الثلاثاء ١ أيار (مايو) ٢٠٠١
بقلم ميخائيل إبراهيم الأسعد

مشكلات الطفولة والمراهقة - القسم الثاني

الفصل الثاني: النمو العضوي والعقلي في مرحلة الرضاعة

يمكن عدّ النمو البشري سلسلة متلاحقة الحلقات من مراحل نمائية ترتبط بالعمر وتتميز الواحدة منها بعدد من الخصائص العضوية والعقلية والطباعية والاجتماعية المترابطة. ويشكل النمو العضوي حجر الأساس لكل أنواع النمو، إذ تحكم المبادئ التي يخضع لها ضروب النمو الأخرى.

مبادئ النمو العضوي

تمتد مرحلة الرضاعة بين الولادة ونهاية السنة الأولى تقريباً، وتتميز بكونها فترة نمو مرن يشمل كل جوانب الفرد. تساعد سرعة نمو الرضيع على إيضاح المبادئ التي تتحكم بالنمو في مختلف المراحل وتتمثل بالمبادئ التالية:

1) معدل النمو

2) وجهة النمو

3) التميز والتكامل

4) التلاحق

معدل النمو:

يتسم النموالعضوي لدى الرضيع بالإنتظام الذاتي، فيزداد وزن أغلب الأولاد وطولهم باضطراد عادي متناسق. ولا يخرج النمو عن معدله المألوف إلا لدى فئة من الأولاد، وفي حدود يمكن توقعها في إطار الشذوذ عن القاعدة. ولا يزيد أثر الشروط الشاذة على الإعاقة المؤقتة لمعدل النمو، إذ سرعان ما يعود النمو الى معدلاته الطبيعية بزوال الشروط الشاذة المتمثلة بالمرق أو بالحرمان الغذائي. وتتجلى أصالة مبدأ الإنتظام الذاتي في مبكري الولادة من الأطفال الذين لا يتخطى متوسط وزنهم عند الولادة 2750كغ، إذ سرعان ما يتساوى وزن هؤلاء الأطفال مع وزن نظرائهم من عاديي الولادة خلال السنة الأولى من الحياة. أما مبكرو الولادة الذين يقل وزنهم عن 2.25 كغ فيعانون من نقص يشمل الوزن والطول والذكاء. فظاهرة الانتظام الذاتي تعمل إذن على تلافي ضروب الاضطرات الثانوية، لكنها تعجز عن مجابهة الاضطرابات النمائية الشديدة. ويخضع النمو الحركي هو الآخر لمعدل نمو خاص بالنوع البشري. فعلى الرغم من أن نمو الفرد يسير وفق وتيراته الفردية المميزة له في الجلوس، والمشي، وتناسق الأصابع، بحيث يسبق المعيار المميز لسنة أو يقصر عنه، إلا إن نمو الفرد سرعان ما يعود يتماشى والمعيار العام. ولا يضطرب المعيار السني إلا في الحالات الخطيرة لاضطراب الشروط المحيطية. إذ لا يؤثر نقص الخبرة والتضييق المتشدد للفعالية في المعيار النمائي فيتعلم أطفال القبائل الهندية الأمريكية، الذي يشدون طوال يومهم بخشبة المهد المشي والجلوس والزحف كغيرهم من الأطفال العاديين. ولا يختلف أمر الإثارة المفرطة والتدريب الخاص عن أثر الإعاقة ونقص التدريب، إذ يعجز هو الآخر عن التأثير الدائم بمعدلات النمو الفردية. فقد يغدو الأطفال، الذين يعطون تدريباً خاصاً على التسلق، مهرة في تلك الفعالية، لكنهم سرعان ما يتوازون مع أطفال لم يعطوا أي تدريب خاص. ويبدو أن الشروط المحيطية الخطيرة جداً، هي وحدها التي تستطيع إيقاف معدل النضج الموروث لدى الطفل أو تصعيده.

وجهة النمو:

يتخذ النمو وجهات معينة تميز نوعاً حيوانياً عن آخر. فالمألوف أن يمتد النمو من الرأس منحدراً للمركز فالأطراف. وينمو الدماغ بصورة أسرع من أي عضو آخر. هذا في الحيوانات، وكذلك الأمر في الإنسان وصغار الأطفال. إن لكل واحد من مجالات النمو فيما يبدو وجهة خاصة، فيتعلم الصغار إقامة التنسيق لحركة أذرعهم وسيقانهم الأقرب الى الجذع قبل تعلمهم إقامة التنسيق الحركي بين أصابع اليدين أو الرجلين. ويستطيع الأطفال النهوض وإدارة الرأس قبل أن يستطيعوا الالتفات كلياً، ويحركون أذرعهم وسيقانهم قبل أن يتمكنوا من مقابلة سبابتهم بإبهامهم.

التميز والتكامل:

يتقدم أنواع النمو العضوي لدى الوليد خلال العامين الأولين من الحياة عشوائية قط، بل أنها تخضع لتلاحق عام لدى كل الأفراد البشريين. فللقابليات الحركية اللازمة لتعلم المشي تلاحق لدى أطفال غابات أفريقيا مشابه للتلاحق في النمو الحركي لدى أبناء دمشق. فعلى الأطفال أن يتعلموا، أولاً، أن يجلسوا دون دعم، ثم يزحفوا وهم يمسكون شيئاً ما، ثم أن يرفعوا أنفسهم بدعم، ثم أن يمشوا مدعومين، ثم أن يقفوا بأنفسهم، وأخيراً أن يمشوا بأنفسهم. وطبيعي أن يبلغ طفل المرحلة النهائية من تلك الفعالية بعمر مختلف عن الاخر. وعلى الأهل ألا يقلقوا من انحرافات ضئيلة عن المعيار السني للنمو العضوي خلال العامين الأولين من الحياة.

الرضاعة: السنة الأولى

على الرغم من أن الدراسات المعاصرة تشير الى امتلاك الوليد عدداً ضخماً من الكمالات العضوية، إلا أن علينا ألا ننسى أنالوليد الجديد ما يزال بعيداً عن العضوية الكاملة في أكثر من مجال. إن للوليد الجديد كل الأعضاء الضرورية. لكن القلب والرئتين والقناة الهضمية لا يزال يلزمها الكثير من النمو قبل أن تتمكن من العمل في ظل الشروط الصعبة المتباينة. فلا تستطيع معدة الطفل الصغيرة هضم أطعمة الراشد المعقدة التركيب إلا بعد بلوغه سن المدرسة، كما أن عظام الوليد تغاير نظيرتها للطفل والراشد في كل من الشكل والصلابة. وتشير النقطة الرخوة في جمجمة الرضيع الى نقص في تماسك الجمجمة، وهو نقص يستمر حتى نهاية الشهر التاسع تقريباً. وقد نجد في الحالات النادرة وليداً له بعض الأسنان، إلا أن أغلب الأطفال يولدون بلثة تبدأ تتسنن في نهاية سنتهم الأولى. أما الجهاز العصبي للصغار، فيختلف عن نظيره لدى الأطفال الكبار والراشدين. ففي الحين الذي يماثل فيه دماغ الرضيع نظيره للراشدين في كل من بنيته وعصبوناته، فإن عصبونات الول تخلو من الغمد الشحمي العازل. ولا يكتمل تغليف العصبونات إلا في الشهر الرابع، وقد يستمر الى بدايات الطفولة المبكرة. والمعروف أن لتغليف العصبونات فائدته المؤكدة في إقامة أقنية اتصال بين العضلات والدماغ. بالإضافة الى ذلك يتميز نمو الرضيع في السنة الأولى بسرعته، إذ يزن الوليد الجديد قرابة ثلاثة كيلوغرامات ويبلغ طوله حوالي الخمسين سنتمتراً، وفي نهاية الشهر الثاني عشر يزداد وزن الطفل بمقدار ثلاثة أضعاف وزنه عند الولادة، كما يزداد طوله بمقدار ثلث طوله عند الولادة. وتتباطأ نسبة النمو تدريجياً بعد نهاية السنة الأولى ويبلغ الطفل في نهاية سنته الثانية ربع وزن الراشد، ونصف طوله تقريباً.

يمتلك الوليد الجديد عدداً من الأفعال الارتكاسية المتميزة السلسة. كارتكاس مورو، الذي ينشط بتعريض الطفل لضجيج مفاجئ أو لسحب الدعم عنه، أو عن رأسه بصورة مفاجئة، فعندما يحس الطفل فقدان دعمه، تمتد ذراعاه، وتنقبض يداه في حركة تدل على أنه يحاول الامساك بشيء لاستعادة الدعم. هناك أيضاً ارتكاس القبض، ويحدث عندما يكور الطفل قبضته حول شيء، خاصة عندما يمسك بإبهام الراشد مسلماً نفسه لوضع الجلوس.

يتسارع النمو العضلي خلال الأشهر الأولى من الحياة كثيراً. ويطول استيقاظ رضع الشهر الثاني، وتشتد فعاليتهم، ويبدأ العديد منهم في تلك السن برفع رؤوسهم وصدورهم ، كما يمص الكثيرون منهم إبهامهم. ويطلق ابن الشهر الثاني أولى ابتساماته الاجتماعية. ويغدو الفعل الحركي التلقائي خلال الشهرين الثالث والرابع أكثر وضوحاً. تشرح الفترة المذكورة مبدأ وجهة النمو من الرأس الى أسفل الجذع. فيستطيع ابن الشهر الرابع إدارة رأسه والوصول الى الأشياء، إلا أنه يعجز عن الزحف والمشي، لأن الفعاليتين المذكورتين تتطلبان نمواً عصبياً حركياً أعمق مما تتطلبه إدارة الرأس. بالإضافة الى ذلك يجعل النمو العصبي العضلي للسان والحلق في تلك المرحلة الطفل أقدر على تناول الطعام وهضمه.

يزداد اهتمام ابن الشهر الرابع بأصابع يديه ورجليه فيبدأ يلعب بها. ويحاول الاطفال في هذه السن الالتفات، ويتمكنون منه في الشهر الخامس، كما يستطيع ابن الشهر الرابع الجلوس إن أمسك بشيء ما والمحافظة على رأسه مرفوعاً، بحيث يتطلع الى ما يجري حوله. يبدأ الأطفال في الشهر الخامس حركة الزحف، وبعد فعل الإمساك والقبض والهز، من الحركة العامة إضافة الى فعل العض على اللثة الذي يظهر مع ظهور الأسنان في الشهر السادس (بايلي، 1969). ينمي الأطفال في النصف الثاني من السنة الأولى الكثير من الأفعال المستقلة والاستجابات لعالمهم المادي والاجتماعي. وتبلغ السيطرة الحركية قدراً كبيراً من التكامل المتميز بحيث أن الأشياء التي ترى يقترب منها، وتمسك أو تضرب أو تهز. وتسمح عضلات الظهر والبطن التي تتقوى في الشهر السابع، للوليد بالجلوس دون عون أو حتى بالزحف. وما أن يبلغ الوليد شهره الثامن حتى يكون قد امتلك رصيداً ضخماً من الحركة الدقيقة فيتمكن من شبك إبهامه على سبابته والتقاط الأشياء الصغيرة. فعلى الأهل أن ينتبهوا في هذه السن الى أبعاد الأشياء الصغيرة عن الطفل كيلا يبتلعها.

يحاول ابن الشهر التاسع شحذ قدرته على الانتقال، إذ يصرف الكثير من وقته في سريره يتمرن على تلك الفعالية. ويندهش العديد من الأهل، الذين تركوا وليدهم جالساً أو نائماً، عندما يرون الطفل واقفاً في سريره، ممسكاً بحوافيه، متبسماً بكثير من الرضى. وبالرغم من أن أطفال هذه السن لا يستطعيون المشي، إلا أنهم يزحفون بسرعة مذهلة، الأمر الذي يفرض الكثير من التشدد في مراقبتهم.

يستطيع أبناء الشهر العاشر أن يحبوا ويجلسوا أو ينتصبوا ويستطيع أغلب أطفال هذه السن أن يشربوا من الكأس، وأن يبتلعوا الطعام الصلب، وأن غالبيتهم ترغب في أن تأكل بنفسها.

وفي نهاية السنة الأولى يكون الوليد قد حقق شوطاً كبيراً من التقدم نحو الحركة الاستقلالية فهو يتحرك بإرادته، ويقبض الأشياء، ويمسكها ويعضها ويبتلعها ويطلق أنواعاً مختلفة من الأصوات تقارب أصوات لغة المجتمع. ولا بد من الإشارة الى أن النمو الحسي يتوقف على النمو الحركي، ويماشيه، وسنشير الى النمو الحسي لاحقاً.

الرضاعة: السنة الثانية

ينتقل الأولاد بعد تعلم المشي الى مرحلة جديدة تشمل مختزناً جديداً كاملاً من الفعاليات الحركية ولذلك يطلق عليها اسم المرحلة الحركية. فخلال سنوات معدودة يبدأ الصغار بالقفز والركض واللعب بما يتوفر لهم من أشياء كالكرات والأقراص الحديدية وغيرها. وتظهر في تلك الفترة تفضيلات اليد والأذن والعين وتتأكد وتتقوى.

تكون قدما الطفل عند بداية محاولة المشي متباعدتين، وتكون حركتهما شاذة أو خرقاء، ولكن حركة الطفل تتحسن بازدياد التدرب على المشي فتتقارب القدمان ويستقيم المشي، بحيث أن الطفل يضع كعب القدم الأولى أمام الأخرى مباشرة. ويحتاج أبناء الثانية الى مراقبة قدميهم بأعينهم، كي يتمكنوا من تجنب العوائق، غير ان هذه الحاجة تختفي في نهاية السنة الثالثة.

ما أن يثق الأطفال بمشيهم حتى يبدأوا المشي الجانبي والخلفي. وأغلب أولاد هذه السن يبدأون المشي على أصابعهم. ويلاحظ في حوالي منتصف السنة الثانية أن بعض الأولاد يبدأون المشي المستعجل الذي يبدو كالركض، لكن هذا في الواقع ليس ركضاً، لأن الفرد في المرحلة الحركية لا يمتلك القوة في ساقيه والقدرة على التوازن بكلتا قدميه في الوقت نفسه. والطفل لا يستطيع الركض قبل السنة الخامسة. وتوازي جهود الأطفال للقفز نظيرتها للركض من حيث أنها تتطلب ارتفاع القدمين معاً عن الأرض. ويبدأ القفز بتجاوز الأشياء الصغيرة، إلا أن المحاولات الأولى تنتهي بتحطيم الشيء الذي يحاول الطفل تجاوزه بالقفز، الأمر الذي يجعل الصغار يحجمون عن تكرار المحاولة. وفي نهاية السنة الثانية يبدأ الأولاد القفز بكلتا القدمين أما المهارات الحركية الأخرى مثل التسلق والإمساك وقذف الكرات فتتطلب تناسقاً بصرياً حركياً يعجز عنه ابن الثانية. ويحاول ابن الثانية القذف والإمساك إلا أنه يطلق ذراعه بعد أن يسند مرفقه الى جسمه. الأمر الذي يؤخر نمو هذه الفعالية الى ما بعد الثانية.

يبدأ الأطفال خلال السنة الثانية بإظهار ضروب من تفضيلات العين واليد التي هي مظهر للنمو الحركي. فيحاول الطفل في هذه المرحلة حمل الأشياء بواحدة من اليدين، كما أنه يعاين الشيء بواحدة دون أخرى من عينيه. وليس من الواضح ما يدفع الى هذا التفضيل الحركي الحسين فقد ذهبت المحاولات العلمية بهذا الصدد عبثاً، وما زلنا نجهل الأسباب العضوية المسؤولة عن العسر أو علاقة العسر ببعض اضطرابات النطق كالتأتأة.

النمو العقلي

يمكن معاينة النمو العقلي للرضيع من وجهتي نظر على الأقل هما:

1) الروز العقلي الكمي، الذي يحدد كمية ما يمتلكه الرضيع من القدرة العقلية، بالنسبة لأقرانه الرضع

2) نوعية النمو العقلي النفسي الذي يحدد نوع القدرات والمفاهيم التي يبديها الطفل، وكيف تنمو تلك القدرات والمفاهيم خلال السنتين الأوليتين من الحياة.

الجوانب الكمية للنمو العقلي

تشمل أدوات قياس الذكاء البشري، في العادة، عدداً من الروائز الفرعية يهدف كل منها الى قياس نوع محدد من القدرة العقلية. ويشمل كل رائز عدداً من البنود المتزايدة الصعوبة. تتحدد صعوبة البند بإجابة عينة كبيرة من المبحوثين تسمى الفئة المعيارية للبند. أفرض مثلاً، أن بنداً لقياس ذكاء الرضيع يتطلب رفع الرأس، وأن تسعين بالمائة من عينة كبيرة من أطفال الشهر الثالث استطاعت رفع رأسها. وجب في هذه الحالة عدّ بند رفع الرأس سهلاً لأبناء الشهر الثالث. أفرض، من طرف آخر أن عشرة بالمئة فقط من أبناء الشهر الثالث استطاعت إطلاق الشيء بعد إمساكه. يجب، تبعاً لذلك، عدّ بند إطلاق الشيء صعباً بالنسبة لأبناء الشهر الثالث. تضم أغلب روائز الرضع البنود التي يستطيع أداءها بنجاح 50% من أبناء السن الذي يصمم الرائز لقياس ذكائهم. وتخفف السنبة من 50% الى 45% وذلك للحصول على عدد كبير من البنود يفيد في سبر مختلف أبعاد القدرة العقلية ذات الطبائع المتباينة.

يمكن تنقيط أغلب الروائز العقلية لحساب العمر العقلي بإحصاء الأشهر التي يحصل عليها المفحوص في إجاباته على بنود الرائز، فالطفل الذي ينجز بصواب عدداً من البنود مماثلاً للعدد الذي ينجزه أبناء السنة الأولى يمتلك عمراً عقلياً من سنة واحدة، بصرف النظرعن عمره الزمني، ويعطي تقسيم العمر العقلي للطفل على عمره الزمني وضربه بمائة معامل ذكاء ذلك الطفل، فمعامل الذكاء مؤشر للذكاء النسبي للفرد ضمن مجموعة من أقرانه.

من الواضح ، إذن، أن طفلاً بعمر عقلي يتخطى عمره الزمني إنما هو أذكى من المتوسط، وأن معامل ذكائه يتخطى المائة بالتأكيد، في حين أن طفلاً ينخفض عمره العقلي عن عمره الزمني ينخفض معامل ذكائه عن المائة مشيراً الى عجزه عن أن يكون متوسط الذكاء.

تختلف آراء علماء نفس الطفل في تقدير قيمة روائز الذكاء وفائدتها واستخدامها. ويشير العديد من الأبحاث الى أن روائز ذكاء الأطفال تعجز عن أن تكون قياسات دقيقة للذكاء، وعن أن تتنبأ بذكاء الطفل في المستقبل وذلك بالنسبة لعدد كبير من مستويات الذكاء (بايلي، 1969). يمكن لروائز الذكاء، برغم ذلك، أن هي استخدمت الى جانب مؤشرات أخرى مثل المستوى الاقتصادي والاجتماعي للوالدين، أن تمتلك قدرة تنبؤية رفيعة، ويمكن لروائز الذكاء أن هي استخدمت مع الملاحظة السريرية أن تشخص بمنتهى الدقة ضروب الشذوذ العقلي وخاصة منها ما يرتبط برضوض الدماغ.

لا بد من الإشارة الى أن روائز ذكاء الرضع مختلفة تماماً عن الروائز التي تستخدم لقياس ذكاء الناشئة الكبار والراشدين. فروائز ذكاء الرضع تقيس فعالياتهم المختلفة مثل الوصول الى الأشياء والقبض، والتتبع البصري لها، كما تقيس القدرة على التقليد وعلى ترتيب المكعبات المختلفة الأشكال كلا في ثقبه، والتعرف على الصور. ويترك غياب اللغة من روائز ذكاء الرضع فراغاً يسيء الى قدرتها التشخيصية التفريقية التنبؤية، ذلك لأن اللغة تلعب دوراً أساسياً في تفكير الأطفال الكبار والراشدين وفي حلهم للمشكلات. لأن المهارة اللغوية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالقدرة العقلية. وعلى كبار الأطفال والراشدين اتباع التعليمات اللفظية للفاحص والاستجابة لها بصورة لفظية أيضاً. لهذا يعتقد الباحثون أن عجز روائز ذكاء الأطفال الصغار عن التنبؤ بقدرتهم العقلية اللاحقة يرجع الى عجز أولئك الصغار عن الاستجابة للروائز اللغوية، أي الى انعدام اللغة في روائز الصغار. والسبب الآخر الذي يجعل روائز ذكاء الرضع ضعيفة القدرة على التنبؤ إنما هو الرضع أنفسهم، إذ تتطلب عملية الروز التعاون بين الفاحصين والمفحوصين، والرضع في العادة لا يرتاحون للغرباء ولذلك فقد لا يتعاونون مع الفاحصين. ثم إن انفعالية الرضيع وتشتت انتباهه يجعلان من الصعب تحديد ما إذا كان العجز عن أداء الفعل يرجع الى نقص في القدرة العقلية الملائمة، أم الى عجز الرضيع عن تركيز الانتباه، وبالإضافة الى صعوبة التقرير عما إذا كان الأداء يعكس القدرة العقلية بدقة في عمر ما، فإن ثمة مشكلة أخرى تقوم في العجز عن تفسير استجابات الرضيع على روائز الذكاء.

أخيراً إن كون الذكاء قدرة كمية غير ثابتة تتأثر باستمرار بالعوامل الخارجية المحيطية، هو السبب الثالث الذي يجعل من روائز الرضع أدوات عقلية ضعيفة التنبؤ. وصحيح أن ثمة حدوداً تقف عندها آثار المحيط في القدرة العقلية إلا أننا ما زلنا نجهل تلك الحدود. هذا بالإضافة الى أن الكثيرين من الأطفال ينشؤون في أوساط فقيرة أو عقيمة تحول دون تفتح قدراتهم العقلية في الوقت الملائم، فإذا ما اغتنى وسط الطفل أو افتقر انعكس ذلك في أدائه في الروائز العقلية وشوش عمليات التنبؤ عن الأداء في المراحل اللاحقة من العمر.

نوعية النمو العقلي

تتحدد نوعية النمو العقلي بنمو الظواهر العقلية وتراكم المضامين العقلية. تشكل الظواهر العقلية وظائف الإدراك والتعلم وحل المشكلات والتفكير واللغة، أما مضامين العمليات العقلية فتتجلى في نتائج الظواهر العقلية أو محصلاتها أو ما يسمى بالمعرفة. وهذا ما يمكن أن يوصف بمحتويات عقل الطفل. وسنصف كلا من الظواهر العقلية ومحتوياتها خلال السنتين الأوليين من الحياة.

الإدراك

يتمثل الإدراك بالفعالية التي نتعرف بها على العالم الخارجي عن طريق حواسنا. يتطلب نمو القدرة الإدراكية تزايداً تدريجياً متصاعداً في حساسية أعضاء الحس لدى الطفل للمعلومات التي يقدمها الوسط الى جانب القدرة المتزايدة لتسجيل تلك المعلومات. ربما حقق الإدراك، من بين سائر الظواهر العقلية الأخرى، أشد ضروب التقدم خلال السنتين الأوليتين من سني الحياة.

البصر

درس بصر الرضع أكثر وأعمق من دراسة سائر الحواس، الأمر الذي شحذ معرفتنا عن نمو القدرة الإدراكية، لا يكتمل نمو العين عند الولادة وتستمر التغيرات الخلوية في الشبكية حتى الشهر الرابع، وهذا ما يؤثر في الحدة البصرية للرضيع. ثم أن الرضيع يميل الى بعد النظر لقصر المسافة بين العدسية والشبكية عما ستكون عليه لاحقاً. وهناك جوانب أخرى من الجهاز البصري يكتمل نموها مع الزمن وذلك مثل تغلف العصب البصري بالغمد الشحمي مما يؤثر في القدرة البصرية للطفل.

تنمو الحدة البصرية التي تشمل القدرة على التمييز بين خطوط مختلفة العرض خلال السنة الأولى. وقد وضع فانتس باستخدامه إجراء تفضيلياً يقيس الوقت الذي يصرفه الرضيع للالتفات الى مثيرات مختلفة الشدة، أداة لقياس القدرة البصرية على التمييز. وجد الباحث أن بإمكان أبناء الأسبوعين أن يميزوا بين شرائط يبلغ عرضها سنتمتراً واحداً تقريباً من مسافة 15 سم، كما أن بإمكانهم تمييز شريط بعرض 1/64 من السنتمتر عندما يبلغون الشهر السادس. وقد ظهر تقدم مماثل لتطور التمييز البصري في التتبع البصري. ففي حين يستطيع الوليد الجديد النظر باتجاه جسم متحرك بكلتا عينيه، فإنه لا يستطيع تتبع ذات الشيء المتحرك إلا في الشهر الثالث أو الرابع.

لاحظ عدد من العاملين في الدراسات النفسية أن بإمكان مختلف الأنواع الحيوانية أن تتدرب بحيث تستجيب انتقائياً لمختلف أنماط الإثارة الحسية. ولقد بذلت جهود مكثفة لتحديد نوع المثيرات الحسية التي يستجيب لها صغار البشر أو يفضلونها . إنه من الصعب معرفة ما إذا كان الأطفال يرون الألوان فعلاً، إلا أن البنية البصرية الملائمة قائمة لديهم منذ الولادة. وقد وجد أن أبناء الشهر الرابع ينتبهون لموجات الأزرق والأحمر لفترة أطول من انتباههم للموجات الأخرى.

أجري عدد من الدراسات لفحص انتباه الأطفال للوجوه ولتحديد السن التي يبدأون فيها ذلك الانتباه. يبدو أن الرضع يبدأون التطلع الى الوجوه وخاصة منطقة العين، في حوالي الأسبوع الثالث أو الرابع. ويفضل أبناء الشهر الرابع الوجوه التي تمتلك ملامح عادية على تلك التي يبدو فيها التعقيد أو التشويه.

وثمة أدلة علمية على ميل الأطفال لتفضيل المثيرات المعقدة كلما تدرجوا في العمر. تحدد تفضيلات الأطفال بعرض شكلين في حقل إدراكي محدد فوق رأس الوليد. ويلاحظ تثبيت الطفل لعينيه في الشكلين عبر ثقب في الجدار . ومن الممكن مراقبة انعكاس الشكل في شبكية الطفل، والتعرف من خلالها على الشكل الذي كان الطفل يتطلع اليه. كما أن من الممكن بضبط الزمن الذي صرفه الرضيع في التحديق بالأشكال تحديد تفضيلاته لها. وجد فانتس ومساعدوه، باستخدامهم أنواعاً مختلفة من الأشكال والأشياء، ميل الأطفال منذ عمر مبكر جداً، الى تفضيل المثيرات التي تشكل نمطاً محدداً على المثيرات التي لا تخضع للتصنيف والتنميط. وتأكد باحثون ثانون من أن أبناء الشهر الثاني أبدوا تفضيلات واضحة في هذا المجال. كما وجد باحثون آخرون أن أبناء الأسبوع الثالث عشر يفضلون الخطوط المنحنية على المستقيمة والممركزة على المشتتة. إلا أن الجدل ما يزال قائماً بصدد تعقد الإدراك البصري للطفل، فعلى الرغم من الاتفاق العام حول تفضيل صغار الأطفال للمثيرات البسيطة المنمطة، فإن مسار النمو بعد ذلك يبقى غير واضح.

للنمو البصري جانب آخر يتمثل بإدراك العمق. وضع جبسون وواك في دراسة تقليدية لهما، عدداً من الرضع على حافة جرف. شمل الجرف صفيحة زجاجية سميكة يقوم جزء منها على طاولة مغطاة رسمت عليه رقعة شطرنجية، ويمتد جزؤها الآخر عبر مساحة مكشوفة، مسند بساقين، وتحت المساحة المكشوفة المغطاة بالزجاج يوجد مزيد من الرقعة الشطرنجية التي يستطيع الطفل رؤيتها.

ولما كانت المربعات على الأرض أكثر بعداً من نظيرتها التي تشكل غطاء الطاولة، فإنها تزود الطفل بالدلائل التي تظهر العمق، هذا إذا ما استطاع الطفل استخدامها. ولقد تبين أن الرضع الذين وصلوا الى عمر يستطيعون فيه الزحف (4 – 6 أشهر) والذين وضعوا على طرف الطاولة المغطى بالرقعة الشطرنجية، تجنبوا الزحف عبر الجانب العميق من الصفيحة الزجاجية. يستنتج من ذلك أن لأغلب الأطفال القدرة على إدراك العمق في هذا العمر.

ليس واضحاً الزمن الذي يدرك فيه الأطفال استمرارية الحجم والشكل والتي هي إجراء تضحيحي يقوم به الدماغ ليساعد الفرد المدرك على رؤية الأشياء البعيدة بالحجم نفسه الذي ترى فيه عن كثب. فلقد ادعى باور أن بعض مظاهر الشكل والحجم توفرت للرضع في الأشهر القليلة الأولى من العمر إلا أن باحثين آخرين يعتقدون أن تلك القدرات تتأخر حتى نهاية السنة الأولى. ويبدو أن الخلاف يرجع الى استخدام الباحثين قياسات مختلفة لتحديد الحجم والمسافة.

السمع

يعمل الجهاز السمعي للوليد منذ البدء لكن بصورة محدودة. إذ أن السائل الرحمي يبقى لوقت ما في القناة السمعية ويعيق جزئياً ذبذبة عظام الأذن الوسطى. وتعاق ذبذبة تلك العظام أيضاً بسبب النسج الرابطة، إذ أن انحلال تلك النسج يزيد من استجابة الأذن لعدد واسع من الأصوات.

يستطيع الوليد أن يسمع بالرغم من تلك التحديدات، خاصة عندما تعتدل شدة الصوت. يرى ابلتون ورفاقه أن الأطفال يستجيبون للأصوات بعدد من السبل، منها، ارتياحهم أو يقظتهم لها، أو نفورهم منها، ويبدو أن للمثيرات المستمرة الضعيفة الشدة أثراً مهدئاً على الرضع بالنسبة للضوء والصوت على السواء. فللضوء الخافت في غرفة الرضيع أثر مهدئ، تماماً كما هو الأمر بالنسبة للأصوات الناعمة.

يبدو أن رضع البشر يستجيبون للصوت البشري بشكل جيد، إذ يستطيعون خلال أشهرهم الثلاثة الأولى إدراك المقاطع الصوتية مثل: با، غا، لا، نا.. ويستجيب الرضع للنغم في كلام الراشد، فقد حرك الرضع من عمر 12 – 14 يوماً أجسامهم لنغم كلام الراشد سواء كان مباشراً أم بواسطة أداة تسجيل. واستخدم الباحثون مقاطع انكليزية وصينية للتأكد من أن الحركة قد حدثت بسبب النغم وليس بسبب آخر، فتبين أنها حدثت بالنغم.

يظهر أن بعض المثيرات السمعية مثل الأصوات التي لا تزيد على كونها مجرد ألحان يزيد تواترها على أربعة آلاف دورة في الثانية تضايف الرضع. وتبعث أصوات الضجيج المفاجئة في الرضع ردوداً إجفالية وتزيد من تسارع القلب. قد تكون الفجائية هي التي تضايف الرضيع إذ نظيرة تلك الأصوات التي تقدم تدريجياً لا تحدث ردود الفعل المشار إليها.

الحواس الأخرى

إن معرفتنا عن الذوق والشم واللمس أقل كثيراً من معرفتنا عن البصر والسمع. فلتلك الحواس وظائف بدائية تنحدر كاملة النمو مع الوليد وتبدي القليل من النضج بتدرج الأخير في النمو. وبالرغم من بساطة تلك الحواس، فإنها كما يؤكد جبسون تمثل أجهزة حسية بقدر ما تتفاعل مع الظواهر الحسية الأخرى ومع الأفعال الحركية، إذ سرعان ما يرتبط الشم والذوق بالإحساس البصري وبفعل القبول أو الرفض.

يولد الرضعي وله براعم ذوقية كاملة على لسانه ذات ارتباط عصبي كامل بالدماغ، ويعجز المخلوق البشري عند الولادة عن تمييز الحامض من المالح ومن الحلو، غير أنه، وبعد ثلاثة أشهر تقريباً، تظهر لديه التفضيلات الحسية، ويستطيع التعرف على تغيرات خليط الحليب وعلى زيادة كمية السكريات فيه. فيبدي الأطفال في ذلك العمر كراهيتهم لبعض الطعام ببصق ما يعطونه منه.

ينمو الشم بصورة مبكرة تماماً حتى لدى الرضع المبكري الولادة فهؤلاء يستطيعون إدراك بعض فروق الرائحة. وينمو تمييز الروائح بصورة سريعة بعد الولادة. لقد استجاب الرضع في إحدى الدراسات بصورة جد تفريقية لخمس من روائح الحكول واشتد رد فعل الطفل وطال بازدياد ذرات الفحم في السائل الكحولي. وأكدت دراسات لاحقة بطء نمو حاسة الشم مع ازدياد السن. والواقع أن حاسة الشم تظهر قبل سائر الحواس تقريباً وتطول مقاومتها إزاء العطب.

اللغة

اللغة الإنسانية، كالعلوم والرياضيات، إنجاز فردي واجتماعي. وتعد اللغة حصيلة لآلاف الكلمات والمعاني التي نمت عبر الزمن في فئة اجتماعية معينة بحيث يعجز أي فرد عن أن يتعلم كل ما هو قائم من لغة ما. إلا أن أعضاء فئة اجتماعية ما، يتعلمون لغتها وكيفية استخدامها كوسيلة ناجعة للتكيف الاجتماعي. إننا سنهتم هنا بدراسة اكتساب الفرد للغة وليس بدراسة اللغة كحصيلة اجتماعية.

يستمر علماء نفس النمو بالاهتمام بكيفية اكتساب الأولاد للغة. ولقد مس العديد من كتبة سير الأطفال الذين ذكروا في الفصل الأول تلك النقطة في كتابتهم. ركزت دراسة اللغة اهتمامها على إيضاح لغة الطفل وكيفية اكتسابه لها ووصف أساليب الاكتساب تلك. وقد افترض، في المرحلة الأولى من تطور الدراسات النمائية للغة، أي بدءاً من كتبة السيرة وانتهاء بالحرب العالمية الثانية، أن تعلم الأطفال يعتمد بصورة رئيسية على تقليد كلام الراشد. ولذلك أكدت الدراسات الوصفية الأولى العمر والتلاحق الذي يتعلم وفقه الأطفال أجزاء من الكلام وكيفية بناء الجملة. ولقد وجد أن الأطفال، يتعلمون مثلاً، الأسماء قبل الضمائر والأفعال والصفات قبل الظروف، وتكون حروف الجر والربط آخر ما يتعلمونه. وتبين أيضاً أن الأطفال يتكلمون الجملة البسيطة قبل المعقدة.

برزت في أواخر عام 1959 المرحلة الثانية في دراسة لغة الطفل وذلك بظهور نظرية كومسكي حول الصرف التوليدي. جادل الباحث في أن الجمل التي تصنف عادة في زمر متباينة تكون أقل تشابهاً من جمل الزمرة الواحدة، واليك الأمثلة التالية:

هل أكل الولد التفاحة؟ استفهامية

أكل الولد التفاحة اعلانية

يا ولد، كل التفاحة أمرية

الولد أكل التفاحة! تعجبية

في الواقع أن هذه الجمل أكثر تشابهاً من جمل تنتمي الى زمرة واحدة مثل:

جلس الولد الى الطاولة اعلانية

ركض الكلب الى المنزل اعلانية

كانت البنت مريضة اعلانية

كان المنزل بارداً اعلانية

لم ينكر كومسكي تمتع الفئة الأولى من الجمل ببنى سطحية متباينة بمعنى أنها تعكس أنماطاً جملية متباينة، لكنه أشار الى امتلاكها بنية عميقة عامة إذ أنها تمثل تشابه المعلومات الأساسية نفسها أما المجموعة الثانية من الجمل فلها بنية سطحية عامة وبنى عميقة متباينة، فالصرف واحد غير أن المعنى مختلف.

والذي فعله كومسكي أنه ربط الصرف، الذي كان من الناحية التقليدية نظاماً شكلياً فارغاً، بالمعنى والدلالات. فلقد أكد الباحث أن البنية العميقة للغة تحتوي على مجموعة من القواعد اللازمة لضبط مجموعة ثابتة من الوقائع، وذلك بطرق متباينة ولتعبر عن معان مختلفة. اقترح كومسكي إضافة لربطه الصرف بالمعنى، نظرية جديدة بصدد الاكتساب اللغوي. لم يكن مهماً طبقاً للنظرية المذكورة، أن يكتفي الطفل بتعلم المفردات، بل أنه لمن المهم له تعلم قواعد البنية العميقة التي تساعد على ترتيب المفردات في جمل وعلى فرز المعاني وتمييزها بعضها من بعض.

برزت أعمال كومسكي وهاريس في المرحلة الثانية من دراسة لغة الطفل. تميزت تلك المرحلة بجهود الدارسين لوصف الصرف التعميمي حيث يستخدم الطفل كلمةما مع عدد من الكلمات المتباينة وذلك مثل قوله: ماما فوق. ماما تأكل. وجد كومسكي بأن الصرف التعميمي لا يصف معاني الأطفال بدقة وأنه يعكس بنية عميقة. إذ يستطيع الطفل استخدام مفردة واحدة مع عدد من المفردات المختلفة للدلالة على معان وعلاقات متباينة. فعبارة ماما فوق تعكس علاقة فاعل بفعل، خلافاً لعبارة حقيبة ماما. فإنها تعكس علاقة مالك بمملوك.

زاد، في عام 1970، الاهتمام بأعمال بياجه ووهة نظره القائلة بأن اللغة تشمل مجموعة من القواعد التوليدية تشتق من فعل الطفل اخاص ومن صياغته للمفاهيم. فقد تخصصت أكثر الأبحاث بعد العام المذكور في محاولة ربط النمو اللغوي بالنمو الإدراكي. ويقوم في الوقت الحاضر تأكيد على مجمل السياق اللغوي لهمسات الطفل وليس على الكلمات الصوتية التي يطلقها . واضح أن كثيراً من المعلومات قد جمعت لمعرفة كيف يتعمل الطفل الكلام. ولسوف نراجع مراحل التصويت، والنمو التلقفي للغة، والأبحاث المعاصرة التي تربط النمو اللغوي بالنمو الإدراكي.

مراحل التصويت

ينخرط الناشئ بدءاً من ولادته وحتى نهاية الشهر الأول فيما يسمى بالصراخ غير المتميز، ويعجز الراشد عن تمييز صارخ الجوع من صراخ الألم أو الخوف، إلا أن الرضع يتحسسون لصراخهم جيداً، فقد دلت إحدى الدراسات التي عرّض فيها الرضع لسماع تسجيل صراخهم وصراخ أقرانهم أن الرضيع أميل للإستجابة لصراخه هو والبكاء له من استجابته لصراخ أقرانه.

يظهر الصراخ التمييزي لدى الطفل خلال الشهر الثاني حيث يعني صراخه للراشد أشياء متباينة، مثل الجوع والخوف والضيق. ويعمل التعزيز الاجتماعي ومساعدة الراشد التصويتية علىتسهيل تمييز الصراخ بالكم والكيف. وتفيد استجابة الأهل الفورية التفريقية لصراخ الرضيع على الإقلال منه، وعلى تقوية مهارة الطفل في الاتصال بالراشد وذلك بين الأشهر الثامن والثاني عشر تقريباً.

تسمى المرحلة الثانية من التصويت بالمناغاة وتظهر عند نهاية الشهر الثاني وتستمر حتى نهاية الشهر التاسع. يتعلم الطفل في مناغاته المقاطع الصوتية التي تشكل الأساس المتين للمهارة اللغوية. وترتبط المناغاة بالنضج العضوي وتؤكد بذلك صفة عموميتها لكل المجتمعات البشرية. ويعمل الاحتكاك الوثيق للطفل بالراشد على مساعدة الأول على التخلص من الأصوات الزائدة، وعلى إجادة نطق المقاطع المكونة للغة. فالمناغاة سبيل الطفل الأساسي لتعلم لغة الوالدين.

يبدأ الرضيع خلال الفترة الأخيرة من المناغاة وذلك من نهاية الشهر السادس الى الشهر الثامن، بإطلاق أصوات تكرارية مثل بابا بابا أو ماما ماما. تشمل الأصوات كرار المقاطع الصوتية والصامتة. يقال إن الطفل يتعلم الأصوات ليلعب بجهازه الصوتي ويدربه لا ليتواصل مع الراشد، إذ يقوم العنصر المثير لمناغاة الطفل في أصواته وأصوات من حوله وليس في حاجته للتواصل بالآخر. مع هذا فإن المناغاة تضع حجر الأساس لتوليد الأصوات اللغوية التواصلية.

يتحرك الطفل في بداية الشهر العاشر نحو الفترة الأخيرة من المرحلة قبل اللغوية التي تتمثل بالتقليد الصوتي لكلام الراشد. وعلى الرغم من قدرة الرضيع على تمييز صوته من أصوات الآخرين ومن أصوات سائر الرضع فإن التمييز الصحيح لأصوات الكلام يتأخر ويحدث في الشهر العاشر حيث يبدأ الرضيع في تمييز كلمات الراشد والاستجابة لها. ولا شك أن بعض الأولاد يفهمون بعض الكلمات مثل نعم ولا. ولكن يجب عد استجابة الطفل لمجمل الموقف وليس للكلمة نفسها. ويستطيع الرضيع في نهاية السنة الأولى تمييز الأصوات الأساسية في لغة الوالدين ومحاكاتها.

الكلام المبكر

ليس سهلاً دوماً معرفة متى يطلق الطفل كلمته الأولى ذات المعنى. لأنه عندما يطلق الطفل أولى كلماته، يكون الأهل متلهفين لسماع الكلمات التي لا يعدها اللغويون ذات معنى. وبصورة متوسطة يبدأ الأطفال بالكلام في حوالي الشهر الخامس عشر. إلا أن هناك فروقاً كبيرة بينهم، فبعضهم يطلقون كلماتهم الأولى في الشهر الثامن وبعضهم يتأخرون حتى الشهر الرابع والعشرين. يرى بعض العلماء أن العمر الذي يبدأ فيه الطفل بالكلام دليل على نموه العقلي المقبل. وتدل أبحاث ميد على أن الكلمة الولى تبدأ في الظهور عند الطفل الموهوب في الشهر الحادي عشر وعند المتوسط في الشهر السادس عشر وعند ضعيف العقل في الشهر التاسع والثلاثين تقريباً. على الرغم من قيام علاقة إيجابية بين بداية الكلام والنمو العقلي فإن الترابط أبعد ما يكون عن الكمال. ومن المعلوم أن الكثير من الأطفال الأذكياء قد يتأخرون في كلامهم. تدل أبحاث سميث على أن المحصول اللفظي فيما بين السنة الأولى والثانية يبدأ بطيئاً ثم يزداد بنسبة كبيةر تخضع في جوهرها لعمر الطفل ومظاهر نموه الأخرى كما يتضح الأمر من جدول نمو المحصول اللغوي التالي:

العمر بالسنة عدد الكلمات
1 3
2 372
3 896
4 1540
5 2072
6 2562

جدول نمو الحصول اللفظي للطفل تبعاً لزيادة عمره.

تؤكد نتائج سميث ما تشير اليه بعض الروائز من ارتفاع مختزن ابن السنة الثانية من المفردات الى 250 كلمة، وابن السادسة الى 2500 كلمة.

يمكن وصف حجم المفردات بأنه اضطرادي التصاعد والازدياد بالمقارنة بقدرة الطفل الصرفية والتواصلية. والواقع أن ثمة جدالاً بصدد كيفية وصف نأمات الطفل الكلامية وتفسيرها. يعتقد كومسكي بأولوية البيئة اللغوية وبأن القدرة اللغوية تسبق الفهم الإدراكي. أما بياجه وآخرون فيؤكدون الاكتسابية البيئية اللغوية وذلك في محاولة لترميز المعاني غير اللغوية. وبإيجاز فإن المشكلة تنحل في هذا القالب الجدلي المتمثل بالسؤال التالي: ما الذي يسبق الآخر اللغة أم الفكر؟

يميل العديد من علماء النفس المعاصرين، إن لم نقل اللغويين، لعد التطور اللغوي محاولة معقدة ومتقدمة تهدف الى ترميز أو تمثيل المخططات الإدراكية في مفاهيم عن الذات والعالم. وما يدعيه هؤلاء يعارض كومسكي الذي يؤكد أن الصرف والتركيب الصرفي ليس فطرياً ولا مكتسباً، بل هو إحكام يبنيها الطفل كمحاولة لتمثيل تجربته وإيصالها. يتعلم الأطفال، طبقاً لهذه النظرة، الصرف والتراكيب الصرفية بالطريقة نفسها التي يتعلمون بها التعاريف، فهم يجردون معنى الكلمة من استخدام الراشد لها ويستخدمون ذلك في كلامهم.

تكون كلمة الطفل الأولى، مثل صوته الأول، غير متميزة. والكلمة الأولى تقريب إجمالي للمعاني والبنى التي يتلمسها الطفل في لغة الراشد. فعندما يقول ابن السنة الأولى "ماما" يمكن أن يعني "أنظري يا أماه"، أو "خذيني"، أو "إني جائع". من الخطأ الافتراض بأن الطفل كان يستخدم جملة كاملة إذ أنه لا يفهم ماذا تعني الجملة. دعيت كلمة الطفل الأولى بالكلمة الجملة، والطفل يقيم استخداماته المختلفة للكلمة نفسها بالتشديد اللحني المتباين وبالتعابير الوجهية وبغيرها من مظاهر لا يعيها الطفل. يميل الأهل لتفسير أولى كلمات الطفل باعتبارهم لمجمل سياق سلوكه. إذ ليس الكلام مبدئياً، سوى مظهر واحد من محاولة الطفل الاتصال بالآخر.

يتحرك الطفل نحو السنة الثانية فينطلق متخطياً الاستخدام غير المتميز للجملة الكلمة الى جمع أكثر من كلمتين معاً. ويعكس استخدام مجموعة الكلمات مستوى جديداً من التميز اللغوي الذي يتضمن تعرف الولد بأن نظام الكلمة والكلمات نفسها والتشديد اللحني النازل بها تتشارك في إعطاء المعنى. غير ان استخدام الطفل لكلمتين يختلف جوهرياً عن استخدام الراشد للتركيب نفسه، يمكن تسمية استخدام اللغة في هذه المرحلة بالكلام البرقي لأن الطفل يهمل أدوات الربط والأفعال المساعدة وأحرف الجر. قد يأخذ كلام الطفل في السنة الثانية الصيغة التالية:

كتاب ماما

أني أرى ماما

كتاب ولد

يفهم الراشدون الكلام البرقي فقط إن هم استفادوا من دلالات أخرى. وقد يحاول الراشد التأكد من سماعه لكلمات الطفل بشكل صحيح بإعادته. إليك محاولة أم لفهم ابنها:

الولد الأم

ماما بيض ماما سمعتك تقول بيض

ماما خبزة ماما ستأكل خبزاً

جلس جدار هو جلس على الجدار

تنعكس واقعة محاولة الطفل استخدام اللغة للتواصل في جانب آخر من اللغة المبكرة، هو التكرار. فقد يعمد الطفل في محاولته لصياغة فكرته بدقة الى القول:

حلوى

سامر حلوى

ماما اعطني حلوى

ماما أعطي سامر حلوى

يسهم عدد من الحوادث في نمو اللغة المبكرة. فهناك أولاص النضج ونمو جهاز التدقيق الذي يمكن الأولاد من صياغة الأصوات بشكل جيد. وهناك ثانياً نمو إدراك الطفل الذي بواسطته يتمكن الأخير من بناء مفاهيم حول نفسه وحول العالم. وثمة ثالثاً اكتشاف التمثيل وواقعة أنا لكلمات ترمز الىمظاهر من تجارب الطفل ومفاهيمه. هناك أخيراً الصياغة المتقدمة لمفاهيم اللغة والجهد الدائم لربط المفاهيم اللغوية بتلك المشتقة من العالم والذات. يمكن في هذا الإطار، التأكيد بأن الطفل يبدأ فهم اللغة في الوقت نفسه الذي يكتشف فيه ذاته والعالم وأنه يحاول ربط اللغة والفكر في الوقت نفسه الذي يكتشف فيه ذاته والعالم وأنه يحاول ربط اللغة والفكر في الوقت نفسه الذي يحاول فيه التمعن في كل منهما على انفراد.

لا بد قبل ختام هذا النقاش من الإشارة الى اللغة التلقفية أو لغة الفهم. وعلى الرغم من تشابه فهم اللغة مع توليدها من بعض الجوانب، فإنهما يبقيان مختلفين. من المعروف أن السامع أقل حاجة الى القدرة على الاتصال من المتكلم. وعلى العموم فإن اللغة التلقفية تسبق اللغة المولدة والطفل يفهم اللغة قبل أن يتكلمها. إن مفرداتنا المهملة تزيد كثيراً على نظيرتها المستخدمة خاصة وأن المرء يفهم كثيراً من الكلمات دون أن يضطر لاستخدامها. وأن لمن الضروري دراسة هذا الجانب من اللغة لإكمال فهمنا المتزايد للغة المولدة.

الظواهر الإدراكية

لقد أبقينا على التقليد الذي يعالج اللغة بصورة مستقلة عن الإدراك بالرغم من أن طبيعتها تجعل منها ظاهرة إدراكية تفرض معالجتها في إطار الإدراك. ولا يختلف أمر ظواهر الانتباه والتعلم وحل المشكلات والتفكير، عن أمر اللغة سواء من حيث ضرورة مناقشتها على انفراد أم أنها تتوفر لدى الرضيع وتقيم الأساس للصيغ المتطورة لتلك الظواهر نفسها.

التوجيه والاهتمام والانتباه والاعتياد

تعد الظواهر المذكورة من بعض الجوانب مظاهر إدراكية أو تنظيمية للإدراك، حيث يشير التوجيه الى الحركة التي تطلق باتجاه مثير يحدث فجأة. فالإجفال من صوت غير متوقع إنما و توجيه غير متميز. وعندما يعتدل المثير يلتفت الطفل باتجاه الصوت أو يتطلع باتجاه مشهد جديد. يسمى سلوك الطفل هذا بمنعكس التوجيه ، ومثاله التفات الطفل لدى سماعه صوت أمه.

والاهتمام تركيز انتقائي على جانب أو آخر من حقل المثيرات. فعالم الطفل، شأن عالم الراشد مليء بكل أنواع الإثارة. وتسمح الظواهر الانتباهية للطفل بأن يركز بشكل انتقائي على جانب أو آخر من حقل المثيرات، الأمر الذي يساعده على اكتساب معلومات من ذلك الحقل.

ويعد الاعتياد من بعض جوانبه مكملاً لاستجابة التوجيه. فعندما يكون المثير جديداً يستجيب له الطفل بمنعكس التوجيه، أما إن تكرر المثير زال منعكس التوجيه. فإن علقت أداة متحركة فوق سرير الرضيع ركز انتباهه فيها، لكنه وبعد أيام من وجود الأداة لا يلتفت اليها إلا نادراً نتيجة ما يسمى بالاعتياد.

يعد التوجيه والاعتياد من العناصر الهامة التي تصاحب ظاهرتي النمو والتعلم. إذ يغدو الاعتياد في مجال المثير البصري المتكرر أكثر سرعة عندما يكبر الطفل وخاصة بعد الشهر السادس من العمر. يؤكد الباحثون، بصدد المثيرات المعقدة، أن الرضع يتوجهون أولاً لأحد مظاهر المثير المعقد ثم يلتفتون للمظهر الآخر.

ادعى بعضهم بأن التوجيه والانتباه والاعتياد ليست ارتكاسات بسيطة بل ترجع الى فعالية دماغية رفيعة المستوى. وعلى هذا الأساس فحصت هذه الظواهر الإدراكية للبحث عن إشارات الإعاقة في الوظائف العقلية. من جهة ثانية، بحثت الظواهر المذكورة لتحديد آثار سوء التغذية في الرضع، إذ يميل الأطفال سيئو التغذية لأن يكونوا صعاب الإثارة، أي أنهم يتطلبون، لكي يتوجهوا، وينتبهوا ويعتادوا، مثيرات أكثر وأشد مما يتطلبه الأطفال حسنو التغذية.

التعلم

يعرّف التعلم بمعنى عام، بأنه تعديل السلوك أو تغييره نتيجة للخبرة والمران وليس نتيجة للنضج أو للنمو. ليس التعلم بمستقل كلياً عن النضج والنمو لأن ظاهرتي التعلم والنضج تقودان دوماً الى تغير في السلوك أوتعديل له في كل مستويات العمر. غلا أن التعلم يحدث خلال زمن قصير نسبياً، خلافاً للنضج الذي تطول فترة عطائه. من الواضح ان نوع التعلم الذي يستطيع الطفل تحقيقه يتوقف على النمو والنضج. لكن التعلم في أي من أحواله يكون الحصيلة الكلية للخبرة والمران.

ربما كان الإشراط التقليدي أبسط صيغ التعلم المعروفة. يقوم الإشراط بالمثير الطبيعي والإستجابة الطبيعية، والمثير الإشراطي والإستجابة الإشراطية. يمكن جر استجابة رفيف العين الطبيعية بمثير طبيعي يتمثل بقذف تيار من الهواء على الجفن، ويتم جر رفيف العين التي تعاد تسميتها بالإستجابة الشرطية بواسطة لحن موسيقي يسمى بالمثير الشرطي وذلك بتكرار أصحاب تيار الهواء باللحن الموسيقي. ويقال أن تعلماً قد حدث لإنجرار رفيف جفن العين بمثير لم يكن قادراً في الأصل على جره وتبعاً لذلك يتغير السلوك.

لا يعرف ما إذا كان الرضع يستطيعون التعلم بالإشراط البسيط، على أنهم يسلمون أنفسهم للإشراط خلال الشهر الأول. فقد علم الرضع الإتيان بالمص أو الرضاعة استجابة للحن موسيقي. ويعتقد بعض علماء النفس بقيام تلاحق في أنماط الحس تسلم نفسها للإشراط التقليدي. ويرتب كازاتكين الإحساسات تنازلياً تبعاً لخضوعها للإشراط التقليدي كالتالي: المثيرات المحركة للجسم، فالمؤثرة بالسمع، فاللمس، فالشم، فالذوق، فالبصر. يشير التلاحق المقترح، أو يؤكد العلاقة بين النمو والتعلم. فالنمو يحدد البنى أي النظام، خلافاً للتعلم الذي يحدد المحتوى أي الاستجابات المكتسبة.

تؤكد الأبحاث حول إشراط سلوك الأطفال بأن الإشراط يغدو سهلاً كلما كبر الأطفال في السن. كان المثير الطبيعي في إحدى الدراسات لعبة تولد الضجيج، والمثير الشرطي وجه الأم وصوتها، ومثلت الإستجابة الإلتفات. وجد أن الرضع أبناء الأشهر الخمسة أميل للإستجابة بصورة صحيحة وبوقت أقصر من أبناء الشهرين. ربما رجع تفوق الفئة الأولى على الفئة الثانية في التعلم الى نمو الجهاز العصبي ونضجه.

يشكل الإشراط الإجرائي الصيغة الأساسية الثانية للتعلم إذ أن أكثر سلوك الطفل عفوي لأننا نجهل أي مثير طبيعي ولده. ويطلق على بعض سلوك الأطفال اسم "السلوك الوسيلي" بمعنى أنه يخدم غرضاً ما. فالطفل يصرخ لجذب انتباه الوالدين. ولا تبقى الاستجابة الإجرائية التي تحدث إنتقائياً إلا إذا عززت، فإن صرخ الطفل وحضر أهله إليه كرر صراخه كلما رغب بإحضار أهله، وتوقف عن الصراخ إن هو فشل في جذب أهله إليه في المرات الأولى (سكنر، 1968).

على الباحث الذي يرغب في توجيه التعلم الإجرائي أن يستخدم إشراطاً إجرائياً أو ما يسمى بتعديل السلوك. من أجل ذلك يختار المجرب سلوكاً يأتيه الطفل تلقائياً ويصمم على تعديله أوتشكيله بالتعزيز الإنتقائي. إن باستطاعة الباحث دفع الطفل لأن يغير معدل مصه لثدي بتعزيز المص بالحليب أو بأي غذاء آخر، ويمكن استخدام الإشراط الإجرائي لإزالة السلوك أو لإضعافه وذلك بوقف التعزيز عن السلوك أو بما يسمى بظاهرة الكف. يمكن للراشد، مثلاً أن يطلق ابتسامته أمام الرضيع عندما يصرخ أو يناغي فيتعلم الطفل أن يناغي كلما أحس بابتسامة الراشد. ويمكن، بظاهرة الكف، أن يمتنع الراشد ولعدد من المرات عن الابتسام لصراخ الرضيع أو لمناغاته فيتوقف السلوك أو يكف.

حل المشكلات

يعد حل المشكلات إحدى صيغ التعلم التي يحاول الفرد فيها التغلب على بعض المصاعب لبلوغ هدف مرغوب . يستخدم الفرد في العادة عدداً من الأساليب لحل مشكلته. من تلك الأساليب المحاولة والخطأ الذي يتضح جلياً بمحاولتنا إصلاح جهاز ما، لا نفهمه. فيمثل عبثنا العنيد بساعة أو مذياع محاولة لإصلاح الساعة والمذياع. ويحدث أن تحل المشكلة بضرب من التبصر المفاجئ أو بما يسمى بخبرة "آها" فإن لم نجد مفك المسامير اللولبية ترانا نقرر فجأة إن بإمكان قطعة نقدية أن تحل مكانه. يمكن لحل المشكلات، آخر الأمر، أن يكون منهجياً يتمثل بصياغة مستمرة للفرضيات وباختبار تلك الفرضيات. وهذا يؤكد وجهة النظر القائلة بأن حل المشكلات هو الصيغة الأرقى والأعقد للتعلم وبخاصة إذا قورنت هذه الصيغة بالتعلم الإشراطي.

يعد حل المشكلات لدى الأطفال بدائياً، إلا أن ثمة ضرباً من صيغ المحاولة والخطأ أو التبصر أو الاختيار المهجي للفرضيات لديهم. عمد بابوسك الى تصميم جهاز يفرض على الطفل تعلم إدارة رأسه يمنة أو يسرة للحصول على الحليب برنين جرس يؤشر مجيء الحليب من اليسار وبزميم طنان يشير الى مجيء الحليب من اليمين. وينعكس الإشراط بعد أن يتعلم الولد إتيان الإجابة الصحيحة. يولد قلب الإشراط مشكلة تفرض على الرضيع حلها. لاحظ بابوسك أن الأطفال أداروا رؤوسهم بطريقة تتفق والأساليب التالية:

1- كان يتوقع للحليب أن يأتي من الجهة الأولى نفسها

2- كان يتوقع للحليب أن يأتي من الجانب الذي تدفق منه الحليب أكثر من نظيره خلال المحاولتين.

3- كان يتوقع للحليب أن يأتي من كلا الجانبين بالتتابع الطبيعي والعكسي.

4- قام الحل بالالتفات دوماً لجانب واحد وبتصحيح الإجابة إن لم يأت الحليب فوراً من ذلك الجانب (بابوسك 1967).

لاحظ بابوسك أن الأطفال لم يستخدموا جميعهم الأساليب المنهجية، إذ كان بعضهم عشوائي السلوك أو فوضوية، الأمر الذي يدل على بروز الفروق الفردية في حل المشكلات منذ سن مبكرة. ولقد أبدى بعض الأطفال، بدءاً من الشهر الثالث، أساليب منهجية لحل المشكلات في موقف تعلمي مبسط. ولا يظهر الأسلوب المنهجي لحل المشكلات المعقدة إلا في عمر متأخر. وهذا ما يعكس التفاعل بين النمو والتعلم. فقد أعطي الأطفال من عمر يتراوح بين السنة والسنتين مهمة الحصول على دمية بعيدة عن المنال. وكان في متناولهم رافعة يمكن إن هي استعملت أن تجر الدمية الى يدا لطفل. فتذبذب سلوك صغار الأطفال بين استخدام اليد أو الرافعة واقتصر سلوك كبارهم فقط على استخدام الرافعة.

المنطق

يعد المنطق، بمعنى ما، أحد صيغ التعلم لأنه يتيح لنا استخلاص معلومات جديدة من المعلومات المتوفرة باستخدام القواعد الأساسية له. فإن عرفنا إن كل الثمار حلوة وأن ذاك الشيء المكور ثمرة، نستطيع تأكيد حلاوتها دون أن نذوقها. يسمى التفكير الذي ينتقل بنا من العام الى الخاص بالاستنتاج. أما إن نحن تذوقنا عدداً من الثمار واستنتجنا بأن الثمار حلوة المذاق. فنكون قد استخدمنا التفكير الاستقرائي، وانتقلنا من الخاص الى العام. من الواضح أن الأطفال محدودو القدرة على التفكير المنطقي، غير ان نمو تلك الظاهرة يكشف قدرة أخرى ويوفر معلومات هامة حول نمو التفكير المنطقي على العموم. يعتمد فهمنا لنمو منطق الطفل على العمل الضخم الذي قام به بياجه. فقد غدت دراسات هذا العالم على أطفاله الثلاثة خلال السنتين الأوليتين من الحياة من الأعمال التقليدية في علم النفس النمائي، إضافة لكونها من الدوافع الأساسية لصرح ضخم من الأبحاث في هذا المجال بدءاً من عام 1960. ينطلق بياجه من مسلّمة تؤكد أن الذكاء البشري وخاصة التفكير المنطقي منه، ينشأ من تجربة الطفل الأولى في التناسق الحسي الحركي. ويصف بياجه في هذا الصدد، كلا من قدرة الطفل وقصوره إزاء العالم.

يعتقد بياجه الذي يسمي الفترة الممتدة بين سنة ونصف وسنتين من عمر الطفل بمرحلة النمو الحسي الحركي التي تكون عرضة للتحول من الفعل المنعكس الى التفكير الحق. ويضيف الباحث أن في مقدور طفل المرحلة المذكورة أن يفكر إن هو استطاع أداء التجارب العقلية ، أي إن هو استطاع أداء أفعال نموذجية على مدى محدود. هذا وقد تعرف بياجه بعض المراحل التي تؤشر نمو منطق الطفل.

يعمل الطفل خلال المرحلة الأولى التي تمتد من الولادة الى الشهر الثاني على تعديل بعض الأفعال الارتكاسية. فللوليد كما ذكر من قبل، عدد من الارتكاسات التي تجرها المثيرات اللازمة. وما يدلل على واقعة تعديل الأفعال الارتكاسية هو أن الطفل يغير فمه ليتوافق مع شكل حلمة الثدي وحجمها. وهذا ما يطلق عليه بياجه اسم المطابقة. ويميز الأطفال بتقدم العمر والممارسة بين مختلف الأشياء التي تمص فيمصون بعنف حلمة تعطي الحليب ويرفضون إبهام الراشد. يشير بياجه الى فعل التقبل أو الرفض لدى الطفل للمثيرات المحيطية وتبعاً لحاجاته الخاصة بالتمثل. يشكل التمثل والمطابقة الأنماط الأساسية التي وفقها يتفاعل الطفل مع واقعه مكتفياً لضروراته في مختلف مستويات النمو. يتعلم الطفل في المرحلة الحسية الحركية أيضاً إيجاد استخدامات جديدة لمنعكساته، فيبدأ حوالي الشهر الثاني أو الرابع بجمع أفعاله الانعكاسية المعدلة بطرق مختلفة يسميها بياجه بالتخطيطات أو التركيبات. يشير بياجه الى أبكر تلك التخطيطات بالفعل الدائري. فعندما يحدث أن تتلاحق بعض التخطيطات بمجرد المصادفة، وأن يحب الطفل النتيجة المرتبطة بتلك التلاحقات فإنه يعمد الى توليدها من جديد. فقد يضع الطفل إبهامه في فمه مصادفة ويمصه ويتلذذ بذلك. فإن سقط الإبهام من الفم أدخله فيه ثانية. يشكل تنسيق تخطيط المص م عتخطيط حركة الإبهام تخطيطاً لمص الإبهام من درجة أرفع، ويكون ردّ فعل دائري: فالإبهام بالفم يجر الى المص الذي يقود بدوره لإدخال الإبهام الى الفم والذي يقود الى المص وهكذا دواليك.

وعلى الرغم من أن الفعل الدائري يمثل تقدماً على الفعل الإنعكاسي فإن قدرته المعرفية ضعيفة لأن الطفل لا يمص أصبعه ليتعرف عليه كشيء بل لأن له وظيفة حيوية إزاء الطفل.

ولا يأتي التعرف التمثيلي الحق الذي يتجسد بالتعرف على الشيء من خلال صفاته إلا متأخراً. يبدي الطفل بدءاً من الشهر الرابع الى الثامن أي في المرحلة الثالثة من الفترة الحسية الحركية ما يسميه بياجه بالأفعال الدائرية الثانوية. يعني هذا أن الأفعال الدائرية الأولية تقتصر علىتخطيطات جسمية وأنها تمتد لتشمل الأشياء والحوادث الخارجية. لاحظ بياجه مثلاً أن طفله كان يرفس ساقه فيصيب دمية فوق السرير. يبد أن الصبي حصل من مراقبة حركة الدمية على لذة لا تقل عن لذة مص الإبهام. وهكذا فقد كرر رفس الدمية. لقد حرض تخطيط الرفس هنا شيئاً أثار تخطيط النظر، مما قاد الى المزيد من الرفس. بذل بياجه عناية خاصة للتأكد من أن رفس طفله لم يكن إثارة عشوائية لمرأى الدمية، بل استجابة انتقائية موجهة ورفيعة المستوى. يمكن للمرء، إذن، أن يلاحظ في هذه المرحلة بدايات الأفعال التصميمية.

يقود الفعل الدائري الثانوي، بجلبه للشيء الى تلاحق فعل الطفل والى مطابقة الذات نفسها للشيء وصفاته ولوعي الفروق بين الذات والشيء. تبقى تلكا لفروق برغم ذلك محدودة، لأن الفعل الدائري لا يعكس تصميماً حقيقياً، إذ أن الطفل، إذ يكتشف مشهداً هاماً، إنما يفعل ذلك مصادفة ولا يستطيع خلق الحادث المهم أو ابداعه.

يبدأ الأطفال خلال الأشهر الأخيرة من السنة الأولى أو ما يسميه بياجه بالمرحلة الرابعة بإقامة التناسق بين تخطيطات سبق اكتسابها، وذلك بغية تحقيق هدف ما. يمكن القول بأن تصميم الأطفال في هذه المرحلة يسبق الفعل نفسه. يحرك الأطفال في هذه السن الحواجز والعوائق أو المشاهد بحيث يستطيعون بلوغ شيء مرغوب. أخفى بياجه مرة ساعته تحت الوسادة. فحرك ابنه الوسادة بسرعة كي يلتقط الساعة. لقد نسق الصبي تخطيط النظر مع تخطيط الرفع والإمساك.

يسّهل تنسيق عدد من التخطيطات إتيان عدد من أنماط الفعل ومستوياته. يعد التقليد أهم تلك الأنماط، إذ أن الطفل يبدأ خلال الأشهر الأخيرة من السنة الأولى بتقليد أفعال الراشد. فإن حرك الطفل وسادة وضعها الراشد هناك فهو إنما يمارس تقليداً عكسياً. يعتقد بياجه أن التقليد يؤشر مستوى جديداً للفعالية الذهنية يسبق مختلف ضروب التمثيل بما في ذلك اللغة.

يبدي الطفل في بواكير السنة الثانية ما يسميه بياجه بالفعل الدائري المبدع مؤشراً المرحلة الخامسة من الفترة الحسية الحركية. يميل الطفل في الفعل الدائري المبدع للحبث عن الجديد وخلقه وليس للتكرار الذي يحدث بطريق المصادفة. إن الطفل يكتشف، بنشاط، الأشياء وملامحها وصفاتها، الأمر الذي يجعله يحس بالعلاقة السببية، ويبدأ بتكوين بعض مفاهيم السبب والنتيجة.

يبدأ الفعل الدائري الإبداعي مثلاً، إذا ما أسقط الطفل شيئاً من سريره. فالفعل يشمل تخطيطات الإمساك والإطلاق والتخطيط البصري لمراقبة الشيء والتخطيط السمعي له عندما يضرب الأرض. ويراجع الطفل الفعل بعد أن يعيد الأهل الشيء لمكانه ويقذف أشياء أخرى ليرى ماذا يحدث، أو يقذف الشيء نفسه من ارتفاعات مختلفة وبقوة مختلفة ليتعرف على تباينات الأثر في مختلف الأوضاع.

يفيد الفعل الدائري الطفل في تعليمه أن التغير في سلوكه يستطيع أن يولد تغيراً مقابلاً في الحوادث الخارجية فيبدأ الأطفال يفهمون أن بإمكانهم السيطرة على أجزاء من محيطهم وتوجيهها بقوة أفعالهم الخاصة. كما يتعلمون أن سلوكهم يخضع هو الآخر للسيطرة من جانب الآخرين وأن بعضاً من الأشياء الجديدة التي ينتجونها أقل من سواها إسعاداً لأهلهم.

يبدي الأطفال، بدءاً من منتصف السنة الثانية الدليل على ما يسميه بياجيه "بدايات الفكر" مؤشرين بذلك حلول الفترة السادسة والأخيرة من المرحلة الحسية الحركية. يحقق الأطفال في هذه الفترة ما يسميه بياجه بالتجارب العقلية حيث يجرب الأطفال المشكلات في رؤوسهم قبل مباشرتها في الواقع. فإن رغب الطفل في حل مشكلة ما وعجز عن ذلك بالمحاولة والخطأ، قدم تخطيطاً تعلمه في فعالية مختلفة. يفعل الاطفال في هذه المرحلة ما يفعله قردة كوهلر عندما يلتقطون الموزة من خارج القفص وذلك بإدخال عدد من العصي لصنع عصا طويلة وسحب الموزة قريباً من اليد.

يصف بياجه محاولة طفلته إخراج سلسلة جذابة من علبة كبيرت مفتوحة جزئياً، حيث تستطيع الطفلة رؤية السلسلة، لكنها تعجز عن إدخال أصابعها عبر الفتحات لالتقاط السلسلة. استخدمت الطفلة في محاولة لحل المشكلة تخطيطاً أبان فائدته في الماضي، أي أنها حاولت إدخال أصابعها عبثاً في العلبة. وكانت الطفلة خلال حل المشكلة بتلك الطريقة تفتح فمها وتغلقه، وتزيد من فتحه في كل مرة عن سابقتها وبعد لحظات من هذا استطاعت الطفلة فتحت العلبة جيداً وأخذت السلسلة. يمكن عد حركات الفم كأفعال تحضيرية استطلاعية تساعد على فتح العلبة.

من المهم أن نضيف أن بياجه لا يعتقد بأن الطفلة استخدمت اللغة في تجاربها العقلية. لأن لغة الطفلة في تلكا لمرحلة لم تكن بدرجة من التطور تكفي لوصف المشكلة. وعلى الرغم من أن الطفل يستطيع تصنيف الأشياء وإيصال رغباته فإن لغته مستغرقة في سياق من الإشارات والتشديدات الصوتية المرتبطة بالسياق الإجتماعي. تقوم بداية الفكر في التجريب العقلي الذي يسبق الفعل، ويكون نمط التفكير المتوفر لابن السنة الثانية محدوداً جداً، إذ أنه يتناول ما هو قائم الآن من علاقات بين الأشياء. وبما أن الفكر محدود أيضاً بأنواع الأفعال المصغرة اللتي يستطيعها الطفل فإنه يتناول وظائف الأشياء وليس خواصها أو صفاتها. يستطيع الطفل في السنة السادسة أو السابعة بناء صفات الأشياء وخواصها في مفاهيم تحمل أيضاً وظائف تلك الأشياء.

يكون الطفل في بداية المرحلة الحسية الحركية قادراً على تعديل منعكساته فقط، لكنه، وبمساعدة تخطيطات التفريق الصاعد، والتكامل، يستطيع أخيراً اكتشاف الأشياء عن تصميم وإرادة كما يستطيع أن يكتشف معاني جديدة لتحقيق غايات مرغوبة. من الواضح ان بروز القدرات المعرفية يتماشى مع بناء الطفل للمفاهيم الأساسية حول الأشياء والسببية والمكان والزمان.

المفاهيم الأساسية

توحي ملاحظات بياجه بأن الطفل الصغير يعجز عن أن يميز بين العالم ونفسه، فليس ثمة، من وجهة نظر الرضيع، فرق بين اختفاء وجه الأم حين تقوم بإبعاد رأسها، وبين الاختفاء الناجم عن تحريك الرضيع لرأسه هو. المألوف أن يتوقف الطفل، خلال الشهرين الأولين من الحياة، عن التطلع الى شيء يبتعد عن عينيه فينظر الى شيء آخر. لقد لاحظ وولف بانه عندما ينظر الطفل الى وجه الراشد يصرخ عند اختفاء الوجه، دون أن يتطلع لرؤيته، حينما يظهر من جديد. يشير الصراخ في هذه الحالة الى أن شيئاً لذيذاً ولى ولن يعود. يمتلك الطفل خلال تلك الفترة الأولى من المرحلة الحسية الحركية فكرة فجة عن السببية والمكان والزمان. وليست السببية أكثر من وعي لتلاحق التغير في حالة قائمة. ويقتصر المكان على وعي الجسم والمحيط المباشر.

يبدو أن الطفل يمتلك، خلال مرحلة الفعل الدائري الأولي، توقعات خاملة، إذ يحاول بعد نهاية الشهر الثاني أن يحدق في المكان الذي اختفى فيه شيء كما لو أنه كان ينتظر رجوعه. فهو لا ينشط للبحث عن الشيء، كما لو أنه كان ينتظر رجوعه. فهو لا ينشط للبحث عن الشيء، وليس هناك دليل بأنه يفهم بأن الشيء يقوم بمعزل عن الفعل القائم. فإن كان الرضيع يمص لهاية وسقطت على الأرض، فإنه يستمر في المص كما لو أنه كان ينتظر رجوعها، دون أن يسعى للبحث عنها.

ويوسع التوقع الخامل احساس الطفل بالسببية الى حد ما بحيث أنه يبدأ بعزل الشيء عن الفعل. وبالمثل فإن الطفل يبدأ يفهم المكان بصورة أفضل من فهمه له من قبل، إذ أنه يميز تخطيطات يختلف بعضها عن بعض في إطار جسمه. ويتبلور مفهوم الزمان أيضاً بحيث أن الطفل يتوقع أن يحدث أمراً ما ثانية. أننا نستطيع أن نستنتج مفاهيم الطفل بصدد المكان والزمان من أفعاله فقط.

يبدأ الطفل خلال الأشهر الأربعة التالية أي في مرحلة الفعل الدائري الثانوي، بإسقاط شيء ما، والبحث عنه في مكان سقوطه المتوقع. ويحدث هذا عادة عندما يعمد الطفل نفسه الى إسقاط الشيء أو قذفه. ويبحث الطفل في هذا الوقت أيضاً عن الأشياء المخبأة. فإن أخفيت لعبة خلف غطاء، سحب الطفل الغطاء من فوق اللعبة أو اللعبة من تحت الغطاء. أما إن كانت اللعبة مغطاة تماماً فإن الطفل لا يبحث عنها.

يستطيع الطفل في هذه المرحلة أن يقيم تمييزاً دقيقاً بين الشيء وبين الفعل وأن يفهم أن هناك تراطباً بين فعله وبين الشيء المتأثر من هذا الفعل. وتغدو العلاقات المكانية هي الأخرى أكثر وضوحاً وتحديداً فعندما يصل الطفل الى شيء مغطى جزئياً، يبدأ بإدراك مفهومي "فوق وتحت" ، كما تسهم مراقبة جسم يسقط في تكوين فكرة "المفهومين المذكورين" . ويبدأ الطفل يفهم الفواصل الزمنية عندما يقذف شيئاً ويتوقع سماع صوته أو يعاين النتائج المباشرة للسقوط.

يبحث الطفل من الشهر الثامن الى الثاني عشر عن الأشياء التي أخفيت كلياً من أمام ناظريه، فعندما أخفى بياجه قطعة من الحلوى في يديه، حاول ابنه حل قبضته والتقاط الحلوى، لكن ، عندما أخفى الباحث يديه بقبعته وترك الحلوى هناك، عجز الطفل عن إيجادها واستمر يبحث عنها في يدي والده بسبب عجزه عن أن يتعامل مع التوضع المزدوج. وبالرغم من أن الطفل قد بدأ يفهم أن الأشياء يمكن أن توجد دون أن ترى، فإن تجربته كانت من المحدودية المكانية بحيث يعجز عن أن يفهم كيف يمكن للحلوى أن تكون خارج مرمى البصر في أي مكان.

تتحسن مفاهيم الطفل عن المكان والزمان والسببية معاً، وبصورة متكاملة خلال هذه الفترة. ويدفع الفعل الموجه الطفل عن الأشياء المرغوبة ، ولفهم العلاقات أثناء استخدامه للوسائط لتحقيق غاياته النهائية. ويزداد أيضاً تميز مفهوم المكان مع تزايد قدرة الطفل على التعرف على مختلف الأمكنة والمساحات. وتتميز الأمكنة طبقاً لما يمكن أن يصنع فيها أو لما يرجع إليها. ويزداد مفهوم الزمان وضوحاً لازدياد تفريق الطفل بين الفواصل الزمنية اللازمة لمختلف الأفعال والحوادث.

يبدأ الطفل في منتصف السنة الثالثة يبحث عن الأشياء التي خبئت أو أزيحت مثل قطعة الحلوى في اليد وقد وضعت تحت القبعة. تشير الواقعة الأخيرة الى نهاية المرحلة الحسية الحركية، فالطفل الآن ترتبط بأمكنة معينة، ويكون مفهوماً الفرد عن ذاته وعن العالم منعزلين ومستقلين.

يستطيع الطفل الآن أيضاً أن يتعرف على التلاحق السببي بمعزل عن تلك التلاحقات التي تستغرقه. والمكان هو الآخر يزداد انعزالاً عن الفعل ويرى الطفل الأشياء بما في ذلك نفسه، كائنات في امكنة متباينة وأنه نفسه معزول عنها. يبدي مفهوم الزمان أيضاً الاستقلال النفسي نفسه إذ يمكن للتلاحقات الزمنية أن تحدث بمعزل عن أفعال الطفل ذاتها، وهكذا يبدأ الطفل في إدراك أن الزمان يتصف بالموضوعية وبأنه لا شخصي.

وبإيجاز، يبدأ الطفل بمعاناة ذاته كمركز للكون يقاس كل شيء في إطاره وفي إطار فعله الخاص. وفي نهاية السنة الثانية يرى الطفل نفسه مجرد جزء لهذا الكون الذي له أشياؤه المستقلة ومكانه وزمانه وسببيته. إن الطفل جاهز الآن لتوسيع توقعاته عن الأشخاص الآخرين بصورة فردية متمايزة كلياً.

الفصل الثاني: النمو العضوي والعقلي في مرحلة الرضاعة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى