الثلاثاء ٤ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٢

قراءة في «رواية مرافئ الحب السبعة»

أحمد كروم

المقدمة:

جاءت رواية «مرافئ الحب السبعة» التي صدرت عن المركز العربي، بيروت/ الدار البيضاء، 2012، من تأليف الكاتب العراقي المقيم في المغرب الدكتور علي القاسمي، لتكشف عن نمط جديد في السرد العربي يقدِّم للقارئ آليات فنية بليغة مقنعة في وصف رحلة الاغتراب التي عاش الكاتب تجربتها الواقعية زمانا ومكانا، وصنع أحداثها من فكره ومشاعره.

لقد أفصحت البنية الذهنية لهذا العمل، عن مستويات فنية متميزة ودقيقة تآزرت في إبداع واقع جدلي عاشه الروائي بين طموح مأمول، ومعاناة واقعية شكلت فضاء مشوقا للقارئ العربي.

فقد عبّر المستوى المعرفي لهذه الرواية عن مخزون للقصص والظواهر والأفكار، كوّنت مادة سردية مشوّقة تحتوي على الطريف والغريب والمدهش مما التقطته عين الكاتب واستوعبته ذاكرته بدقة فائقة.

أما المستوى الدلالي فقد أبدع فيه الكاتب في تصوير الظواهر التي كشفت عن همّة إنسان عربي وظَّف ما لديه من عبقرية فنية في ارتياد الآفاق، واستعداده لمغامرة ذاتية في واقع مضطرب نفسيا واجتماعيا.

إنها رحلة اغتراب واقعية تجذب القارئ إليها بوعي شديد، وهو يتابع تداعياتها وأطوارها بين مرافئ الحب السبعة، ويشعر بحجم المعاناة النفسية والاجتماعية التي فرضت على الكاتب أن يجوب الأرض بحثاً عن ملاذ آمن.. إنها تصوُّر لحال مغترب عربي وهو يجوب فيافي التاريخ ومتاهات المستقبل، صاديا من دون أن يتزوَّد بقربة من ماء الفرات، وهو يجتر ندمه وألمه وحسرته، غريبا حتى مع نفسه. مرتحلا من بغداد المغترَب السردي الذي قضى به أجمل أيامه وأوجعها.. وانتهاءً بمدينة الرياض التي تشكّل بياضا في ذاكرته، ليعود بعدها إلى المغرب الأقصى وما تحمله من مفاجآت وهو يجوب مدنها المشهورة كالرباط وفاس وغيرها، ليغلب على الرواية في مجملها منطق تسوده العلاقة السببية المطردة. فكانت رحلة الرواية متلائمة مع كينونة الأحداث التي تمثَّلت أدوارها بمسمَّياتها في طابع دلالي بليغ عبّرت وقائعه عن يوميات مغترب عربي يحكي عن مدوَّنة شخصيةٍ إبداعية جديرة بالدراسة والتحليل، تستحق الاحتضان ضمن المواد الدراسية المقررة في المدارس والجامعات العربية.

أولا: القيمة الفنية للتعبير الدلالي في مرافئ الحب

تتجلّى القيمة الفنية في رواية "مرافئ الحب السبعة" في مستويات عديدة منها؛ قدرتها على إعطاء إشارات رامزة بجانب الدلالة الإشارية التي تجعل المتلقي عنصرا أساسا في إنتاج الدلالة. ثم التركيز على الرمز باعتباره أقوى في التعبير عن كينونات الذات، وما يعتريها من آلام وأحزان مصدرها طبيعة الواقع ومفاجآته المتبدِّلة. وبذا يتضح أن الكناية تحمل دلالتين: الأولى قريبة لا يريدها الأديب، والأخرى بعيدة هي التي يهدف إليها، فهي صورة تختلف عن بقية أنواع الصور الفنية؛ وذلك لأن الدلالة الحقيقية تغادر المعنى، والمراد هو الدلالة الأخرى، التي تكون مستترة خلف المعنى الظاهر .

1. مبنى التعبير الدلالي

يتميز مبنى التعبير الدلالي في رواية "مرافئ الحب السبعة" بالانتقال من اللازم إلى الملزوم، وهي من المسالك البيانية والطرائق الأسلوبية التي ركّزت عليها الرواية في رسم صورها التعبيرية بلغة قوية بليغة تقاس في سبك دلالتها بلغة أدباء الاغتراب والمهجر كجبران خليل جبران أو ميخائيل نعيمة؛ بحيث تصبح اللغة وعاء للواقع وانكساراته في الوعي، فيساير المعنى من منظور متزامن صدى الواقع ؛ لتصور الرواية بطريقة فريدة هموم الذات وما يتصل بها من حياة داخلية وخارجية، من غربة ومعاناة دائمة تجعل الغربة موتا والموت غربة، وهو استلزام حتمي يحمل أبعادا دلالية في الواقع العربي.

" .. نعم الموت غربة. لقد فكر الحكام منذ القديم في طرائق تنفيذ حكم الموت على معارضيهم، فحكموا عليهم بالموت حرقا، وبالموت سما، وبالموت شنقا، وبالموت قتلا بالرصاص، وبقطع الرأس بالمقصلة، وبالموت بالكرسي الكهربائي، ولم يفكروا لحد الآن في الحكم على أولئك البائسين بالموت غربة. نعم الغربة تقتل، كنصل يغمد في كبد الإنسان."(#)

فعلاقة الاستلزام بين (الموت/الغربة) التي استعملها القاسمي في روايته من السمات الحجاجية التي تميّز القيمة الفنية للتعبير، وهي آلية حجاجية دقيقة تجعل الذهن يبني صورا دلالية مقنعة في تصويرها للمشهد الدرامي أو التراجيدي الذي يعيشه العربي في مجتمعه. "لقد حطمت الغربة قرني وفتته. لم يعد لي قرن أجابه به المصائب... فغربتي الطويلة وأحاسيسي المهيضة غيرت ملامح وجهي، ياسيدتي."(#) ثم يقول: " .. لقد طحنتني الغربة بعدكم، ونخلني الحنين إليكم، إلى مرابع طفولتي. هل تفهموني؟"(#)

لقد جاءت أحداث الرواية بعد كارثة (1967) التي تحطم فيها "الواقع" القومي الاجتماعي العربي الذي عرف التكسُّر الاجتماعي والتناقض بين الريف المتخلف والمدينة الحديثة، ومقاومة الأشكال الاجتماعية التي سمّيت تقليدية، والانفصال بين الدولة والمجتمع، فوصلت هذه التناقضات مداها بعد هزيمة حزيران )1967( لتستمر تداعياتها في سائر الأقطار العربية بدرجات متفاوتة، اكتوى المشرق بلهيبها أكثر من المغرب. فكان تركيز الرواية على مستوى التلازم بين الواقع والذاكرة التي عاشت تجربة هذه الفترة العصيبة، تعبيرا مهما جعل الإشارة اللغوية تحمل الغياب الذي يحتم الحضور في دلالتها. وهكذا فتحت الرواية أرجاءها أمام القارئ دون أن تقصي عنه أسرارها، لتحمل تجارب الحب الصامت بين طرفين، لا يجرؤ أي منهما على البوح به في رحلة الحياة الصامة. إنه الواقع العربي المتردي في مستوياته المختلفة . " ... أين سأذهب ياربي؟ معظم الأقطار العربية يعاني بطالة المثقفين.."(#)

فرغم الغربة بجميع آلامها ودلالات أحزانها فإن الكاتب لم يفقد هويته العربية الأصيلة التي ظل يدافع عن مبادئها، في واقع عربي يعرف تكسُّرا اجتماعيا وسياسيا من الخليج إلى المحيط. فجاءت رواية القاسمي لتجسِّد بالكلمة والصورة التحديات التي تعيشها الهُويّة العربية ومساءلتها وسط واقع مهزوم، منتقدة بطريقة ذكية البنية الاجتماعية الداخلية العربية. كما عاتبت طبيعة التفكير الجمعي المتمثل في القيم والتقاليد المتحجرة، نافذة إلى التمزق والاغتراب الذاتي للبطل سليم الهاشمي، وما عاناه من شرخ في الذات التي تختار طريق الخلاص الفردي.

2. بنية الحجاج وتراتبية المفاهيم

إذا كان الحجاج كما يعرِّفه بارلمان Perlman" "هو مجموع تقنيات الخطاب التي من شأنها أن تبعث على إذعان المتلقين للقضايا التي تعرض عليهم أو تزيد في درجات إذعانهم .. فإن غاية الحجاج التأثير في الإنسان بأن يجد نفسه مدفوعا إلى العمل أو مهيأ لإنجاز عمل محتمل"(#).

فرواية علي القاسمي جاءت في مستواها الحجاجي لتنجز عملا معبرا عن ناحيتين؛ ناحية تصديقية وناحية إيقاعية. وهاتان الناحيتان تفرضان على المتلقّي نمطا من النتائج تقوده إليها مقدِّمات استهلالية تتحكَّم منطقيا وبطريقة بديعة في مراحل الرحلة الاغترابية التي يقودها مسار الرواية. أي أن القارئ يجد نفسه ملزما وهو يتابع مسار الحجاج في رواية مرافئ الحب السبعة، بأن يستنتج أو على الأقل بأن يتابع أطوار الرحلة من بدايتها إلى نهايتها؛ بحيث أصبح هو نفسه آلة في إنتاج المعنى الذي يحمله السرد التاريخي المتسلسل للرواية.

بدأت الرحلة مرافئها من فضاء شاسع مجهول، " كانت الحافلة التي أقلت سليم وزكي من بغداد إلى بيروت تطوي الصحراء المترامية الأطراف طيا، لاشيء يحجب البصر أو يصده في الصحراء، لاشيء سوى الرمال، رمال بكر لم يطرقها طارق، ولم ينبت فيها نبت. تصرف عينيك عنها إلى السماء لترى القمر مضيئا ومحاطا بالنجوم اللاهثة، فتشعر بعظمة الكون واتساعه. وتعجب من امتداد الصحراء وشسوعها. ينطلق العقل من عقاله مبهورا بين رمال الصحراء الذهبية والنجوم الفضية اللامعة، وتقول في نفسك لا غرو أن جميع الأديان السماوية الكبرى وُلدت في هذه البيداء، لأن أفكار السماء لا يتسع لها مكان إلا إذا كان باتساع هذه الصحراء."(#)

ولعل الباحث والمحلل لعلاقة الاستلزام التي تميز التعبير الحجاجي في رواية مرافئ الحب السبعة سيجد بأن هناك وعيا فنيا باستعمال مفاهيم تراتبية منطقية منها مفهوم؛ "الاتساع" ومفهوم "القدر" ومفهوم "الحُلم" وكلها مفاهيم مترابطة استوحى الكاتب قيمها التعبيرية من وحي الطبيعة، لتشير بذكاء ومهارة إلى استنتاج المعنى وإثباته واضحا في ذهن القارئ؛ وهو الغرض الأساس الذي نبّه إليه البلاغيون في طرق الإقناع "اثبات الصفة بإثبات دليلها وإيجابها بما هو شاهد في وجودها آكد وأبلغ في الدعوى من أن تجيء إليها فتثبتها ساذجا غفلا"(#) . وقد كان لهذه المفاهيم حقولا حجاجية حية في رواية القاسمي؛ أي لها حياة تنمو فيها وتتسع وتمتد، باستشكالاتها، وبالأسئلة التي تنتجها في مستواها التواصلي.

فكان مفهوم " الاتساع " الذي يبحث فيه الكاتب داخل فضاءات متداخلة ومعقدة في حجمها الزماني والمكاني يذكر برحلة الفيلسوف الألماني فريدريك نتشه في عالم الوجود، وهو يبحث عن الهدوء والطمأنينة فوظف فضاء الصحراء ولوازمها من قمر ونجوم وعلاقتها بالامتداد والتأمُّل، واستذرافها لدموع الشوق والحنين من أجل إثبات معنى من المعاني الذي عبر عنه نتشه بصحراء العذارى وهي في تعبير القاسمي: "رمال بكر لم يطرقها طارق ولم ينبت فيها نبت" إنها انطلاقة من الواحة، والصفاء، والهدوء الذي تفتقده المدينة الصاخبة للبحث عن المجهول في ليل الوحدة والاغتراب " أتراني كنت أبحث في ليل الوحدة عن مدينة لم تبن، مدينة جدرانها من ذهب، وشوارعها جداول رقراقة، وسماؤها من زمرد، وهواؤها بلسم لجراح الماضي؟"(#) .

إنها رحلة البحث عن المكنون في فضاء مجهول " أتراني أفتش في عتمة دروبها عن امرأة لم تخلق، امرأة جدائلها سنابل، وشفتاها بسمة دائمة، وعيناها شوق ومحبة؟ أتراني كنت أريد أن أعثر في مدارسها القديمة على كتاب لم يكتب، كتاب صفحاته حقول، وكلماته زهور، وحروفه موسيقى وغناء ؟ وعندما تشرق شمس الصباح على أشلاء أوصابي وأوجاعي وأوهامي، وتضيء أشعتها الدروب والأزقة، تتبخر أحلامي ولا أجد ما أقوله للشمس والصباح."(#)

فكان مفهوم" الاتساع" تعبيرا عن رحلة العربي المتشبث بأرضه بصحرائه التي عبرها الكاتب بحافلة الركاب، لكنها عبرته وأيقظت في وجدانه مخيال التنقل في أمكنة عبر سهولها وكثبانها وهضابها، لتفاجئه بغياب النبت كناية عن الأمن المفقود الذي يرتبط بالكلأ والإنسان..

أما مفهوم "الحُلم" فقد حاول الكاتب أن يفهم من خلاله الحاضر والتاريخ، ولكن دون جدوى. إذ انتهى إلى حالة من الأحلام والهلوسات واختلطت الأشياء في ذهنه، حتى بدا السير في طريقه مستحيلا لفقده التوازن الفكري وشعوره بحالة التشظي والاضطراب النفسي. إنه الحلم الممزوج بالرغبة القوية في إدراك أسرار مغامرته التي يتحدى أقدارها بحماس قوي يضيء فتيله ماضيه الذي ينسيه عجز حاضره.

"جئتِ كالحلم وكالحلم مضيتِ، حلم لن ينسى. وبقيتُ أنا أغوص في أعماق ذاتي، أغرز رايات انكساري، وابحث عن كنه الحبّ. آه لو أني أعرف سر الحب، لأدركت سر وجودي، وسر رحيلي، وأسرار العيون التي تحيرني ألغازها. ولكن عقلي عاجز عن إدراك أي شيء.(#)

وقد ارتبط مفهوم "الحلم" في ذهن الكاتب بمفهوم ثالث وهو مفهوم "القدَر" الذي عبر عنه في روايته بأحاسيس المستسلم الذي يرى فيه نفسه رهينة في قبضته ..."فنحن رهائن القدر نسير بعيون معصوبة إلى مصائرنا، ...أحسست يوم التقيتك أنني مجرّد قطرة في محيط متضارب من أمواج هوج تندفع عمياء نحو الشاطئ، وتتكسر على صخوره، فتتحول إلى فقاعة تتلاشى في هباء الأثير؛ مجرّد ذرة متناهية الصغر في هذا الكون الزاخر بالأفلاك، والمجرات، والكواكب والنجوم ذات الجاذبية العظيمة، وليس بوسعي أن أتوقَّف عن الانجذاب إليك، ولا باستطاعتي أن لا أدور في فلكك، ولا بمقدوري أن أجري في أي اتجاه عداك.(#)

إنها مفاهيم محورية استعملها الدكتور علي القاسمي ضمن آلياته الحجاجية في التعبير عن البُعد الاجتماعي الحواري، وهو مبدأ يرتبط بمفهوم التعاون مع الغير في طلب الحقائق والحلول وفي تحصيل المعارف . فقد اجتهد الكاتب في إطلاع محاوره على كل ما يعرف وما يعتقد إشارة أو تلميحا، طلبا لمشاركته هذه الاعتقادات والمعارف من أجل أن يحقّق البُعد الاجتماعي للحوارية التي أبدع في تصويرها. ومما يزيد هذا البعد الاجتماعي رسوخا هو محاولته تجاوز الخلافات في الرأي بين المتحاورين تجاوزا لا يأتي بالحل الوحيد والأوحد بقدر ما يأتي بحلول متوازنة ومعتدلة تستجيب لأوضاع تتغير عناصرها وتستجد مطالبها على مر الزمن. فكانت العادات الاجتماعية العربية الراسخة خير معين في توجيه الآليات الحجاجية التي وظفتها الرواية في مشاركتها الاجتماعية.

كما وقفت الرواية عند جانب الخلاص وهو الوحيد الذي كان يلوذ به الكاتب في بحر أحزانه، وهو القراءة والكتابة؛ وهما عنصران وفيان يعبّران عن مستويات التجاوب مع الذات، يمارس الكاتب من خلالهما الهروب من عالمه الحزين وزمنه الكئيب. "كنت أتقرب من هالة اللغة، والتوغل في أدغالها، واستكشاف خباياها وأسرارها. كنت ألوذ مختبئا بين تلال العبارات، أنحت من الحروف والكلمات حوريات أراقصهن، أخلق من الفواصل والنقاط عالما يستحيل وجوده في واقعي الأليم. كل كلمة بسمة حييّة تغرق في سيل من دموع، وكل عبارة ضحكة يتيمة تُخنَق في غصص مكبوتة، والنص همسات وجلة تضيع في صخب المعاناة، وأوراقي تمسح دمعتي وتحتضن أسراري."(#)

فكان شغفه بالكتابة كمن يواجه الموت، مثل شهرزاد التي تحكي لتحيا، وتسرد من خيالها ما قد يؤجّل الموت ويبطئ الزمن. كمن يبحث عن الزمن الضائع، الذي يطارده في كهوف الذاكرة، كمن يطارد فراشات ملوَّنة في حقول مزدانة بالخضرة والربيع. فيرى الكاتب أن الزمن والحركة متلازمان، ويرى عدم استحالة الفصل بينهما؛ " أطارد الزمن الضائع، لأقبض عليه وأعتقله في سراديب الزمن الحاضر ليتسع المستقبل لي قليلا.(#)
فكان الحزن هو العاطفة التي فجرت رغبة القاسمي في الكتابة، ولعل المتأمل في المستوى الدلالي لروايته يجد أن الكاتب يميل إلى بنية الحزن، برؤية فكرية مفعمة بالزخم النفسي الآني والإنساني، وقد تميزت هذه البنية بالدقة في التعبير عن ألم النفس وتأمُّلها في مواجهة الواقع بأبعاده المختلفة، وهي تستشرف آفاق مستقبل غائب مجهول. " فلحظة حزن واحدة تمسح ساعات طويلة من الفرح كأنها لم تكُن قط، وتفجّر في خبايا الروح ينابيع الأحاسيس والمشاعر والعواطف."(#)

لقد كُتبَت رواية "مرافئ الحب السبعة " بنفس جريحة لكنها مليئة بالشموخ والكبرياء مزجت بين الهموم والأوجاع التي فاجأتها. إنها نفثة ألم موجع من وجدان تحطمت فيه الأماني، وحطت عليه أثقال من الإحباطات، وفقدان الأمل، حتى من ابتسامة لا تجيء إلا عابرة، ودموع جامدة في المآقي زادت من تعميق ألم الغربة في نفس الكاتب وتعذيبها. وكأن الكاتب قد استسلم لقدر أشعار السومريين التي كانت يطبعها الحزن، نديَّة بالدمع، مجللة بالسواد، مسربلة بالكآبة. " نحن الذين اخترعنا المرثيات والبكائيات والمناحات قبل أن تنشدها الخنساء أو يرددها متمم بن نويرة."(#)

ثانيا: دلالة الرمز بين أعراف الناس وحنين الوطن

لم تهدأ ذاكرة القاسمي في روايته، بل ظلت في حركة مستمرة، تلتقط صور الماضي، وتنتقل من قطر إلى قطر، ومن مدينة إلى أخرى إلى استحضار وديع للماضي لكي يمنحه الاستمرارية والحضور، فهو يخاف الزمن ولا يأمن جانبه. إنها الدلالة الرمزية التي تعلمها من جوانب عديدة منها:

أ- عرف الناس الموشومين في ذاكرته بطبائعهم المتجددة في وقائع الذاكرة وأحداث التاريخ.
" ذاكرتي موشومة بدموعك يا أمي. تمنيت أن أموت في يوم هادئ على الفراش الذي ولدت فيه في حجرتك التي تظللها نخلتنا الباسقة. تمنيت أن أموت بين ذراعيك فتذرفين دموع الفراق، تماما كما ضممتني إلى صدرك يوم ولدت وذرفتِ دموع الفرح. أما اليوم وقد رحلتِ، فمن سيبكيني، يا أماه؟"(#)

لقد ظلت ذاكرة الكاتب موشومة بالملامح التي لوّحتها شمس بابل بسحرها، وهي تجسد طفولة الكاتب التي لا يدري ما فعل الزمن بالأشخاص الذين ألفهم وعاشرهم طيلة صباه، ومنها شخصية "عيدة" التي ظلت ذاكرته موشومة بذكرياتها المتميزة:

"..ما تذكّرتُ طفولتي، ياعيدة، إلا وكنتِ أنت تركضين في مروجها الخضراء بهمة وحزم، تردّين نعجة شاردة عن القطيع، أو تنحنين لتحتضني حَملا لم يستطع مجاراة القطيع ....ولكن قولي لي، ياعيدة، أين أمسيت اليوم؟ هل عدا عليك الزمن الذي لا يرحم كما عدا علي؟ هل غزا الشيب مفرقك؟ هل أقعدتك الشيخوخة فلا تستطيعين المشي (#).

ب- تجربة الاغتراب عن الوطن التي منحت القاسمي فلسفة عميقة للحياة والزمن، فقد دفعته المعاناة إلى التفكير والتأمُّل والغوص في عمق الأشياء من حوله، والبحث عن المتعة في الألم وقد جسد ذلك بقوله:

" وطني هو قُبلة أُمي على جبيني، وضمّة أُمي إلى صدرها، وحكايات أُمي والنعاس يداعب أجفاني في دفء فراشي، وخلطة الحليب والزبدة والعسل التي كنتَ تسقيني في فطور الصباح، وجدائل أختي الكبرى وهي تقودني إلى المدرسة"(#) .

ج- رمز الطفولة الذي لا يمثل للكاتب سوى الأرض المفقودة البعيدة، التي لم يبق منها شيء سوى صور وذكريات، يحاول أن يلملم هذه الصور وينسج منها لوحات فنية شعرا وحكايات، ضيع معالمها الزمن.

"وطني هو الراعية الصبية، عيدة، ذات الوجه الأسمر المليح المتناسق التقاطيع، والجسم الناحل الصغير، والذؤابتين المنفلتتين من عصابة رأسها السوداء. عيدة التي كنت أجري خلفها وهي مسرعة إلى عملها في المروج، وأنا أنادي "عيدة، عيدة" فتلتفت نحوي ملوِّحة بعصاها مهدِّدة وهي تقول: "وجعة شديدة، وأيش تريد من عيدة؟" فكنتُ أضحك للهجتها البدوية، والحزم البادي على وجهها الأسمر الصغير."(#)

إن مظاهر الأعراف والوطن والطفولة تجسّد ارتباط الكاتب بالماضي وحنينه إلى الأرض البعيدة ومرفأه الأول بغداد، فهو يرى حياته الآتية ومستقبله في أرضه في قريته التي لا يستطيع نسيانها رغم عيشه بين دروب المدينة وأحيائها الراقية في المرافئ الأخرى بعيدا عن بغداد. فهو يرى الزمن ظالما في سيله حين حرمه من ماضيه ووطنه، "تمنيت في تلك اللحظة أن أعود إلى قريتي، وألقي ببقايا نفسي المبعثرة في أحضان أمي، أطوّق عنقها بيدي، أقبل وجنتيها، وألثم يديها، وأشم رائحة الحناء في ذوائبها البدوية. بيد أني غادرتُ البلد مكرها نزولا عند رغبة أبي وإلحاح أمي وحث الرفاق لي. كان تقديرهم أن حياتي في الغربة خير من مماتي في وطني، أو على أقل تقدير أن حريتي في الغربة خير من سجني في وطني."(#)

" كيف أنسى يا أبي تربةَ أهلي، وماء الفرات، ونخلة أُمّي؟ فقد تشرَّبتْ بها روحي، وسرت في دمي، ونبضَ بها قلبي. وهل يحيا المرء بلا قلب؟ كيف أنسى يا أبي وطني؟ ليتني كنت أستطيع ذلك لحظةً واحدة، فهو يسكن كياني، ويملأ أحلامي."

إنَّها دلالة الحنين التي يحملها "نبض القلب"، لتظهر واضحة في متن الرواية منذ ذلك الفجر الذي احترف فيه الرحيل، لتظل الشمس تشرق كلَّ صباح في عينيه من العراق، وتغيب كلَّ أصيل في العراق، حتى إن ساعته أدمنت توقيت بغداد، أينما ذهب.

إنه العراقي المغترب الذي لا يستطيع نسيان وطنه رغم عبوره إلى الضفة الأُخرى، حتى جعل القارئ يقتنع يقينا، وهو يرحل معه في أيّ المحيطات أبحر، وفي أيِّ البحار نشر أشرعته، بأنَّ بوصلة القلب ستبقى متجهةً دائماًً نحو منائر وطنه العراق؛ حيث يجري ماء الفرات على الدوام في عروقه وأوردته وشرايينه ودمعه.

وهكذا جاءت في الرواية رمزية الوطن والطفولة ممتزجة بالزمن في مقامات قريبة من ذهن القارئ، متداولة وشائعة، لتعبر عن قدرة المقام في إيرادها بشكل غير متكلف مع نقلها لواقع السياق الذي وردت فيه بشكل دقيق، وفي صور متعددة كقوله: " سألتكِ أيتها الطائرة المرفرفة في فضاء روحي منذ الأزل، سألتك أن تعيريني بعض ريشك لأبني عشا ثابتا بين الضلوع لأحزان القلب"(#)

كما استعانت الرواية في تجسيد الصور الرمزية في إثبات معنى الغربة والحنين على تكرار الصورة الكنائية، من أجل إثبات إشارات ضمنية للمعنى الأصلي، يتم تجاوزها إلى بناء صياغي له نتائج مغايرة . فكان اللازم في الكناية كالجزء الحي الملتقط حالة من أحوال الواقع الأصلي، فهو قادر على بعث الفكرة وإحضارها، وإيضاح مقصدها (#). وفي هذا المجال تلمّح إشارات تشبيهية داخلية في النص تشير إلى هذا المعنى (الاتساع والضيق) و (الأحلام والأشجان) " لقد ضاق بي المكان على اتساعه حتى لم يعد بإمكاني أن أطلق يمام أحلامي أو عصافير أشجاني .."(#)

فعلاقة اللزوم تبقى مسيطرة على مراحل الغربة في علاقتها بالحنين في ذاكرة بطل الرواية، تتفاوت درجاتها في مستوى الزمن؛ بحيث تتحدَّد بمُدد زمنية مختلفة بين مدىً طويل؛ حيث الطفولة وأيام الصبا والقرية والأُم والنخلة والنهر والأصحاب والمدرسة ونصائح الأب وعلاقته مع الآخرين لاسيما مع كاكا يارة محمد علي الصدوق والخل المحب، الذي توافرت فيه صفات الإخلاص، لتنقطع الصلة بينهما على إثر ترحيله لكنه يبقى في ذاكرة الأب والابن لا يبارحها. وهناك مدىً زمني قصير حيث الرباط والجامعة وفاس وأثيرة والألم المتصدع في القلب بعد أن رفضت أثيرة الزواج منه، وهو إجهاض لحلم سليم الهاشمي في الاستقرار والأمان في وطن آخر غير وطنه الحقيقي. لتظل معالم الرحلة عبارة عن صور مختزلة للزمن شبيهة في رمزيتها بما يختلج في الصدر لا تفصح عنه العبارة تفاديا لطول المقال بذكره، فكان الرمز آلة نائبة عن ذكر تفاصيله (الغرباء أقرباء)(#)، (حمى الفشل)(#)،(نخلة أمي)(#)، (الوطن المعتق)(#) لذا نجد مقام الرواية يقدّم صورا كنائية مختلفة تتبدل في إشاراتها الرمزية لتؤكّد حالة واحدة هي (الغربة والحنين) التي عبّر عن مسارها الزمني وتطورها في الواقع الوجداني بقوله: "ها هو عمري ينساب مثل انسياب مياه المطر من قمة التل إلى حضيض الوادي ."(#)

وقد يرتفع مستوى الأداء في الصورة الدلالية عندما يشترك في تكوينها أكثر من عنصر من عناصر البيان، فالكناية تبدو أكثر فاعلية عند انضمامها إلى الاستعارة فتمنح الصورة مزيدا من الايماء والتأثير، وهذا ما غلب على صور المقامات الوصفية في أغلب الرواية. فقلما نجد الكناية تأتي مفردة، كقوله: (أيها الوطن المعانق روحي بلا فكاك)(#) . ( أيها الوطن الشارد في فلاة العمر)(#)، ( أنهارُ في آخر النهار)(#)، (غبار المسافات) (#)، ( شوقي بحّار هده التعب)(#)، (صليل الحنين)(#) . إن خيال القارئ يتجه مباشرة إلى مجال الحزن والأسى فالراوي يحاول إظهار حزنه عبر الصورة الكنائية الرمزية الدالة (لفّني الحزن)، و(ضمّني)، موظِّفا الاستعارة للتعبير عن كنايته، فالاستعارة المكنية في الرواية حققت معنى حجاجيا كان الغرض منه إظهار مقدار هذا الحزن بالتعبير الكنائي الذي جاء كناية عن النسبة التي ترافقه في غربته وهي (صرت حزينا) بين المرافئ السبعة.

كما مثلّت المدينة بمختلف أقطابها وتوجُّهاتها الحلم الكبير للهاشمي لاسيما وهو الهارب من مدينته العريقة بغداد، الباقية دوما في الذاكرة، والحاضرة أبدا في الروح والجسد. فقدّمت معنى مركزيا من خلال المعنى المباشر، وقدمت أيضاً معنى ثانويا فيما ترمز إليه من علاقة عرفية مكّنت الكاتب من توجيه قصد الكلام بأسلوب الكناية. "لقد طوّفت في مدن الأحزان، وتنقّلت بين البلدان، عبرت البحار والشطآن، فلم أر مثلك في شموخك، وتناسق شكلك، وروعة لونك، وطيب ثمرك. كل الأشجار قميئة القدر بعدك. شاهدت أشجار الأرز الضخمة في ذرى جبال لبنان، ورأيت شجرة الباوباب العملاقة في جزيرة مدغشقر، وفي جنوب أفريقيا، شاهدت الأهالي يتجمّعون في الربيع حول شجرة الجكراندا الزاهية بأوراقها القرمزة وهو يتمتمون بأمانيهم كيما تستجاب، وفي أقصى بلاد سوس تلمست شجرة الأركان الصلدة التي قاومت زلزال أغادير؛ ولكن لم تدخل قلبي شجرة مثلك، يا نخلة أمي."(#)

وقد شكلت بغداد في وجدان الكاتب منبع القداسة، التي يستلهم نورها من الوجد والشوق الذي يعيشه في يومه وليله حتى أصبحت خلوة لهواجسه وآلامه. " أتوضأ بالدمع وبالوجد، أيمم وجهي شطر بغداد، أصلي ركعتَين للعشق وثالثةً للوجد، تتطاير في عينَيّ فراشات بيض وصفر وزرق، تحمل على أجنحتها الشوق، أحترق بالحنين، تطمسني ظلال الرؤى، وأغيب في صلاة ودعاء. طوبى للنخيل المتشبثة جذورُه بأرض النخيل، المجد للإنسان الراسخ الأصيل. "(#).

فرغم نقد الكاتب لمرافئه السبعة التي لم يجد فيها متسعا لطموحه المتدفق، " المرافئ كلها غريبة، والمحطات جميعها بائسة، تخلو من رائحة الأهل ومذاق الفرات."(#) إلا أنه رفض أن يهجرها كلية ولكن ينظر إليها نظرة الغريب نظرة (ملاح سومري) لا يمكن الابتعاد عنها قط كأنها "متحف ثقافي " في تصوُّر نتشه لأوربا التي تنقّل كثيرا بين عواصمها ومدنها ولكنها لم تشفع له في تطييب عاطفته المضطرمة أو تخفيف حدة نفسية ملتهبة. يقول عن مدينة تكساس الأمريكية "..أمسى سليم نظر إلى وجوه المارة في هذه المدينة فينكرها بل لا يستسيغها. إنها وجوه غريبة كما هو غريب عنها. وأخذت أصوات أهلها تبدو له نافرة ناشزة لا معنى لها، على الرغم من إتقانه اللغة الإنكلزية. .. ينظر إلى شوارع المدينة وأبنيتها، فيجدها غربة العمارة، لا تلقى منه إلا الاستغراب بل الاستهجان." (#)

وقوله عن الرباط المدينة المغربية العربية: "وصلتُ إلى الرباط، مدينة جديدة كلَّ الجِّدَّة عليّ. لم أَرَها من قبل، ولم أَخْبُر دروبها، ولم أعرف أزقتها، بل من السهل أن تضيع خطواتي فيها. ولكنَّ شيئاً في هذه المدينة جعلني أشعر بأنَّها ليست غريبة. فوجوه أهلها تحمل ملامح وجوه أهل بلدتي. وصوامع جوامعها ينطلق منها ذات الأذان الذي كنتُ أسمعه في منزلي منذ طفولتي، وأزياء أهلها قريبة من أزياء أعمامي وأخوالي. أليس هذا ما كنتُ أبحث عنه بلسماً لمرض الحنين إلى الوطن الذي أصابني في أمريكا؟"(#)

ثالثا: الرمزية الروحية ودلالة المضمون

حاول مضمون الرواية أن يحدّد مواقع العناصر المكونة في تركيب الرواية، فهو يكشف عن أبعاد البنية الدلالية، وخصائصها الأساسية؛ بحيث أصبح دالا مثلها بفعل صيغ التعبير، وانتظام البنية الحكائية التي تعتبر الشخصية الروائية إحدى مكوناتها التي تشكل بنية النص الروائي. فمضمون النص الروائي في رواية "مرافئ الحب السبعة " يتطلع إلى سرد أحداث متنوعة ذات فاعلية مؤثرة في المتلقّي يتابعها على مدار الرواية، التي قسِّمت إلى ثلاثة أقسام، كل قسم يتحدد بمدينتين، الأولى، المدينة التي غادرها وهي بغداد، والثانية التي لجأ إليها وهي بيروت، و القسم الثاني رحلته بين نيويورك وأوستن، والرحلة الثالثة وهي التي تمثل القسم الثالث، رحلته بين الرباط والرياض لينتهي أخيرا بعودة سليم الهاشمي الذي هو بطل الرواية إلى المغرب . وكلها أطوار تعبر في مضمونها عن صور الارتحال التي مثلت للكاتب أوجع جوانب الحنين والشوق في علاقته بالمكان، والإطلال على الطبيعة والناس والعمران التي تميّز مرافئه السبعة اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا، مع التركيز على ميول الشخوص الدينية والروحية، وعاداتهم وتقاليدهم ...

لقد عرفت محطات الرواية في رحلتها رموزا روحية مشبّعة بالخصوصية والتجريد تخاطب حدوسنا؛ بحيث هناك "مضمون روحي" تحمله الدلالة الداخلية للنص يمتزج فيه القدر بسوء الحظ الذي كابده الكاتب، بالإضافة إلى دلالات أخرى تحملها معاني كنائية نفسية؛ (توتر، يأس، ألم، انقباض، انبساط، إخفاق، وقع الذاكرة، النور، الهروب، الإعتام، إيقاعات الصراع،الضياع، النحس، تشاؤم...)

"في سريري البارد، أنا ملك المتوج، أتمدد على عرش الغربة، يحيط بي رعاياي: الهم والسهاد والأرق كل ليلة، حتى إذا مللتُ صحبتهم وعييت من حضورهم انصرفوا، لتحاصرني جيوش الكوابيس في منام الوحدة. لاينسحب منها جيش حتى يحل محله جيش أكثر عدة وأكبر عددا."(#)

" يقولون يا أمي، أربعة تهدم البدن: الهم والحزن والجوع والسهر. وقد تضافرت هذه الأربعة عليّ، كما يتضافر القتلة على وحيد أعزل."(#)

وفي تجليات اليأس والإخفاق يقدم نفسه كنموذج لأرقى مقارناته فيقول: " لم يكن سليم أول من مزق أو أحرق أو دمر ما أبدع. النحّاتة الجميلة كامي كلوديل هشّمت جميع التماثيل الرائعة التي أمضت الأيام الطوال في إبداع ملامحها، لأن أيا منها لم يستطِع أن يهبها شيئا من السعادة التي كانت تبحث عنها.. أبو حيان التوحيدي كتب عشرين كتابا فخما، ولكنه كان يعيش في بؤس وشقاء. كانت حتى الكلاب في البصرة تشبع من بقايا ولائم الحكّام والأغنياء، أما أبو حيان، أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء، فيهصره الجوع والسغب .."(#)

وفي الشعور بالضياع وسوء الحظ، يصف نتائج النحس والتشاؤم فيقول: " هرب هو ورفيقه زكي إلى بيروت، فاغتالوا زكي في شارع الحمراء وسط بيروت. ففر هاربا إلى أمريكا لمواصلة دراسته. وهناك أصيب بمرض الحنين إلى الوطن، فحصل على عمل في المغرب. وها هو المغرب يصبح هدفا لرصاص العسكرتارية، شعر بالضياع. لم يعرف ماذا يفعل. هل يواصل رحلته إلى المغرب بعد أن اشترى سيارة صغيرة بما ادخره من دخل عمله في أمريكا؟ هل يعود إلى من حيث أتى؟ هل يبحث عن مكان جديد في هذا الوطن العربي المستباح؟ تأكّد له أنه سيئ الحظ، وأن سوء طالعه يلاحقه أينما حلّ وحيثما رحل، ولعل من الخير له أن لا يذهب إلى أي مكان يحبه، لئلا يلحق الضرر بذلك المكان ويصيبه السوء."(#)

ولما حل الدكتور سليم بالمغرب واختير لإلقاء الدرس الافتتاحي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط توجّس في نفسه خيفة وشرا، إن النحس يلاحقه أينما ذهب. "كيف سيكون الوضع في هذه الكلية، إذا كان عميدها سيقدم استقالته بعد هذه المحاضرة الافتتاحية، بل في أثنائها."(#)

لقد أثَّر الوضع النفسي والاجتماعي في طبع سليم الهاشمي، حتى أصبح وجدانه مرآة عاكسة للانقباض والانبساط الذي يشعر به من حين لآخر، وهو يطالع وجوه الناس ويخبر ملامحهم ومعاملتهم. يروي عن حاله فيقول: "ثمة وجوه تطالعنا في صباح يوم من الأيام، فتبعث الفرحة في نفوسنا، كما تبعث النار الدفء في أجسادنا في يوم شتائي عاصف، وتبقى بذرة الفرح نامية مزهرةً حية طوال النهار، تمنح ساعاتنا اللون والحركة والبهجة. وثمة وجوه ما إن يقع بصرنا عليها حتى نشعر بالضيق والنكد يجتاحان أعماقنا، مثلما يخيم الظلام على حارة انقطع عنها الكهرباء، واختفت منها القناديل والفوانيس."(#)

ولكن رغم المعاناة التي لقيها سليم الهاشمي في رحلة الاغتراب يبقى دائما سؤال الأمل البعيد يراوده في وحدته وهو يجاري الهموم والأحزان، وكان يسائل نفسه قائلا: " أما لليل الأحزان من صبح؟ لقد تساقطت أفراحي في خريف الغربة حتى لم يبقَ منها شيء يعطي لونا لحياتي، فهل تعود إلي أفراحي وتغتني بها روحي كما تكتسي أغصان الأشجار بالورق الأخضر بعد انصرام الخريف؟ لماذا يا قلبي اعتزلت الفرح بعد أن كنت وإياه رفيقين لا تفترقان في ملاعب الطفولة وسمر الأهل؟ "(#)

كل شيء في تجربة رحلة الاغتراب في مرافئ الحب السبعة يمضي نحو الوحشة والخوف من الآتي، وعدم الثقة أو الانسجام بين الكاتب و(المرافئ، الفضاء المفتوح) والذكريات لا تمر إلا باكية، فتُلزم سليم الهاشمي جانب الصمت والشكوى وبث الزفرات وكأن الوجع والأمل أصبح إدماناً يمارسه على نفسه ( الوطن، القلب) فيهما الأمن والهدوء والاحتماء لتكشف عن واقع مليء بالجراح ومجتمع مضطرب وحياة سوداوية معتمة، تضيق ولا تجد مكاناً لاستيعابها ولو بضوء خافت، لتنكر نفسها من نفسها ( الرسائل اليتيمة التي تأتي ولا تأتي) . لقد غيّر هذا المجهول المدرك الذي يفزع من حوله دائماً، ليتحول إلى شبح ينكر الحياة ويخاف الكلام، وكأن القدر يسوقه حيث يشاء، ولا شيء سوى الهروب والانكفاء على الذات.

لقد ظلت الدلالات التعبيرية في رواية مرافئ الحب تستدعي الأحلام المؤلمة والدموع الدامية، تذكّر بالطفولة المعذبة التي دافع عن براءتها الأدباء والشعراء الكبار أمثال وليم بليك William blake . فجاءت رواية مرافئ الحب السبعة في قمة الشفافية والأحاسيس المكثَّفة التي تحرّك الوجدان ليفكِّر في العذاب النفسي الذي يعاني منه الإنسان على يد الإنسان، وإثارة التعاطف معه. وزاد من إبداعها توظيف اللغة السهلة الممتنعة لنقل معاني أكبر وأعمق عن نفسها، وعن الآخر المنتظر والمؤلم في آنٍ واحد..

رابعا: جدلية المعنى ورسائل الوداع

حاولت الرواية أن تطابق بين الدال والمدلول، وأن تحافظ على بعدها التداولي التوصيلي، لتصبح لغتها ذات تعبير جمالي تحمل جرأة عالية في استخدام رسائل التعبير الرمزي، وكذا في اختيار الألوان الدالة من أجل إيصال المعنى بدقَّة معتمدة على الإيحاء في التوصيل والإبلاغ.

إنها جدلية التفاعل التي حاولت إصابة الصورة بما يقتضيه الواقع من مفارقات وتناقضات، فوظفت عناصر الكون من ليل وفجر وظلام، وخريف وربيع ضمن حركية صراعية انتقلت بين نبض الإزاحة في اللون كالأزرق والأصفر والأبيض التي اختارها المغترب كدلالة رمزية لعدد من الوقائع الهامة في مراحل رحلته، والجدلية العلائقية المتشابكة بين المستقر واللامستقر الذي ينتظر المغترب. فكان لفعل الانتقال دور بارز في تصوير جدلية المعنى التي وظف فيها اللون في تناسق كبير مع رسائل الوداع، من أجل استحضار الأشياء و رسوخها في ذهن الراوي.

فقد دل لون بدلته الزرقاء على (الفراق)، " ارتديت بدلتي الزرقاء كما لو كان لون الفراق أزرق كالسمّ".(#)

ودل لون الخريف الأصفر على (الحزن)، " تحت ضوء القمر، كانت أوراق صفراء تتساقط من الأشجار المنتثرة على طول الطريق. ووجدتني أناجي نفسي قائلا: في الخريف تتساقط أوراق الأشجار، وتشذب أغصانها لتنمو من جديد. أما أنا فقد تساقطت أوراقي وقُطِعت أغصاني وأنا في ربيع العمر، وبقيت جذعا أجرد لا يستمرئ نسيما ولا يمتص ندى، ولا يرتوي من ضوء الشمس. بل إنني مجرد ورقة ذابلة صفراء على قارعة الطريق ستذروها الرياح بعيدا عن موطن الشجر. "(#) .

ودلّ اللون الأبيض الناصع على (الحنان) " ..ظهر سرب من البط يتهادى منحدرا مع تيار النهر، فذكرني ببطتي ... كان لون بطتي الناصع البياض يعانق اللون الفضي لماء النهر، فيتداخل معه ويمتزج به ويذوب فيه، حتى يغدوان لونا واحدا متموجا متلألئا، بفعل حركة النهر ونور القمر المطلّ من الأعالي"(#)

لقد فتح مفهوم التنوع في اللون بمعانيه الدلالية أمام الكاتب أفقا واسعا، حفزه على اختيار ما يراه مناسبا لشخصياته، وما يراه ملائما لعباراته المؤثِّرة؛ كما تعامل مع الأوصاف والمعاني بذكاء بحيث شغلت الصفات مساحة نصية تدل على لباقته واحترامه لقيم وأعراف المجتمع العربي المحافظ الذي ينتمي إليه.

فجاءت رسائل الوداع لتحمل معاني جدلية يمتزج فيها الزمن بلون الفراق ودواعيه المختلفة التي طالما تغنى بها الشاعر العربي واكتوى بأحاسيسها، إنها ساعة الرحيل ولحظة الاغتراب التي تودع فيها الكلمات الأشياء.

"تسللت من دارنا قبيل الفجر والطيور مازالت في نومها صامتة، والأصوات خافتة ما عدا صوت المؤذن المتعب يتناهى إليّ ضعفا واهنا من صومعة مسجد القرة، ونعيق غراب ف غير أوانه. مؤمنا ببلاغة الصمت، تأبطت أحزاني وسرت على رفات ذكرياتي، وودعت الدار، والبط، والنخيل، والبئر، ومصابح الشوارع المرتجفة المتناغمة مع صدى الأذان المتهدّج، وتركت قلبي كسيرا على قارعة دروب قريتي."(#)

" ... ألقيت نظرة وداع كليلة على الزهر الحزين المنبث ف ضفة النهر، وعلى أمواج النهر الوانية المتعبة، وعلى النجوم المتساقطة المتهاوية على مياه النهر، وعلى صومعة المسجد العتيقة، وأنا أجرجر خطوي المكابر عبر الجسر... لن أرى بلدتي بعد اليوم، ولن ارى اهلي، ولن أرى طلابي.."(#)

" غادرت القرية في الفجر، ورحت أعبر الجسر للقاء زكي. تناهت إلى أنفي رائحة ماء الفرات المخضّب بالنعناع والدماء. الكواكب لمّا تنم، والقمر ما زال شابا في كبد السماء، يرسل نوره باهتا متبخترا إلى النهر. ألقيت نظرة عليه. بدت لي أمواجه متسارعة كما لو كانت هي الأخرى ترحل خائفة مذعورة. "(#)

فجاء مضمون الرواية غنيا في جانبه الدلالي والسيميائي خصوصا في مجال نظام العلامات المرجعية التي تشكل النسق الذي يقوم عليه النص، ونقصد بالنسق نظام الدوال والدلالات والأدلة التي تؤلِّف جسد النص؛ بحيث يتحوَّل النص إلى نسق وليس إلى طريقة في التركيب، وذلك للطريقة الإبداعية التي مهرها الكاتب في ربطه بين مرجعيتين مهمتين ؛ المرجعية التاريخية، أي كيف يتحرك النص داخل التاريخ وكيف يتفاعل معه، ثم المرجعية الاجتماعية التي نقلت الحدث التاريخي إلى بنية واقعية يتفاعل التاريخ فيها مع مسار الأحداث بصدق وواقعية. فهناك موازنة سردية ملحوظة أنتجتها المخيلة الروائية، لوضع شخصياته في موضع انتماء إلى الحنين، والشوق إلى الألفة والطمأنينة، والاستقرار التي ينشدها كل عربي مغترب .

الخاتمة

لقد أفصحت رواية "مرافئ الحب السبعة" عن نمط متميز لاغتراب الذات العربية؛ بحيث جسدت بدقة عالية صورا للصراع بين الذات والموضوع الذي تكابده في مسارها الواقعي. فجاء التعبير الدلالي ليصور مرافئ الرواية التي عاش الكاتب أطوارها في صورة جدلية تعبر عن الاضطراب في التوفيق بين مطالب الذات وحاجاتها ورغباتها من ناحية، وبين الواقع وأبعاده من ناحية أخرى .

فجاء النمط السردي الجماعي ضربا من الابتكار الفني الذي يجد فيه القارئ نفسه كغريب يعيش ما يعيشه الشخص المغترب الذي فقد اتصاله بنفسه وبالآخرين. وهي خبرة فنية اكتسبها الأديب علي القاسمي نتيجة المواقف التي كان يعيشها مع نفسه ومع الآخرين في الأقطار العربية التي عرفت منذ مطلع الستينات أزمات نفسية واجتماعية ينعدم فيها التواصل والاستقرار الاجتماعي. ومن ثم جسدت الرواية في جانبها الاجتماعي والتاريخي جوانب العزلة والتمرد والرفض والانسحاب والخضوع، والألم والحنين.. إلى درجة الشعور بأن الذات ليست واقعية، وأن طاقاتها وشعورها أصبحت بعيدة عن الواقع الاجتماعي الذي تعيش فيه.

لقد تناول الكاتب بمهارة فنية راقية الصور النفسية الدالة على بنية الحزن المرتبط بتغير حال المغترب، عبر سلسلة من الاستلزامات التي تؤدي لاحقا إلى الوحشة والحنين إلى الوطن. فقد بدأ الكاتب في وصف مغامراته بذكر صفات تبين ظروفه وما كان عليه في بلدته الآمنة بغداد ليشير إلى تحول الزمان به ليصبح بعد ذلك مغتربا، يصارع قساوة الحياة والظروف الصعبة في مرافئه السبعة، فلم يبق له صديق، ولا منزلة يعترف بها، كالذي تكدرت مشاربه وتغوّرت مساربه.

ومن مظاهر الإبداع الفني في رواية "مرافئ الحب السبعة" أن عملها تجاوز الحبكة والقوالب التقليدية، ليعتمد على الحياة الذهنية للشخصيات، في قالب سردي منضبط يخضع لتداخل الأزمنة وتشابكها. وكان الزمن بالنسبة للرواية ذا أهمية مزدوجة، فهو من ناحية ذو أهمية بالغة لعالمها الداخلي، حركة شخوصها وأحداثها، وأسلوب بنائها، ومن ناحية أخرى فإنه ذو أهمية بالغة بالنسبة لصمودها في الزمن بنوعيه الكرونولوجي والسيكولوجي.

ليتوجّه بعد ذلك أسلوبها الحجاجي والإقناعي نحو التعبير عن رؤى فكرية وشعورية، جسدت قدرة فنية في صياغة قالب سردي يمتلك وحدة موضوعية وتسلسلا منطقيا متوازنا.

أحمد كروم

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى