الأحد ٤ نيسان (أبريل) ٢٠١٠
بقلم قاسم مسعد عليوة

سياحة تاريخية في طقس شعبي

يا تربة يا أم بابين... وديتى الالنبي فين؟
كثيرة هى الاساليب التى تبتكرها الجماعة الشعبية لمقاومة المحتل والسخرية من صلافته ومناهضة مسلكه القمعى ضد أفرادها، ومن هذه الأساليب ما لجأت إليه الجماعة الشعبية بمنطقة قناة السويس حينما فجرت طاقات الغضب المستعر بداخلها وأطلقتها حرائق تمتد ألسنتها عند كل أورنة لتلتهم الدمية التى شكلتها على هيئة اللورد الذى طالما أذاق المصريين فى زمن الحرب العالمية الأولى ما لا حصر له من صنوف القهر والاذلال. إنه اللورد " اللنبى " ذلك المتعجرف الذى أفردتْ له الذاكرة الشعبية أحط مكانة ، وألصقت به أبشع الصفات . ولم لا وقد زج بالمصريين في الحرب قسراً وبالحيلة، و شكل منهم مجموعات ( الرغوبية ) لخدمة قوات الاحتلال البريطانى، وأجبرهم على تعبيد الطرق وحفر الآبار ورفع أعمدة التليفون بين معسكرات قواته ؟

طبيعى والأمر هكذا أن تناصبه الجماعة الشعبية عداءً بعداء، ولا لوم عليها إنْ صورته فى شكل دمية شوهاء تجسد القبح والبشاعة إذ يجتمـعان في هـيئة واحدة أو قامت بتجريسه وتحويله، وهو اللورد، وهو الفيلد مارشال فيكونت، وهو المندوب البريطانى على مصر إبان ثورة 1919م. إلى مجرد النبي أو «المبي» كما تنطقها الجماعة الشعبية أحياناً، فهى إنما تثأر بمسلكها المتأجج بالرغبة فى الثأر لكرامة الوطن بدهسها لكرامة الظالم، وإذلالها لكبرياء المتجبر، وطعنها لعجرفة كل مستعمر أو صديق للمستعمرين، وهل هناك أذل من تصويره على هيئة الدمية الشعثاء الغبراء التى يتخطفونها ويطوفون بها ويصفعونها ويلصقون بسميها وبامرأته احط النعوت؟.. هذا هو دأب الجماعة الشعبية لا يوقفها فى مسلكها هذا ضابط، ولا تعطلها عنه سلطة ولا يمنعها من الجنوح فيه رقيب، فلتكن فضيحته بجلاجل، و ليهزأ به أفرادها شر هزأة وليترك الصبيان ليفعلوا به الأفاعيل.

«يا ألنبى يا ابن ألنبوحة ومراتك ... و شلشوحة».

و مادامت هذه التجريسة قد نبعت من قلب الجماعة الشعبية فمن الطبيعى أن تمتزج بما برع فيه الفنان الشعبى من رقص وغناء وموسيقى وتشكيل وتشخيص و فنون زف العروس لكن المدهش أن تتحول هذه الفنون كلها إلى طقس ملازم لواحد من أهم وأقدم الاحتفالات الشعبية المصرية. وهل فى مصر ما هو أهم وأقدم من احتفالات شم النسيم؟

تحولت تجريسة اللورد اذن إلى طقس احـتفالى تعــارفت الجماعة على مفرداته وحرصت على القيام بها جميعاً، حرصها على عدم الانتهاء منه إلا باشعال الحرائق الكبرى فجر يوم شم النسيم والقاء دمى "الألنبى". فيها أقول الحرائق الكبرى ، لأنه يسبقها حريقان صغيران يطلق على أولها حريق "أول إشارة" وعلى الآخر حريق "ثانى إشارة" و الغرض منهما تنبيهى كما يبين من اسميهما.
ابحث عن اليهود

وعادة حرق الدمى موجودة لدى شعوب أخرى، ففى حوض المتوسط نجدها على سبيل المثال في إسبانيا، كما نجدها في اليونان، وإنْ اتخذت فى الدولتين منحى دينياً فارتبطت فى إسبانيا باحتفالات القديس "سان خوسيه" واستهدفت بالأساس طرح الشر عن الجماعة الشعبية هناك و طرد الأرواح الشريرة، أما فى اليونان فقد ارتبطت بعيد قيامة المسيح لدى الطائفة الارثوذكسية والدمية عندهم من قماش مملوء بالقش وتسمى جوداس Jodas ، وطقوس حرقها تتصل بواقعة صلب المسيح بمساعدة من يهوذا الاسقربوطى .

إلى هنا يبدو الأمر عادياً، لكن من يصدق أن لليهود إصبعاً ملوثاً بالدم ـ كالعادة ـ سبق وعكر الاحتفال بهذا الطقس الشعبى الذى أصبح فيما بعد علامة على عرامة الحس الوطنى المصرى؟

تبدأ الحكاية فى بورسعيد المدينة الكوزموبوليتانية التى فتحت ذراعيها منذ نشأتها لكل جنسيات العالم وسكنها فيمن سكنها اليهود واليونانيون الأرثوذكس الذين ظلوا يمارسون طقس حرق الجوداس إلى أن كان الإعداد لحرقها فى أبريل من العام 1883 م. أثناء الاحتفال بعيد قيامة المسيح بكنيسة سان جون الواقعة آنذاك بشارع إسماعيل – صلاح سالم فيما بعد ـ وشهد الصلاة داخل الكنيسة الوجهاء من المصريين والجاليات الأجنبية، أما فى الخارج ـ خارج الكنيسة ـ فكان هناك جمع غفير من الأجانب وآلاف من الوطنيين ، فأوعز اليهود، و كانت أعدادهم قد تزايدت فى المدينة، إلى المحافظ إبراهيم توفيق أنَّ فى الأمر تعريض بهم وخطر عليهم، وكتبوا عريضة يرجونه فيها منع الاستهزاء بهم .

ووفقاً لما ذكره "ديمتريوس هالدوبيس" فى كتابه النادر "حقائق وذكريات عن مدينة بورسعيد"، وحسبما روى المؤرخ ضياء الدين القاضي، فقد وفدت إلى مكان الاحتفال ثلة من رجال الشرطة يحملون بنادقهم ذوات السناكى بقيادة ضابط إيطالى، كان فى خدمة البوليس المصرى فى ذلك الحين، لمنع حرق الجوداس المرفوع بالأحبال على سارى جرس الكنيسة. عندئذ دوى صفير وعلا صياح المتجمهرين مطالبين القنصل اليوناني واسمه "فونتاس"، وكان قد حـضر الاحـتفال مرتدياً مـلابـسه الرسمـية المجركسة ومصـطحباً قواصه الخـاص حارسه الخاص. طالبه المتجمهرون بالإسراع فى عملية الحرق، إلا أنَّ الضابط الإيطالى أمر رجاله بكسر باب الكنيسة وإنزال العَلم اليونانى والجوداس من فوق برجها، أكثر من هذا، أمسك بمقبض سيفه المعلق إلى جنبه مهدداً القنصل، فأحاط به أبناء "جزيرة كاسوس" لحمايته وأخذوا فى الصياح بأن حياتهم فداء لقنصلهم، وأطلق بعض اليونانين الأعيرة الصوتية (الفشنك) فى الهواء، فحمى وطيس الشغب واندفع القنصل إلى الكنيسة ليحتمى بها، و أمر بإغلاق النوافذ والأبواب بينما انبطح مَن بداخلها أرضاً؛ أما مَن كان خارج الكنيسة مِن مصريين وأجانب فقد دارت بينهم وبين أورطة البوليس معركة طاحنة انتهت بالاستيلاء على أسلحة الجنود وجرح الضابط الايطالى وسقوط عدد من الجرحى من يونانيين ومصريين، وتوفى أحد الشوام كان يبيع غازوزة وقت الاحتفال.

تحويرات الدمية

و تدور الأيام و يفور تنور الغضب الشعبي وتنهض الدمية من جديد مصرية، بورسعيدية هذه المرة، ومحاطة بغضب وطنى مستعر. غضب يستفز مشاعر الجماعة الشعبية فيطلقها باتجاه المقاومة، ويوغل البورسعيديون في سخريتهم مِن غطرسة المحتل ويجتهدون في التريقة على واحد من أبشع رموزه مؤكدين على أن الظلم دائماً إلى زوال.

" يا تربة يا أم بابين ..
و ديتي الألنبي فين ؟ "

وتحورت الدمية لتأخذ هيئات وأسماء كل من يعادى الجماعة الشعبية أو يشذ عنها ففى حرب 1956 م. أخذت هيئات وأسماء إيدن، بن جوريون، موليه، ونورى السعيد. وفى حرب 1967 م. أخذت شكل موشي ديان ثم ليفى أشكول مع حرب الاستنزاف، وفى حرب 1973م. تحولت إلى جولدا مائير، وفى زمن الانفتاح اتسعت ظاهرة التحور هذه لتشمل الفئات الجشعة من التجار، والأطباء، والمدرسين، والحلاقين، وحكام الكرة المتحيزين، ومعدومي الضمائر كمروجي المخدرات وغيرهم.

هذا من ناحية المضمون، أما من ناحية الشكل فقد بدأت الدمية بسيطة ساذجة. بداية تعتمد على حشوة من الخرق والهلاهيل وقش الأرز، ولكن يد الفنان الشعبى البورسعيدى ألبستها المستغنى عنه من الثياب، ثم استحضرت لها الثياب والأحذية والطواقى والإكسسوارات المخصوصة. الكفان كانا مبتورى الأصابع فنحتها لهما الفنان الشعبى وأدخلهما فى قفازين من قماش أو جلد. والوجه القماشى ما لبثت خِلقته أنْ تحسنت: الأنف الأفطس زُرع، والأذنان الغائبتان استحضرتا، والحاجبان رُسما، والعينان كـُحلتا، والشفتان حُددتا، والرأس الملساء غطيت بالشعر المستعار، إلى أن جاء العام 1977م. ودخل مشهد صناعة الألنبى الشاب "محسن خضير"، فأحدث طفرة فى أشكاله وتبدلاً فى آليات تنفيذه، واستحدث منصة العرض، واستخدم حصى الجوز وبودرة التلك والخشب والجبس والاسمنت. لوَّن وزركش ونوَّع وقدم دمية الألنبى حسب الرؤى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والرياضية والأخلاقية المتكاملة، رؤى تشكيلية مشهدية تسخر وتنتقد ، تؤنب وتصلح.

ولا تزال الدمية مع كل هذا تحمل اسمها الأصلى الألنبي أو (الألمبي)، وما يزال الطقس مستمراً حتى الآن، فما من شم للنسيم إلا طافت فى يومه دمى الألنبي بشوارع مدن القناة الثلاث بعدما سافرت منذ سنوات وسنوات من بورسعيد إلى الإسماعيلية فالسويس. وكانت قد انتقلت هى وطقس حرقها، أثناء الهجرة التى أجبر عليها أبناء المدينة ( 1969م. ـ 1974م. ) إلى عدد من مدن الدلتا والوادى، وعادت إلى المدينة مع عودتهم. و للطقس ذروة تتحقق بإلقاء الدمية إلى النار، وغالباً ما يختلط الغناء والرقص باشتباكات ومطاردات متبادلة بين رجال الشرطة بخوذاتهم و خيزراتهم والمتشبثين بنشوتهم المشتعلة ناراً وفرحاً مِن أفراد الجماعة الشعبية فيهتفون في مواجهة الدروع و الخيرزانات.

" أه يا حليلة ..
حانروح السجن الليلة ".

ومع شروق شمس النهار يمضى الجميع إلى الخلاء لاستنناف الاحتفال بالربيع على الطريقة المصرية المألوفة لتذرو الرياح رماده عند كل (أورنة) .

هذا الطقس الاحتفالى مهدد بالاندثار بعد دخول الغاز الطبيعى لمدينة بورسعيد فقد لجأت الإدارة إلى تنظيم الحرائق فى أماكن معينة لكن متى كانت الجماعة الشعبية تأبه لأى تنظيم يأتى من خارجها؟.. فها هى الدمية تقاوم فناءها، وها هى حرائقها تقوى مِن جديد.

صالة العرض


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى