الأربعاء ٧ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٢
بقلم رشا السرميطي

وصايا ما قبل السفر 2012

بريد لوالدي

جملة من العبارات الدَّافئة، التي قرَّرت حنين أن تقبِّل بها عينيّ أبيها، الذي سافر لأجل العمل، وسوف يغيب عن البيت أسبوعاً واحداً. تلك الطفلة النقيَّة، ركضت إلى حضنه لتعانقه بشِّدة، وتقبِّل كفَّيه الكبيرتين، ضمته إلى صدر أسطرها، موَّدعة روحه الطَّاهرة، التي لا تغيب عنها، وأخذت من جيبها رسالة ورقيَّة كتبت عليها: وصايا ما قبل السَّفر.

ودَّع والد حنين زوجته وابنته، أخذهما إلى صدره، وعلى جبين كليهما وضع قبلة مليئة بالحُّب. انطلق من المنزل مغادراً سعادته، والدَّعوات تملأ المكان من أفواههم. ذهب وفي يديه يحمل حقيبة العمل ورسالة حنين. نزل الدرج مسرعاً، وعندما خرج من باب العمارة وعيناه متجهتان نحو نافذة المنزل، الذي تقف خلفها أم حنين وطفلتهما الصَّغيرة، تلوِّحان بيديهما، ركب سيَّارته، وروحه طارت بأجنحة الأمل أن يعود إليهما. وضع الرِّسالة في جيبه، ثمَّ توَّجه إلى المطار، وما إن وصل، حتى كان موعد انطلاق الطَّائرة، فصعد مسرعاً، واستقر في المقعد الجانبي المطل على نافذة زجاجيَّة استطاع من خلالها رؤية الغيوم، وعندما بدأت الطائرة بالصُّعود، أخرج الرِّسالة من جيبه، وقلبه يخفق شوقاً لبيته وأسرته التي لا يطيق الابتعاد عنهما.

بدأ يقرأ .. وينظر للغيم الذي رسم لوحة لهما:

والدي الحبيب..أكتب إليك على ورق عمري الغضّ بعضاً من حروف الشَّوق لأعانق بها قمة الإحساس الشغوف قبيل سفرك.

أبي.. سأفتقدك كما المطر، وكلَّما اشتَّد عليك حرُّ الرِّحلة، أذكر وصايا قلمي ما قبل السَّفر.

أوصيك بالتوحيد، وذكر الله، وتذَّكر نعمه التي لا تحصى وقد أسبغها علينا بلا حساب، قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كلِّ شيء قدير، وصلِّ على الحبيب المصطفى، فقد صلى الله عليه وسلم، ولا تنس صلاتك، فهي مفتاح للخير، ويُسر لكل عُسر، وبِشرٌ بعد الكدر.

أبي.. في غيابك عنا، سوف نفتقدك أنا وأمي، يا إمامنا وربُّ أسرتنا.كن بارَّاً بجدتي، ولا يشغلَّنك عنها العمل، فكم عبد ببـرِّ أمِّه نال الجنة.

أيا أبي.. لا تقطع اتصالك بنا، واعلم أنَّ أقدارنا مكتوبة عند الها، فلنمض متوَّكلين عليه، ولنفوِّض شؤون حياتنا عند الملك، فهو سبحانه يحسن تدبير أمورنا، ويختار لنا ما فيه صالحنا بحكمتة الإلهية.

أبي.. إذا أتيت مضجعك، ولم تجدني لأدلِّلك، وألهو بخصلات شعرك، وأداعب وجنتيك الحمراوين، فتوضأ وضوءك للصَّلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، وقل: اللَّهم أسلمت وجهي إليك، وفوَّضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلاَّ إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيِّك الذي أرسلت، فإن نمت من ليلتك، فأنت على فطرة الإسلام، وستجدني ملاكاً يحرسك في المنام.

لتكن يا أبي خير وريث لجدي رحمة الله عليه، ولنلهج سوياً ونكثر الدُّعاء والرَّجاء لأجله ولأجل والد أمي حفظكما ربي. فإذا مات ابن آدم، انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له. وكم أحببنا هذا الرَّقم يا أبتي، وكم سنبقى على حبه مجتمعين.

أبي.. استفت قلبك، وربك للسائلين مجيب، جمعنا الله في الدنيا والآخره على سرر متجاورين، في لؤلؤتنا، التي لطالما سألنا الله أن يعطينا إيَّاها من الفردوس الأعلى، والصحابة والصديقين. أعطِ لنفسك متسعاً، فإن لنفسك عليك حقاً كما لأحبتك. كن بأمل وعمل وإيمان، مهما حاولت براثن اليأس أن تستفز ثباتك، فلاشيء أقوى من تلك الثلاثية، والله رؤوف بالعباد.

أبي.. عليك بالصِّيام والقيام، لأن أجرهما محمود، ولا تجعل في سفرك والعمل لهواً عن درب الخلود، وفِّيهما لنفسك في اليوم الموعود، ما لن يعيده زمان ولا مكان حتَّى الإنسان.

غيَّر نمط حياتك، ولا تمكث طويلاً في روتين قد يودي بهمَّتك نحو الضَّجر، وسقَم الفكر، وكآبة المحشر. فكِّر بنفسك وبالإسلام، ماذا صنعت بهذا العام غير ما اعتادت على صناعته نفسك؟ وماذا ترغب أن تصنع قبيل عامنا الجديد؟ أحسن يا حبيبي، أحسن متى استطعت، لعلَّ حسنة صغيرة تبلِّغك الجنَّة، والله يحبُّ المحسنين. تصدَّق يا صدوقاً عرفته بين البشر، فإنَّ المتصَّدق محبوب عند الله.

أبي.. دعنا نجبر خلل ما جرى في فرائضنا بنوافلنا، ولنخرج من أموالنا صدقات تكفِّر عنا ذنوبنا وترحمنا.

يا أبي.. لا تصغي لمن وراءنا في طريق الهداية، ولا تكترث بل ثابر على التَّقدم والثَّبات ولا تتأخَّر أو تتوانى عن ذلك، فالقلب متقلِّب، والإيمان كذلك، فيا ربِ يا مثبِّت القلوب ثبِّت قلوبنا على دينك.

أبي.. إقرأ رسالتي، ولتحسن ما تختار لتقرأه، لأن في القراءة بلسم يداوي أرواحنا. فلو كانت أمَّة إقرأ تقرأ، لما وهن الظُّلم، واستشَّر العداء في أوطاننا.

يا صبوراً تعلَّمت منه الصبر.. سوف أصبر على غيابك عنَّا، وما تُستحق مفاتيح النَّصر عند الله إلا بالَّصبر، فصبراً جميلاً للخاشعين الصَّابرين المتوكلين، لنصبر بلا انتظار ونعبد الملك لا ليعطينا، بل ليرضى عنَّا، فإن نحن صدقاً فعلنا ذلك، إلاّ أعطانا ورضيَ عنا وأكرمنا بأكثر مما نرضى.

أبي.. لنحسن الظَّن بالله معاً، ولنجدِّد ثقتنا به، لأنه خير من يختار لنا وأحسن المحسنين سبحانه. فيا ربِّ رضّنا بقضائك، وامنن علينا برضوانك.
كن يا أبي نبراساً للأمل ولجميع الخلق من حولك، فهل يرد التشاؤم للمستغلظ مغنماً؟!

أبي.. لا تحزن، لأن الله معنا. لا تحزن، فكل شيء يعوّض إلاّ الجَّنة. ستمضي بنا الأيام مسرعة وستتسابق أشواقنا وينقضي درب الحنين، لأجدني في حجرك سعيدة برجوعك وبهديَّتي. أريد منك دمية، حلوة وجميلة كأمِّي، التي تحكي لي كلَّ ليلة حكاية، عن ذاك الرَّجل الذي كتبت عنه في دفتر عمرها، وشاء الله أن تلتقي به، رجلاً حقيقيَّا، أكملت بين يديه أنثويَّتها.

أحبُّك يا والدي كثيراً..

ابنتك المخلصة: حنين
بريد لوالدي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى