الأحد ١١ شباط (فبراير) ٢٠٠٧
بقلم أحمد الخميسي

أهمية أن تكون من كندا

لأن المهاجرين الوافدين يشكلون أكثر من نصف تعداد سكان كندا فقد وصف " يان مارتل " الأديب الكندي الحائز على جائزة بوكر عام 2002 كندا بأنها : " أعظم فندق على وجه الأرض ".
إلي ذلك الفندق شد الكثيرون رحالهم في أوقات مختلفة وكان من ضمنهم شاب سوري مهندس كمبيوتر اسمه ماهر عرار. استقر فيها وتزوج وحصل على الجنسية وعاش سعيدا بحياته وعمله وأسرته لولا أن لحيته كانت طويلة بعض الشيء وأن أصله عربي .
ولأن أمريكا تعمل منذ مدة بشعار " ع الأصل دور " ، قامت باحتجاز ماهر عرار في مطار جون كيندي بنيويورك في 26 سبتمبر عام 2002 بناء على معلومات غير صحيحة من الشرطة الكندية تفيد أن ماهر صاحب اللحية الطويلة مسلم متطرف. ورغم أن جواز سفر ماهر كندي ، فقد تم ترحيله على الفور في طائرة إلي الأردن ومنها برا إلي سوريا، ليسجن ويعذب في بلده سوريا نحو العام . هناك بالطبع أسباب وراء ترحيل ماهر إلي السجون السورية ، في مقدمتها الاعتقاد الأمريكي بأن الإنسان لا يستريح إلا في بلده مهما كان ، وثانيا الحرص الأمريكي على ازدهار وتنوع ثقافات التعذيب القومية، وثالثا لأن السلطات الأمريكية بذلك تدخر أجرة مترجم أثناء التعذيب . خلال فترة اعتقال ماهر في سوريا قادت زوجته الكندية الدكتورة مونيا مزيج حملة للإفراج عنه انتهت بإطلاق سراحه في 5 أكتوبر 2003 .

ويمكن القول عند هذا الحد من القصة أنها لا تنطوي على جديد . ذلك أن ارسال المعتقلين لتعذيبهم في بلدان عربية أمر معترف به رسميا وأشار إليه مسئول سابق في المخابرات الأمريكية هو مايكل شوير في فبراير 2005 بقوله : " أرسلنا معتقلين إلي بعض الدول بما فيها مصر وتعرضوا للتعذيب ". الجديد والعجيب في القصة بدأ بعد ذلك ، عقب رجوع ماهر صاحب اللحية الطويلة إلي كندا . فقد أصر ماهر – ولا أدري من أين واتته الفكرة – على مطالبة السلطات الكندية بإجراء تحقيق علني لتبرئة ساحته، أول الأمر رفضت السلطات طلبه ، ثم انصاعت له تحت ضغوط حملة شعبية تندد بإسهام السلطات الكندية في سجن ماهر !
وبعد تحقيق مطول كلف الدولة 21 مليون دولار هي ميزانية لجنة التحقيق والدفاع ، انتهى القاضي الكندي في سبتمبر 2005 إلي أن ماهر تعرض للتعذيب في سوريا ظلما ، وأن الشرطة الكندية قدمت معلومات مشوهة إلي السلطات الأمريكية تسببت في إلحاق الأذى بمواطن كندي " . وبناء على هذا الحكم الواضح زادت جرأة ماهر عرار فرفع قضية على المدعي العام الأمريكي ورئيس الوزراء الكندي السابق وعلى رئيس الشرطة الكندية وطالب فيها بتعويض يصل لمئات الملايين . ووصفت الصحف الكندية ما جرى لماهر باعتباره " العار الوطني " ، بينما طالب زعيم حزب الديمقراطيين الجدد الحكومة الكندية بالاعتذار الرسمي لماهر وأسرته . وفي نهاية يناير العام الماضي تقدم جوليانو زكارديلي، رئيس الشرطة الكندية باعتذار رسمي لماهر قال فيه :

أعرب لك ولزوجتك ولأولادك علنا عن أسفي الحقيقي لكل ما اتخذته الشرطة من إجراءات قد تكون ساهمت في الظلم الرهيب الذي عانيت منه والألم الذي تحملته وعائلتك


ولكن ذلك الاعتذار لم يكن كافيا بالنسبة للمجتمع الذي واصل ضغوطه حتى إقالة رئيس الشرطة ! عند هذا الحد يبدأ المرء في التفكير : هل يمكن لشيء كهذا أن يقع عندنا ؟ أي أن يتلقى معتقل بالخطأ اعتذارا رسميا من مسئول في الداخلية أو مأمور قسم أو حتى من مجرد شاويش بشريطين في الحجز ؟

الأكثر من هذا أن مجلس العموم الكندي في 21 يناير الحالي تبنى بالإجماع ( لاحظ الإجماع ) قرارا يعتذر فيه لماهر! والأعجب أن ستيفن هاربر رئيس الوزراء الكندي قدم في يوم الجمعة 26 يناير اعتذارا رسميا لماهر باسم الحكومة الكندية قائلا : أود باسم حكومة كندا أن أقدم لكم اعتذاري عن أي دور قام به المسئولون الكنديون في المحنة الرهيبة التي عشتموها . هذا على الرغم من أن ما حدث لماهر جرى خلال حكومة الحزب الليبرالي ، بينما ينتمي رئيس الوزراء المعتذر إلي حزب وحكومة المحافظين التي لا علاقة لها بالقضية ! ولن أتوقف هنا عند قرار الحكومة صرف 12 مليون دولار كتعويض لماهر المحظوظ الذي دعت له أمه يوم مولده بقولها : " رح إلهي يعتقلوك سنة ويعتذروا لك ويعطوك الملايين يا ابني " . أريد فقط أن أتوقف عند أن الحكومة السورية لم تنطق بحرف ، لأن اعتذار جهة رسمية عندنا أمر يتجاوز خيالنا ، لا يخطر ولم يخطر أبدا على بال خلال كل عهود السجن والاعتقال . السجان والمسجون استبعدا نهائيا الحلم المستحيل بأن الاعتذار للإنسان ، بديهي ، وممكن ، وأحيانا ضروري ، وهو حقه قبل كل شيء .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى