الأحد ٢٦ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٠

«عَبَق النّافِذة» للقاص محمّد البشير

زينب البحراني

رُغم تلك الطّفرة المُخيفة في كمّ العناوين التي تصدُر تحت أسماء سعوديّة كلّ عام على حساب الكيف والمضمون، ورُغم ما أراه إسرافًا غير صحّي في مُخاض المطابع السّعوديّة في السّنوات الأخيرة، ورُغم تلك الأزمات الحادّة التي يجتازها الأدب السّعوديّ بين التطرّف في التّغريب، والتطرّف في التّنميط، وانعدام الأدب في النّص الأدبيّ في أحيانٍ كثيرة لظروف قد تكون خارجة عن إرادة الأديب السّعوديّ أحيانًا، وقد تكون ناجمة عن أنّ الشّخص الذي كتب هذا الكتاب وطبعه دخيلاً هذا الفنّ، ومُتطفّلاً حديثًا عليه، إلا أنّ مما يبعث على التّفاؤل بحقّ مُصادفة إصدار تستوقفك بعض ثيماته، أو حبكاته، أو شخصيّاته، في لحظات تفكيرٍ عميق. وعلى رأس ما استوقف اهتمامي بمجموعة (عَبَق النّافذة) للقاص السّعوديّ (مُحمّد البشير) الاجتهاد الصّادق في المُحاولة، والتّجريب الذي تبزغ آثاره في اختلاف أسلوب المُعالجة الفكريّة، والفنيّة، واللغويّة، بين حكايةٍ وأختها.

حين تقرأ المجموعة ستكتشف أنّك تجد الطّريق إلى قصصها مجموعةً بعد أخرى بأن تفتح مغاليق النّافذة واحدًا واحدًا، بدءًا بالمزلاج، مرورًا بالدّرفة اليُمنى، والدّرفة اليُسرى، والسّتارة، وصولاً إلى ما وراء السّتارة من خبايا. بعد المزلاج ستجد نفسك وجهًا لوجه أمام قصّة (كتاب) لتقرأ بين سطورها ما وراء كواليس الظّاهر للعيان، ثمّ تقرأ في قصّة (مدرسة) مقدرة الإصرار على قلب الخاتمة المُتوقّعة للواقع في حكاية موهبةٍ عقيمةٍ تحوّلت بعد عشرين عامًا من الصّمود على خطّ الفشل إلى.. أسطورة! ، لترى بعدها بين سطور (البطل) حكاية بطولةٍ نسجتها أوهام النّاس ممن تسوقهم الإشاعات والتخيّلات ، ثمّ ترى في (تصفيق) صورة من صور أزمات النّفاق خلال أمسية شعريّة تسيّدها صوت الغُبار! ، لنسمع بعدها حكاية صوت مُلوّث قبل وبعد تسنّم صاحبه هرم طموحاته في قصّة (صوت)، أمّا (المشنوق) فتُحدّثنا عن خاتمة قاصّ مغمور بلا نُقطة نهاية في آخر سطورِها. وبـ (المُعلّقة) نكتشف ما يحدث ساعة ميلاد مُعلّقةٍ شعريّة نظَمَتها وطاويط العتمة في غُرفةٍ مُكهّفة.

ثمّ نفتح الدّرفة اليّمنى لتنهمر علينا (عنكبوت) بمصير عنكبوت شاءت أن ترسُم لنفسها حياة خُنفُساء ، وتُفاجؤنا بعدها الحقيقةُ المُدهشة وراء مُباراةٍ تلفازيّةٍ بين فريقي بومٍ وحمائم بين سطور قصّة (مُباراة)، ثمّ تُرفرف ( فراشة) بحروفٍ تُفصح عن الحقيقة الكامنة وراء جاذبيّة ألوانٍ صارخة الإغراء. لتأتي بعدها (بالونة) فاضحةً نهاية بالونةٍ تخلّى عنها نافخها فتخلّى عنها عنفوانها. وتلبها (دواء) لتحكي مأساة قويّ سابق صرَعَت شيخوخته أقراص العِناد . ثمّ تُكملها قصّة(ليلة) موضّحةً انقلاب موازين إرثٍ مُرتقب بفعل ليلة زواجٍ يتيمة. وتُدهشنا (بدر) بتعرية الازدواجيّة السّلوكيّة والدّينيّة لسائحٍ مشطور النّفس بين أرضين وعالمين. قبل أن تُختتم تلك الدّهشة شوقٌ تستثيره رائحة دهن عودٍ مُعتّق في قصّة(عَبَق).

تليها الدّرفة اليًسرى بمُفارقة المصير بين شقيقين اختار أحدُهُما العلم، واختار ثانيهُما الشُهرة في قصّة(المصفوع) . ثمّ (مطر.. مطر) ليُغرق المطر مُخيّلتنا بفوائدٍ تنقلب في حياة آخرين إلى مصائب. أخيرًا يُغادرنا الـ (باكمان) بعد هزيمة النّضج الظّاهريّ بنوازع أعماقٍ مازالت تحت سنّ الرّجولة. لنزيح السّتارة عن (الخيوط الضّعيفة) كاشفين حُريّة عبثيّة تضافرت مع طيش صاحبها لتُرزحه تحت قيدٍ له مًلمس الفجيعة. لندخل بعدها (صومعة) شاهدين على النّهاية المُباغتة في ساعة سوء خاتمة بعد طول زُهدٍ وعبادة قبل أن تكشف لنا قصّة (المصباح) عن نهايةٌ من نوعٍ آخر، وتُبيّن (بر) انعكاس زاوية الرّؤية بين مشاريع أحلام وبين ما يُصنع لأجل الواقع. لنصل إلى (تدوير) شاعرين بتلميح لضرورة إعادة تدوير عقليّات سُكّان جُزء مُحدّد من وجه الكُرة الأرضيّة. ونصل أخيرًا إلى ما خلف السّتار فتُقابلنا قصّة (جدار) بمعركة لم تنته إلا لتبدأ بدايةً جديدةً بين فأرٍ وسُلطان. ثمّ تُخبرنا (الفأرنة) بما يحدُث حين تتحوّل الصّدفة من حادثٍ يؤلم حياة فرد إلى وباءٍ يكتسح شعبًا، وتُعلمُنا (رأي) بما وراء جهل البَشَر بحكمة العُسر قبل اليًسر. وما يكون حين لا تكون مُبرّرات الثّأر غير الوراثة في (تاريخ). وتحكي لنا(ساعة) حكاية أزمة الوقت وأزمة الحضارة. وتُرينا (بُندقيّة) نموذجًا عن البهتان الذي يُنجبه ارتباط الوهم بالإشاعة. و يمتزج ضحكنا بنحيبٍ نفسيّ مكتوم من انقلاب موازين المُعاملة بين زَمَني قحطٍ ورخاء في قصّة (سُخرية العيد) . قبل أن تختم كلّ من (حقوق) و (جاليللو)رحلتنا بصورة ساخرة لمصير العبقريّة حين يواجهها حقد الأنانيّة، وتعتصرها سُلطة الجهل.

الغصّة الخفيّة، الضّحك الذي يُعانقه بُكاء يُعلن عن نفسه مهما ارتدى طاقيّة الإخفاء، الازدواجيّة المرضيّة في صدر الإنسان مُنسحبةً على امتداد المُجتمع، كلّها تنبض على صفحات المجموعة بوضوح. وأظنّ – كابنةٍ لنفس البقعة الجُغرافيّة التي ينتمي إليها القاص- أنّ هُناك ومضاتٌ عديدةٌ لا تلتقط موجاتها إلا روح مواطني تلك البُقعة.

جديرٌ بالذّكر أنّ هذه التّجربة القصصيّة تُرافقها تجربةٌ سينمائيّة تستحقّ المُشاهدة لفيلمين قصيرين(2) ينتميان إلى المجموعة القصصيّة ذاتها، من أفكار المؤلّف (محمّد البشير) وإخراج المُخرج السّعودي (بدر الحمود)، وهُما فيلمي: (بلا غُمد) و (بالونة).

(1) دار الكفاح للنّشر، الدّمام، 2008م.

(2) إنتاج: مجموعة (كرييتيف سينما) للإنتاج، 2008م. إخراج: بدر الحمود.

(3) تجمّع أصدقاء زينب البحراني على موقع (فيس بوك):

زينب البحراني

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى