الجمعة ٢٨ آذار (مارس) ٢٠٠٨
حياتي من دوني
بقلم رانية عقلة حداد

قيمة الحياة في حضرة الموت

ماذا يمكن أن يفعل المرء إذا ما علم فجأة أنه ليس سوى أيام قليلة تفصله عن التراب، هذا ما كان ينتظر آن (سارة بولي) بطلة الفيلم الأسباني الكندي (حياتي من دوني) انتاج 2003.

آخر ما كان من الممكن أن يخطر ببال آن ابنة الثالثة والعشرين المحبة لزوجها وطفلتيها أنها مصابة بالسرطان وأنها ستواجه الموت قريبا... لكل ردة فعله الخاصة إزاء ذلك، قد تتقاطع مع أحدنا، وقد لا تكون سوى مسوغا لنا كي نتأمل الحياة واللحظات التي يفوتنا الاستمتاع بها، هذا ما كانت ترغب (ايزابيل كويزت) مخرجة الفيلم أن نختبره من خلال تجربة آن، فمنذ البداية الشعرية للفيلم وبلقطات قريبة لـ آن تضعنا على مسافة حميمة منها ومن عالمها، وهي تغمض عينيها تحت المطر المنهمر عليها بغزارة، ونتلصص على ما تُحدّث به نفسها وهي تتأمل؛ صوت المطر الذي يهطل ملامسا الاوراق وجسدها، وتختبر ملمس الارض التي تلين تحت قدميها، الرائحة...، انها المرة الاولى التي تمنح آن لنفسها حق الاستمتاع بحواسها، وهي غير مصدقة انها هي هذه المرأة التي تقف الان تحت المطر مطلقة لحواسها العنان، "من كان ليصدق هذا... هذه انت!" هكذا تحدث نفسها.

أنت وحيدة:

ما الذي يلزم المرء كي يدرك أهمية كل لحظة في حياته وليستمتع بجمالها، لربما وحده الموت القادر أن يشعره بذلك، وبأن الحياة ثمينة وهناك مساحات من الرغبة والمعرفة لا زالت مجهولة، يشتهي أن يتوقف الزمن كي يكتشفها، هذا حال آن وقد اخبرها الطبيب بحالتها، انتابها مزيج من المشاعر، وحدة، ألم، ورغبة في المغامرة واكتشاف ما فاتها من متعة وبهجة، وكل ما لم تترك اعباء الحياة وقتا لفعله، فها هي تدون كل ما يجب أن لا يفوتها... تختزل وتكثف كل ما عليها فعله قبل ان تموت بعشر نقاط؛ كأن تخبر طفلتيها كل وقت ممكن انها تحبهما، وان تسجل لهما رسائل في اعياد ميلادهما حتى تكبرا، وان تجد لزوجها زوجة مناسبة وام بديلة لطفلتيها، ان تطلي اظافرها وتزين شعرها، ان تشرب وتاكل كما تشاء، ان تقول ما تفكر به، ان تجعل رجل يقع في حبها، ان تزور والدها في السجن...، لربما هي امنيات بسيطة لكنها كبيرة بالنسبة ل آن التي صغر سنها والمسؤوليات التي تتحملها حالت دون ان تشعر بالحياة.

نجحت آن في تحقيق كل الرغبات التي دونتها باستثناء واحدة "أن أقول ما أفكر به"...، فقد اختارت أن تخفي خبر مرضها عن الجميع وأن تحتفظ بمعاناتها وهواجسها سرا عن أحبائها، حين أدركت أن الموت تجربة فردية لا يمكن لاحد أن يشاركها بها، مما عمق احساسها بالوحدة فلم تكن أبدا وحيدة في حياتها مثل الآن... وليس إلا الكذب... سيكون رفيقها الوحيد، بهذا حدثت نفسها وهي تتجول في السوبر ماركت متأملة الناس ومتسائلة من منهم سيفكر بالموت هنا، لا أحد فكل الاشياء هنا تمنع من التفكير بالموت... كل شيء سيبقى، إلا هي ستغادر لوحدها... رغبت لو انها تغرف قدر الامكان من بهجة الحياة،... كل ما تستطيع قبل ان تتسرب منها الايام، واكتشاف مشاعر جديدة لم تسمح لها الظروف من قبل باختبارها، تريد ان تعيش الحياة كما لم تعشها من قبل، الامر الذي يجعلنا نفهم ما يقف خلف بعض تصرفاتها الانانية بايذائها افرادا لا يستحقون ذلك... فها هي من جهة تخون زوجها الذي تحب مع رجل اخر، ومن جهة آخرى تستمتع بحب هذا الرجل الذي لا ذنب له ان يتعذب بعد غيابها.

في النهاية نسمع رسائل بصوتها إلى جميع احبتها تعتذر فيها عن اخفائها الأمر عليهم، مترافقة مع صور لحياتهم تسير كما خططت اليه ان تكون عليه في غيابها... لتكون هذه حياتها من دونها.

امتاز اسلوب المخرجة (ايزابيل كويزيت) بالشعرية التعبيرية والتأمل، من خلال مفردات البصرية السمعية مختلفة؛ كاللقطات القريبة ل آن تحت المطر تتأمل وتفكر، ونستمع بوضوح لمنولوجها الداخلي، الذي نعاود الاستماع له من حين الى اخر على امتداد الفيلم، مترافقا في اغلبها مع مشاهد بصرية تعبيرية تجسد احساس وانطباعات آن عن الحياة والناس، الاشياء المحيطة، وشعورها حيال ذلك، فنرى من وجهة نظر آن انطباعها عن الناس الغارقين في الحياة من حولها في مشهد السوبرماركت، نراهم مبتهجين، بعيدين عن التفكير بالموت، يرقصون، بالاضافة الى استخدام الكاميرا غير الثابتة المهتزة في كثير من المواقف تنقل الينا قلق واضطراب آن.

"حياتي من دوني" بخلاف الافلام الاخرى التي تناولت موضوع السرطان، يتناول ثنائية الحياة والموت بطريقة مغايرة، حيث تغيب عنه المشاهد التي تركيز على آلام الجسد والمعاناة، او تعاطف الشخصيات المحيطة، وبالتالي تستدر عطفنا كمشاهدين، انما تمنحنا مساحة لتأمل قيمة الحياة التي يجب ان ندرك اهميتها، ونستمتع بكل لحظة فيها قبل ان تتسرب على غفلة منّا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى