرحي التقليدي على الطريقة المغربية، الدليل؟ نزهة الركراكي تتحدث وتضحك من كلامها تقول لابنتها "تهلاي فينا... ها ها ها".

محمد أخيي كان ممتازا، وكذلك بسطاوي وإن كان يبالغ احيانا ليبدو مسليا، رفيق بوبكر كان اكثر جرأة في الاداء... بذل جهدا وأغنى الدور، رغم نمطية دور الرفيق السكير، وهذا أسلوبه في فيلم "أولاد البلاد" وفي فيلم "موسم المشاوشة"، بل حتى في فيلم "إكس شمكار".

بسبب الأداء البارد للممثل والعقلية القدرية للشخصية، فإن المتفرج يشفق على المعطل بدل أن يتعاطف معه، يشفق على مسكنته وعجزه غير المفهوم لأن البطالة "هي هذه"، وكأنها قضاء وقدر، في هذه اللحظة يتضح أن وعي المتفرج أدق وأعلى من وعي الشخصية، متفرج يدرك أن البطالة لم تأت من الله بل هي نتيجة لواقع طبقي ولإملاءات صندوق النقد الدولي ولسياسة اقتصاد السوق.

هذا تفسير لا يخطر ببال المعطل المثقف حامل الوعي الخبزي وليس الشهادات.

وكل هذا ناتج عن سيناريو سطحي، يفتقر للخيال، لا يرى الأبعاد السياسية للبطالة...

لا يرتفع فيلم "أولاد البلاد" في أي لحظة عن الواقع الذي يستنسخه، لأن مادته الخام فرضت عليه نفسه لم يطوعها.... في هذا الباب، يقول عبد الله العروي:

"يتبع الإنتاج الأدبي العربي بأمانة، منذ بدء النهضة ـ أي منذ قرابة قرن ـ التطور العام للمجتمع والثقافة. وهذا أول عنصر سلبي، بعكس ما يمكن أن يعتقد، ذلك لأنه يشير إلى ضعف فطري للخلق الفني الذي لا يتجاوز، في أية لحظة، مستوى التحليل الإدراكي. فالفن إذن، في حالتنا، لم يلعب أي دور إنقاذي أو إيضاحي" الأيديولوجية العربية المعاصرة ص 157.

ينطبق هذا التوصيف على كل الأفلام التي تعتبر أن مجرد سبقها في طرح الموضوع إنجاز في حد ذاته، بينما السبق يجب أن يكون إبداعيا، والإبداع يعني التجديد والابتكار وهذا ضد استنساخ الواقع، ضد استنساخ الصورة التي للمغربي عن نفسه وواقعه.

وهنا اكرر، عرض الواقع ليس فنا، خشب الشجر في شاحنة ليس فنا، يصبح الخشب فنا عندما يتخذ شكلا منحوتا، لا يحب المتفرج المغربي صورته الخام في المرآة، بل يحتقر تلك الصورة، خاصة عندما تصوّر مثل شخص توجد الشمس خلفه، وبالتالي يظهر وجهه مظلما، المطلوب بروجيكتور على الوجه مباشرة لإضاءة التجربة، حينها تتمكن المعالجة الفنية من تجاوز إعادة إنتاج تلك الصورة كما هي... المطلوب أن يأخذ السيناريست مسافة مع تلك الشخصية ليحللها ويعيد تركيبها ليمنحها لمسة إضاءة تمكن المتفرج من فهم ذاته وفهم العالم... "التابعة" لا تساعد أحدا على الفهم.

لم يحقق سيناريو فيلم أولاد البلاد هذه المطالب الفنية لأنه فيلم لم يحترم قواعد الحكي، وقد حاول المخرج والمونتير إنقاذ الفيلم من الرتابة دون جدوى، وهذا دليل آخر على أن أزمة السينما المغربية هي أزمة سيناريو بالدرجة الأولى.

محمد بنعزيز

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى