الخميس ٢٦ آب (أغسطس) ٢٠١٠
بقلم صبحي فحماوي

(متاهة الغربان) لأحمد حميدة

رواية جمالية القبح!

لو أن هذه الرواية وصلتنا بعد نشرها باللغات الغربية مثل (الخبز الحافي) لمحمد شكري ، لاشتهرت أكثر من تلك الرواية بكثير. ولكننا نحن المسكونين بما يجتره الغرب، لا نكتب إلا بأقلامهم، ولا نهتم إلا بما يوحوه لنا!

وأنت تقرأ هذه الرواية، لا تشعر بالتقزز من أوسخ البذاءات التي يذكرها السارد، أو التي تجيء على لسان الشخصيات، ذلك لأن قصة الرواية مدهشة إلى أبعد الحدود. ورغم سوقيتها المُسفّة ، تحت ما يسمى «جمالية القبح»، إلا أن بلاغتها اللغوية، ومجازاتها ، وبناءها الدرامي المتدافع يقطع الأنفاس!

وموجز الرواية أن الخواجة زيكو وهو يهودي مصري ، صاحب محل غسيل وكوي في حي محرم بيه في الإسكندرية، يستعد هو وعائلته للرحيل إلى فلسطين بعد عام 1952 ، ويعمل لديه كل من الأسطه جبر تعاونه زوجته الجميلة الشقراء نهلة، واللذان يشتركان في السكن مع سعدون الأسمر وزوجته حسنات في غرفتين بشقة صغيرة. بينما يزور الخواجا زيكو شقة نهلة وينام عندها، أي في غرفتها حوالي ساعة، وذلك كل صباح أحد، حيث يذهب زوجها جبر في نفس الوقت لزيارة أمه كل صباح أحد.. تنهش التساؤلات الحارة رأس حسنات، والشك كلب مسعور أجرب ينبح في قلبها، ويلعق الدماغ، فيدفعها للتلصص على ما يجري داخل غرفة نهلة المغلقة، من دون أن تسمع تأوهات، أو.. غير خروج الخواجة زيكو من الغرفة بشكله النتن، بينما يكون شعر نهلة منكوشاً وملابسها الخفيفة مجعلكة! تدخل حسنات الغرفة بكلب قلبها النابح، لعلها تعثر على لباس منسي، أو تشم رائحة نجسة!

وفي وضح النهار يأتي المكوجي خميس وهو شاب يحمل على رأسه الملابس الحساسة لتغسلها نهلة على يديها بحرص، بينما يطول غياب الشاب خميس داخل غرفة نهلة المغلقة، ويخرج بعد ساعات وهو يمشط شعره ، وينظم ملابسه ، ويمسح شواربه.

ونهلة هذه ابنة خادمة ولدت وتربت في قصر معتوق باشا، تَوسَّط الخواجة زيكو للأسطة جبر ، فزَوَّجه إياها.. وبقيت تعمل لدى الباشا، وترفه عنه حين يحتدم صراعه مع زوجته الهانم بألفاظ غاية في البذاءة.. وبعد طول مداعبة تخرج من غرفة نومه وقد نسي الباشا كل آلامه النفسية التي سببتها له الهانم ، التي تحتقره وتكره رائحته، وتفضل حتى الخدم عليه في تلك الأمور!

لا داعي لأكثر من هذا التفصيل ، لرواية تشدك وتلتقط أنفاسك من الصفحة الأولى، فلا تسمح لك بالإفلات منها وحتى الجلدة الأخيرة! وهي تقع في 143 صفحة من القطع المتوسط، وصادرة عن دار التلاقي للكتاب في القاهرة2009 .

الذي يدهشك في الرواية بالإضافة إلى ما سبق، أنك تريد أن تعرف تفاصيل حياة هذا الديوث جبر، الذي بعد خروج الخواجة زيكو من غرفة نوم زوجته نهلة، يدخل وهو يُحضر الفول ويتفنن في مزج التتبيلة معه، وعند أول لقمة تقترب من فمه المنفرج على وسعه، يسأل زوجته قائلاً : (- هل جاء زيكو؟.. تعالي كلي! الفلافل ساخنة.. جاء..؟ طيب تعالي ..الفول يهوس! هل نام؟.). فتقول له: (خليك مع فولك الذي يهوس!) كان يلوك طعامه بلذة، وهو يسألها: (- قمتِ معه بالواجب؟ نومه عندنا يعتبر نزهة، نعمة! الفول قرب ينتهي.!)

هذا الديوث جبر "المتكىء على تعبه" هو الذي يرسل الأسطة خميس بالملابس إلى بيت جبر لتغسلها زوجته الصبية الشقراء الجميلة نهلة بيديها الرقيقتين، فيغيب الشاب القوي معها ساعات داخل غرفة نوم مغلقة.(وترى جبر «الشهم الخانع» يخرج بالثياب الداخلية، خلفه خميس الذي يوحي منظره العام بالرضا والسماحة، كما لو أنه غسل بالداخل متاعب يومه، وقبل حضور جبر..) . والديوث في اللغة هو الذي لا يغار، وهو من يُقوِّد على زوجته، بينما القَواد يتعامل مع المنحرفين الأغراب في السوق.

القصة اجتماعية مؤثرة، وأحداثها موجهة نحو هدف محدد، وفوق هذا وذاك، تقرأ مجازاً وتعبيرات شعبية سوقية، لا يملك كاتب القدرة على تصوير مثل هذا ، وإذا ملك، فإنه لا يمكن أن يجرؤ على كتابتها، وإذا جرؤ فإنه يصعب نشرها.. ذلك لأنني لا أستطيع هنا كتابة فقرات أو بعض الجمل البذيئة المسرودة في هذا النص الروائي ال..! ودعني أستخدم الرقابة الشديدة على ذاتي، فأنقل إليك عبارة مفلترة بقدر الإمكان: (دخل دورة المياه المتسعة، الشبيهة بدورة مياه عمومية، ربما يستعملها غيره .. ربما أوغاد آخرون يتبولون فيها بأوقات غيابه.. وربما يجيئون في أثناء نومه بحجة الثياب التي يحملونها من طرف الإخوة الأصدقاء أعضاء الجمعية اليهودية.)

وأما تصويره للطبقة الأرستقراطية وبالذات أجنبية الأصول، فإليك بعض الشتائم التي يتبدلها الزوجان في قصر معتوق باشا الفخم في محرم بك متزامنة مع أصوات تكسير، إذ تصرخ الهانم قائلة: (نسيت أصلَك يا بعوضة يا ابن العبيد المماليك؟) فيرد عليها معتوق باشا قائلاً: (طبعاً جدِّك المأسوف على عمره الوسخ كان أشرف.. يا نعل الجزمة..!)

لم يسبق لكاتب أن صور بهذه الدقة، مثل هذه البشاعات الواقعية الاجتماعية، ذلك لأن الكُتاب دائماً ما يصفون المرأة الجميلة، والمنظر الساحر، ونادراً ما نقرأ أو نسمع تعبيرات فنية بشعة، تحت باب «جمالية القبح» أو «فنية القبح»، مثل أغنية فيروز(في واحد هوِّ ومرته، ولو! شو بشعة مرته!) أو كما جاء في رواية الفرنسية (إميلي تومب)، بعنوان(اغتيال) الصادرة ترجمتها عن روايات الهلال- العدد 650- والتي ترسم فيها صورة شخصية "أبشع ما خلق الله" في بشاعة (كوازيمودو) أحدب نوتردام لفيكتور هوجو، الذي يقدم نفسه قائلاً:(وجهي أشبه بأذن يملؤه "حب شباب" أشبه بمطر من الجراد يتساقط فوق ظهري..أنا أحمل رعب العالم فوق كاهلي.. إنه ليس سوى دمامل حمراء وصفراء..حتى الأعمى سوف ينزعج حين يمرر يده عليها..مهنتي أنني قبيح..) كانت رواية الاغتيال تصف الشكل القبيح لشخص، ولكن رواية متاهة الغربان تصف السلوك القبيح لمجتمع قبيح.

وأحمد حميدة روائي غير مجهول، إذ أن له إحدى عشرة مجموعة قصص صدرت عن اتحاد كتاب مصر، وهيئة الكتاب، ومكتبة الأسرة، ومديرية ثقافة الإسكندرية ، والمجلس الأعلى للثقافة.. وله خمس روايات هي رواية (الغجر) الصادرة عن هيئة قصور الثقافة المصرية، ورواية(حراس الليل) ورواية(أشلاء بؤرة العشاق) ورواية (سوق الرجال)..

وقد تكون (متاهة الغربان) هي الرواية الوحيدة – على الأقل التي اطلعت عليها- التي صورت بفنية عالية رحيل عائلات يهودية من مصر، وتفاصيل الحياة الاجتماعية والمهنية والدينية لهذه الفئة من المجتمع، وذلك تحت ضغط تأميم الإقطاع، والضرائب على الدخول الكبيرة ، والتأمينات الاجتماعية لمصلحة العمال والفلاحين، التي فرضها نظام عبد الناصر على الخواجات والأجانب.

وتأتي دقة التصوير ومجازات التعبير في الرواية لتضعك في فم الحدث، وتجعلك تشاهد بأم عينك ما يحدث داخل وخارج المكان.. خذ مثلاً قول السارد:(أزاح مقعداً مبقوراً بطنه القشي، وقعد يأكل بقايا الجبن بفتات الخبز) .. وقوله:(تمطى على طرف السرير ، واشتم رائحة زنخة لشعر إبطه، ومد قدمه معوجة الأصابع، طويلة الأظافر، باحثة عن شبشب صغير مقطوع رباطه، وجدته القدم ، فدخلت فيه..) وهنا تشعر أن القدم هي التي تجد الشبشب وليس صاحبها هو الذي يجد! وقوله : (مستشفى أحمد ماهر شبه المعطل عن أي زائر مريض، كصندوق برتقال ضخم أصابه العطن، ربما لكونه محشوراً، كبؤرة السوق، حوَّل الباعة حوائطه كالحة البياض إلى مباول عارية، يتوجهون إليها كلما حصرهم البول، فيفعلون، تاركين روائح بولهم العفن تنتشر ممتزجة بروائح المخللات والرنجة...)

ويأتي غلاف رواية متاهة الغربان عبر لوحة فنية رائعة للفنان السكندري سيف وانلي الذي كان رئيساً لبينالي اسكندرية الفني في الستينات والسبعينات، معبرة عن شاب أرستقراطي جشع مهترىء الملابس يهاجم فتاة هاربة من سطوته!

رواية جمالية القبح!

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى