الأربعاء ١٩ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٢
الرسالة في النثر العربـي
بقلم حسن بنيخلف

البناء والخصائص

1 ـ فن الرسالــة:

لقد تقاسم النثر الفني في العصور القديمة جنسان أدبيان هما: الخطب والرسائل، فإذا ما ذكر، انصرفت الأذهان إليهما دون غيرهما نظرا لما يتميزان به من حضور متميز، وما يتبوآنه من منزلة رفيعة بين أجناس الأدب وفنونه، هذا بالإضافة إلى ما اضطلعا به من أدوار ووظائف في الحياة الأدبية والاجتماعية والدينية والسياسية والإدارية.

وهكذا يندرج ضمن هذا النثر الفني ما يصطلح عليه بـ"أدب الرسائل" الذي يشكل جنسا أدبيا قائما بذاته، إذ تنضوي تحته هو الآخر أنواع من الرسائل المختلفة أسلوبا وموضوعا، والمتنوعة غرضا ومقصدا، والمتفاوتة جمالا وتأثيرا. هذا فضلا عما راكمه "أدب الرسائل"، عبر مراحل تطوره، من قواعد و معاييـر و خصائـص، و من ثـم أصبحت الرسالـة «صناعة ذات قواعد وأصول»(#).

وإذا كان الأمر كذلك، فإن التساؤل حول مفهوم "أدب الرسائل" يظل ملحا، كما أن البحث في هذا الأدب أو ما يسمى عموما بجنس الرسالة سيكون له ما يبرره علميا ومنهجيا.

ينظر، إذن، إلى "أدب الرسائل" باعتباره «ذلك اللون الأدبي الذي يشمل جميع موضوعات الرسائل النثرية الفنية المتبادلة بين الناس»(#). ورغم ما يكتنف بعض المصطلحات الواردة في هذا التعريف من غموض والتباس، فإنه يتضمن مجموعـة من الإشارات المهمة الدالـة على طبيعة هذا الجنس الأدبي ومنها:

ــ إن "أدب الرسائل" يشكل لونا أدبيا.

ــ إن هذا اللون الأدبي يضم أنواعا من الرسائل التي يشترط فيها أن تكون نثرية و فنية.

ــ إن التعريف يشير إلى جانب مهم من جوانب الرسالة، وهو الجانب التداولي لما له من أهمية في هذا الإطار.

من هنا يمكن النظر إلى "أدب الرسائل" بوصفه الفن النثري الذي اتخذ من الرسالة وسيلته في التعبير والتواصل، وتصبح الرسالة بالتالي « لونا من ألوان النثر الفني الجميل وضربا من ضروبه»(#).

2 ـ الرسالـــة الفنية: المفهوم والشروط

تتضمن الرسالة، لغة، معنى التوجيه، ففي"لسان العرب":« والإرسال: التوجيه، و قـد أرسل إليهم، و الاسـم الرِّسالـة و الرَّسالـة و الرسـول والرسيل»(# ).

ويؤكد الفيروزآبادي نفس المعنى فيقول:«والإرسال التسليط والإطلاق و الإهمال والتوجيه والاسم الرسالة بالكسر والفتح»(#).

و في كتاب "كشاف اصطلاحات الفنون" يقول التهانوي عن الرسالة:«الرسالة في الأصل الكلام الذي أرسل إلى الغير وخصت في اصطلاح العلماء بالكلام المشتمل على قواعد علمية والفرق بينها وبين الكتاب على ما هو المشهور إنما بحسب الكمال والنقصان فالكتاب هو الكامل في الفن والرسالة غير الكامل فيه»(#).

للرسالة، إذن، معنيان: أصلي واصطلاحي، الأول يستفاد منه أن الرسالة هي الكلام أو الخطاب الذي يوجه إلى الغير.أما من حيث المعنى الاصطلاحي، فالرسالة تصبح دالة على البحوث أو الدراسات العلمية التي تتناول قضايا محددة في اللغة، أو الأدب، أو الفقه، أو الفلسفة، أو غيرها من المجالات.

وممن أكدوا على المعنى الأصلي لـ"الرسالة"، ابن وهب الكاتب الذي يقول: «والاسم الرسالة، أو راسل يراسل مراسلة فهو مراسل... وأصل الاشتقاق في ذلك أنه كلام يراسل به من بعيد»(#).

إن هذا التعريف يعضد ما ذهب إليه التهانوي، غير أن ابن وهب يحدد دواعي التراسل وظروفها في أمرين هما: البعد و الغياب.

ومعنى هذا أن للرسالة في الأدب والفكر العربيين دلالات ثلاثا: دينية شرعية، وعلمية، وأدبية(#). غير أننا سنركز على دلالاتها الأدبية والتداولية، وفي هذا الإطار يقول صاحب "صبح الأعشى" عن الرسائل: «وهي جمع رسالة، والمراد فيها أمور يرتبها الكاتب: من حكاية حال من عدو أو صيد، أو مدح أو تقريض، أو مفاخرة بين شيئين... وسميت رسائل من حيث إن الأديب المنشئ لها ربما كتب بها إلى غيره مخبرا فيها بصورة الحال»(#).

إن الرسالة في هذا النص، تحتمل معاني كثيرة تتراوح بين الدلالة على "المبحث" أو "المقالة" العلمية أو الأدبية بالمفهوم القديم (ولقد أشرنا إلى ذلك سابقا)، والدلالة على الخطاب الذي يوجه إلى شخص بعينه. ورغم ذلك، فإن الكاتب حاول أن يجعل تعريفه شاملا لمعظم عناصر الرسالة وهي:

أ ــ المرسل، أي صاحب الرسالة الذي سماه القلقشندي بـ (الكاتب والأديب المنشئ).

ب ــ الرسالة، والتي تتناول غرضا أو موضوعا معينا (عدو، صيد، مدح...).

ج ــ المتلقي، إذ (ربما كتب بها إلى غيره).

د ــ هذا فضلا عن تحديد دوافع وأسباب الكتابة (مخبرا فيها بصورة الحال).

ومن المعلوم أن المعنى الشائع لمصطلح الرسالة يدل على الخطاب الذي يوجه إلى متلق في موضوع معين. لهذا ـ وعلى سبيل المثال ـ «كان الأدباء الأندلسيون يطلقون لفظ رسالة على ما ينشئه الكاتب في نسق فني جميل في غرض من الأغراض، ويوجهه إلى شخص آخر، ويشمل ذلك الجواب والخطاب»(#).

والحقيقة أن الأمر لا يقتصر على الأدباء الأندلسيين بل يتعداهم ليشمل غيرهم ممن درجوا على هذا الفن الأدبي رغبة في التواصل، علما بأن كل رسالة (خطاب) تستوجب ردا( أي جوابا على الخطاب).

والملاحظ أن كتابة الرسائل أصبحت صناعة أو فنا يتطلب من الكاتب المنشئ الدراية و المران حتى يبرع فيها، علما بأن مثل هذه الكتابة قد أصبحت ذلك «الجسر الذي يصل الشخص إلى أرفع المناصب»(#).

ومن أجل تحقيق ذلك، وضع مجموعة من الكتاب القدامى المتمرسين شروطا وقواعد يجب على كتاب الرسائل الالتزام بها، يقول ابن عبد ربه في عقده الفريد: «فإن حاولت صنعة رسالة فزن اللفظة قبل أن تخرجها بميزان التصريف إذا عرضت، وعاير الكلمة بمعيارها إذا سنحت»(#). فأول ما ينبغي أن يحرص عليه كاتب الرسالة، العناية بالألفاظ والكلمات التي يجب أن تكون مطابقة لموازينها ومعاييرها.

إن كاتب الرسالة مطالب، فضلا عما سبق، بإعادة النظر في رسائله، وتنقيحها وتصحيحها، يقول ابن وهب الكاتب: «فأما الرسائل فالإنسان في فسحـة من تمكينها ، وتكـرار النظـر فيها، وإصلاح خلل إن وقع في شيء منها»(#).

إضافة إلى هذا يلح بعض الكتاب على صنف آخر من الشروط، لكونهم يعتبرونها من أركان الرسالة، وهذا ما يمكن استخلاصه من الرسالة التي بعث بها القاضي أبو خليفة الفضل بن حباب الجمحي إلى الصولي، يقول فيها: «وصل كتابك ـ أعزك الله ـ مبهم الأوان، مظلم المكان، فأدى خيرا ما القرب فيه بأولى من البعد، فإذا كتبت ـ أكرمك الله تعالى! ـ فلتكن كتبك مرسومة بتاريخ، لأعرف أدنى آثارك، وأقرب أخبارك، إن شاء الله تعالى»(#).

إن القاضي أبا خليفة يثير انتباه الصولي إلى قضية لها أهميتها في كتابة الرسائل، وتتمثل في ضرورة تضمين الرسالة تاريخ كتابتها ومكانها حتى لا تكون كتابا "مبهم الأوان، مظلم المكان"، إذ من شأن ذلك أن يساعد المتلقي على ضبط ما ورد في الرسالة من أخبار وآثار.

لقد عرفت الرسالة تطورات كثيرة مست أصنافها وأشكالها ومكوناتها، ولعل أبرز تحول نوعي عرفه فن الرسالة هو كتابة الرسائل شعرا لا نثرا، كما كان متداولا ومتعارفا عليه. ولهذا «كان الأدباء الأندلسيون يطلقون لفظ رسالة أحيانا على القصائد والمقطوعات الشعرية التي ينظمها الشاعر على شكل خطاب موجه إلى صديق أو غيره في أي موضوع»(#).

إن هذه الإضافة النوعية فرضت مجموعة من التغييرات حتى يتسنى للكاتب/الشاعر إخضاع فن نثري للقواعد الشعرية، ومن ذلك التحرر من بعض التقاليد التي يلتزم بها في الرسائل النثرية. وهناك نماذج دالة على هذا النوع الأدبي الجديد حيث «روي أنه دامت الأمطار بسر من رأى، فتأخر الحسن بن وهب عن محمد بن عبد الملك الزيات، وهو يومئذ وزير، والحسن يكتب إليه، فاستبطأه محمد، فكتب إليه الحسن يقول:

أوجب العذر في تراخي اللقـاء
مــا توالى مـن هـذه الأنـواء
لست أدري ماذا أقول وأشكــو
من سماء تعوقني عن سماء
غير أني أدعو على تلك بالثـك
ــــل وأدعـــو هـذه بالبـقــاء
فسلام الإله أهـديه غضـــــــــا
لـك مني يا سيــــــد الـوزراء »(#).

والملاحظ أن التغييرات والتجديدات التي حاول بعض الأدباء إدخالها على فن الرسالة النثري لم تجد آذانا صاغية، إذ ظلت الرسالة فنا نثريا بامتياز!

وفضلا عن ذلك، عرفت الرسالة تغييرات أخرى حيث اقتحم الكتاب مجالات جديدة، وانفتحوا على موضوعات وأغراض ظلت، لزمن طويل، حكرا على الشعر. وهكذا « أخذت [أي الرسائل الديوانية] تتناول بعض الأغراض التي كان يتناولها الشعر من تهنئات و تعزيات وشكر... »(#).

وكيفما كان الحال، فإن الرسالة تفرعت إلى أنواع ثلاثة كبرى هي:

ــ الرسالة الديوانية.

ــ الرسالة الإخوانية.

ــ الرسالة الأدبية.

وهكذا، فإذا كانت الرسائل الديوانية ــ التي يسميها بعضهم بالرسائل السياسية أو السلطانية أو الرسمية(#)ــ تعالج شؤون الإدارة(#)، فإن الرسائل الإخوانية تصور عواطف الناس ومشاعرهم في الخوف والرجاء والرهبة والمديح والهجاء والتهاني والعتاب والاعتذار والاستعطاف والتعزية.(#) أما الرسائل الأدبية فهي التي كانت «تعنى بالكتابة في موضوع محدد، مما نسميه اليوم باسم المقالات»(#).

3 ـ الرسالة: بناؤها وخصائصها الفنية

إن الرسالة بأنواعها وأصنافها المختلفة تستمد أهميتها وقيمتها من أمرين اثنين هما: الخصائص والوظائف. وإذا كان الجانب الكمي (ومن ذلك كثرة الأنواع وتعددها)، يشهد على مدى حضور وانتشار هذا الجنس الأدبي، فإن الجوانب النوعية تعد دليلا على مدى تطوره وارتقائه. لهذا يصبح من الواجب إيلاء الجوانب الفنية في الرسالة عناية خاصة.

وتحقيقا لذلك نشير إلى أن « الكتابة الفنية بدأت مع الرسائل، ثم خطت أهم خطواتها مع الكتابة الديوانية، ومع وجود الكاتب المثقف المتخصص»(#). ومعنى هذا أن الكتابة النثرية لم تصبح كتابة فنية إلا بعد إنشاء الدواوين، وإسناد مهمة الكتابة فيها إلى الكتاب المتخصصين الذين تفرغوا لكتابة الرسائل فبرعوا فيها وأجادوا.

كما أن بعض القدامى عالجوا كثيرا من الظواهر الفنية في الرسالة، وقدموا قراءات لا يمكن إنكار أهميتها، وخاصة ما تعلق منها بمحاولات تجنيس الرسالة والكشف عن بنائها وخصائصها، وفي هذا الإطار يقول صاحب "الصناعتين": «واعلم أن الرسائل والخطب متشاكلتان في أنها كلام لا يلحقه وزن ولا تقفية وقد يتشاكلان أيضا من جهة الألفاظ والفواصل، فألفاظ الخطباء تشبه ألفاظ الكتاب في السهولة والعذوبة، وكذلك فواصل الخطب، مثل فواصل الرسائل ولا فرق بينهما إلا أن الخطبة يشافه بها والرسالة يكتب بها»(#).

لهذا النص قيمة كبرى وأهمية خاصة لكونه:

أ ــ يعكس وعي صاحب "الصناعتين" بمسألة الأجناس الأدبية واستحضاره لها في حديثه عن الرسائل والخطب.

ب ــ يترجم رغبته في تجنيس الرسائل و الخطب اعتمادا على آليات محددة هي: المشابهة (متشاكلتان ـ يتشاكلان)، والممايزة (ولا فرق).

ج ــ يعرف الرسائل والخطب باعتماد آلية المقارنة المضمرة لكونه يستحضر، في هذا التعريف، جنس الشعر باعتباره الأصل أو المعيار الذي يُحتكم إليه في كل عملية تجنيسية (كلام لا يلحقه وزن ولا تقفية).

د ــ تصبح الرسائل والخطب هما الكلام غير الموزون وغير المقفى، إنهما جنسان أدبيان متقاربان، لكنهما متمايزان عن جنس الشعر.

هـ ــ ومعنى ذلك أن صاحب "الصناعتين" يجمع بين المتشابه من الأجناس (الخطب والرسائل) ليميزها عن الأجناس المباينة لهما (الشعر).

وــ غير أن رغبته في مزيد من التدقيق و التعميق دفعت به إلى محاولة التمييز بين الأجناس، إذ عمد ــ بعد التأليف بين الرسائل والخطب لكونهما يتشابهان لفظا وأسلوبا وبناء ــ إلى التفريق بينهما لأنهما يختلفان من حيث طريقة الأداء: فالخطب جنس شفاهي، أما الرسائل فهي جنس كتابي.

3 ــ 1 ــ بناء الرسالة:

إن عناية صاحب"الصناعتين" وشغفه بالأجناس الأدبية السائدة في عصره، دفع به بعــد عملية التجنيس باعتبارها وصفا لما هو كائن، إلى الشروع في عملية التنظير للأجناس الأدبية بوصفها تقريرا لما ينبغي أن تكون عليه تلك الأجناس، وفي هذا الإطار يقول أبو هلال العسكري: «و اعلم أن الذي يلزمك في تأليف الرسائل و الخطب هو أن تجعلها مزدوجة فقط و لا يلزمك فيها السجع فإن جعلتها مسجوعة كان أحسن ما لم يكن في سجعك استكراه وتنافر وتعقيد»(#).

إن أبا هلال العسكري يتحدث بلسان "المعلم" القادر على التلقين والإرشاد في مجال الكتابة، موجها الخطاب إلى متعلم (متلق) ذي مواصفات محددة، لهذا خاطبه ب"اعلم" و"يلزمك"، تنبيها له وإعلاما بما يجب أن يحيط به من شروط و معايير يستلزمها تأليف الرسائل والخطب، واللتان يشترط فيهما أن يبنى أسلوبهما (فواصلهما) على الازدواج. أما السجع فمستحسن ما لم "يستكره"، أو يكتنفه "تنافر وتعقيد".

إن كلام أبي هلال لم يخرج عن إطار الإلزام والاستحسان، وبهذا ينخرط صاحب "الصناعتين" في الدفاع عن القيم الفنية والمعايير الجمالية السائدة في عصره، وهو الأمر الذي عكس جانبا من تصوره لـ"الكتابة" حيث كشف عن بعض المكونات التي تسهم في بناء جنسي "الرسائل" و"الخطب".

إن السجع (ومنه الازدواج) يصبح من العلامات اللفظية المميزة للرسائل والخطب. و بناء على ذلك يمكن النظر إلى الرسالة باعتبارها كتابة نثرية مسجوعة كانت أو مزدوجة.

إن دراسة القدامى لجنس الرسالة وتنظيرهم لها سارا في اتجاهين مختلفين لكنهما متكاملان، ويتمثل الأول منهما في عنايتهم ب"المرسل إليه".أما الثاني فيكشف عن مدى احتفائهم بالرسالة ذاتها.

أ ــ المرسل إليه: للمرسل إليه حضور بارز في كتابات القدامى وخطاباتهم باعتباره من العناصر الرئيسة المسهمة في عملية التواصل. ومن مظاهر احتفائهم بالمتلقي تأكيدهم على ضرورة مراعاة قدراته العقلية ومستوياته المعرفية والاجتماعية، يقول صاحب "الصناعتين": « فأول ما ينبغي أن تستعمله في كتابتك.. مكاتبة كل فريق منهم على مقدار طبقتهم وقوتهم في المنطق »(#). و كل ذلك لاقتناع أبي هلال بأن المخاطبين فئات و مستويات يجدر بالخطاب أن يراعي طبقتهم ومنطقهم.

وفي هذا الإطار يقول إبراهيم بن المدبر في رسالته العذراء المشهورة: «ولكل طبقة من هذه الطبقات معان ومذاهب يجب عليك أن تراعيها في مراسلتك إياهم في كتبك، فتزن كلامك في مخاطبتهم بميزانه، وتعطيه قسمه، وتوفيه نصيبه...»(#). ويزيد الأمر توضيحا فيقول: « ولا تخاطبن خاصا بكلام عام، ولا عاما بكلام خاص، فمتى خاطبت أحدا بغير ما يشاكله، فقد أجريت الكلام غير مجراه...»(#). ويقول صاحب "الإحكام"، كذلك، عن كاتب الرسالة: « ويتوخى من ذلك ما يناسب الحال، و يشاكل المعنى ويوافق المخاطب »(#). ومن ذلك أن "الدعاء" في الرسالة أو الخطبة يقتضي ـ على سبيل المثال ـ الاحتفاء بأربعة عناصر هي: اللفظ والمعنى وهما خاصان بـ"النص"، وكذا العناية بالحال والمخاطب، وهما متعلقان بـ"المتلقي"، مع العلم بأن الكتابة الجيدة تشترط التناسب و المشاكلة بين تلك العناصر.

من هنا نستنتج بأن القدامى، من مؤرخي الأدب العربي ودارسيه، مثلما عنوا بالنص (الرسالة)، احتفوا كذلك بالمتلقي، ولهذا جعلوا موافقة النص للمتلقي شرطا من شروط الكتابة.

ب ــ النص/ الرسالة: أما من حيث احتفاؤهم بالنص، فتنبغي الإشارة إلى أن الدارسين اعتنوا بمجموعة من العناصر المكونة لمعمار الرسالة، ومنها: الصدر(أو الاستفتاح)، والغرض ، والخاتمة.

إن هذه العناصر وغيرها هي التي تسهم في بناء الرسالة الفنية التي تعتبر« قطعة نثرية واحدة تتجزأ في ثلاثة أقسام وعناصر مختلفة هي: البداية أو الصدر والمتن ثم النهاية أو الختام... وهناك اتصال وثيق بين هذه العناصر التي تكون الشكل الفني المميز للرسالة بين أشكال النثر الفني الأخرى »(#).

ومعنى هذا أن الرسالة الفنية أصبح لها شكل فني تواضع الكتاب عليه، ويتمثل في الصدر والغرض والخاتمة، وكلها مكونات شكلية ثابتة تنبني عليها كل رسالة فنية، ولقد نظر القدامى في هذه المكونات، واستخلصوا ما ينبغي أن تستوفيه من شروط ومواصفات. ولعل من أبرزها الشروط النفسية، وفي هذا الإطار يقول إبراهيم بن المدبر: «و ارتصد لكتابك فراغ قلبك، وساعة نشاطك، فتجد ما يمتنع عليك بالكد و التكلف، لأن سماحة النفس بمكنونها، وجود الأذهان بمخزونها…»(#).

3 ــ 1 ــ 1 ــ الصدر أو الابتداء:

لصدر الرسالة أهمية خاصة لكونه يعتبر مفتتح الخطاب، لهذا يشترط فيه ما لا يشترط في غيره، لأنه «إذا كان الابتداء حسنا بديعا ومليحا رشيقا، كان داعية إلى الاستماع لما يجيء بعده من الكلام»(#).

إن للابتداء، إذن، وظيفة تحفيزية تتمثل في حمل المتلقي عـلـى الاستماع والانتباه، ولهذا يشترط في صدر الخطاب الحسن والرشاقة لما لهما من آثار نفسية إيجابية.

ويؤكد صاحب "المثل السائر" على أهمية "المطلع" في الكتابة فيقول: « (الأول) أن يكون مطلع الكتاب عليه حدة ورشاقة فإن الكاتب من أجاد المطلع أو يكون مبنيا على مقصد الكتاب ولهذا باب يسمى باب المبادي والافتتاحات »(#).

ويؤرخ إبراهيم بن المدبر لصدور الرسائل فيقول: « وأما صدور السلف فإنما كانت من فلان بن فلان إلى فلان، كذلك جرت كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم... وكتب أصحابه والتابعين كذلك، حتى استخلص الكتاب هذه المحدثات من بدائع الصدور، واستنبطوا لطيف الكلام، ورتبوا لكل رتبة، وجروا على تلك السنة الماضية إلى عصرنا هذا...»(#).

والابتداء أنواع إذ يمكن أن يكون بـ"البسملة" كما كتب الجاحظ إلى بعض إخوانه ذامّا الزمان: « بسم الله الرحمن الرحيم حفظك الله حفظ من وفقه للقناعة، واستعمله بالطاعة، كتبت إليك وحالي حال من كثفت غمومه، وأشكلت عليه أموره، واشتبه عليه حال دهره...»(#). كما يمكن أن يكون الابتداء ب"التحميد": «و لهذا جعل أكثر الابتداءات بالحمد لله، لأن النفوس تتشوف للثناء على الله فهو داعية إلى الاستماع»(#). وقد يكون الابتداء بـ"التحميد" مناسبا لنوع الرسالة، يقول ضياء الدين ابن الأثير: « (ومن الحذاقة في هذا الباب) أن تجعل التحميدات في أوائل الكتب السلطانية مناسبة لمعاني تلك الكتب»(#).

بيد أن صدر الرسالة قد يتضمن مكونات أخرى إلى جانب "التحميد"، ومن ذلك "السلام". يقول أبو هلال العسكري:« وتكتب في أول الكتاب "سلام عليك" وفي آخره "والسلام عليك"»(#). ومن ذلك قول عمر بن العزيز مخاطبا أهل الشام: « سلام عليكم ورحمة الله، أما بعد: فإنه من أكثر ذكر الموت قل كلامه، ومن علم أن الموت حق رضي اليسير، والسلام»(#).

وفضلا عن ذلك، درج بعض الكتاب على استعمال ألفاظ وعبارات في صدور رسائلهم، يكون الغرض منها ربط الصدر بالمقاطع الأخرى من الرسالة، ومن ذلك عبارة (أما بعد). يقول صاحب "الإحكام": « و نظرت ـ أعزك الله ـ في صدور الرسائل واستفتاحها فوجدتها أيضا تختلف. فكانوا في الزمان الأول يكتبون في صدور رسائلهم: أما بعد »(#). ومن ذلك كتاب أبي العتاهية إلى الفضل بن معن بن زائدة حيث يقول: « أما بعد: فإني توسلت إليك في طلب نائلك بأسباب الأمل، وذرائع الحمد، فرارا من الفقر، ورجاء للغنى، فازددتُ بهما بعدا مما فيه تقرَّبْتُ وقربا مما فيه تبعَّدْتُ، وقد قسمتُ اللائمة بيني وبينك، لأني أخطأتُ في سؤالك، وأخطأتَ في منعي...»(#).

إن استقراء أبي القاسم الإشبيلي لصدور الرسائل انتهى به إلى الوقوف على حقيقتها، فالرسائل لا تتفق في صدورها، بل إن الاختلاف قائم بينها، وهو اختلاف فرضه منطق الزمان ومقتضياته، كما أشار إلى ذلك صاحب "الإحكام"وغيره. ومن أوجه ذلك الاختلاف عدم الالتزام في صدور الرسائل ببعض العناصر كقولهم (أما بعد). وهذه حقيقة يؤكدها أبو هلال إذ يقول: «وكان الناس فيما مضى يستعملون في أول فصول الرسائل أما بعد وقد تركها اليوم جماعة من الكتاب فلا يكادون يستعملونها في شيء من كتبهم»(#).

ولعل أهم ما يمكن استنتاجه من النصين السابقين اتفاقهما على أن:

ــ عبارة (أما بعد) تستعمل في صدر الرسالة لا في غيره من المقاطع.

ــ وأن الكتاب استعملوها في أزمنة سابقة (الزمان الأول ـ فيما مضى).

ومعنى ذلك أن شكل الرسالة عرف بفعل عامل الزمان تغييرات وتعديلات أوجبت التخلي عن بعض العناصر الشكلية، وابتداع عناصر أخرى.

وبهذا يصبح الصدر مقطعا من الرسالة يتألف من عناصر ثابتة وأخرى متغيرة. وهذه الاختلافات حول مكونات صدور الرسائل يعكسها كذلك اختلاف الدارسين حول تسمية هذا الجزء من الرسالة: فهو صدر و ابتداء و استفتاح، كما تثبت ذلك النصوص التي استشهدنا بها سابقا.

وخلاصة القول إن الكتاب كانوا يستفتحون رسائلهم:

ــ بتحديد اسم المرسل والمرسل إليه.

ــ بـ"التحميد".

ــ و «كانوا أيضا يستفتحون رسائلهم بقولهم: سلام عليك»(#).

ــ وبالبسملة و بالتصلية، حيث «تنسب إلى الرشيد أنه أول من أمر أن تبتدئ مكاتباته بعد البسملة بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم»(#). ومن الرسائل المتضمنة لأغلب تلك العناصر ما رواه الطبري من أن أبا جعفر كتب إليه: «بسم الله الرحمان الرحيم، من عبد الله: عبد الله المنصور أمير المؤمنين إلى عيسى ابن موسى، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد... فاقبل نصح أمير المؤمنين لك، تصلح وترشد، والسلام عليك ورحمة الله»(#).

ــ و في حالات أخرى كانوا «يستفتحون رسائلهم بالمنظوم»(#)، يقول ابن عربي في مفتتح إحدى رسائله:

«سلام عليك أبا يوسـف
سلام النبي على ذاتــــــه
فقال السلام علينا وقـــــــد
توسط بحر مناجاتـــــــه
فما من فراق يكون السلام
ولا من ورود من آياتــه
ولكنها نكتة سافــــــــــرت
من أعلى إلى علو إثباتـه

ورحمة الله وبركاته.أما بعد، فكتبه من لا يراكم غيره ثانيا، ولا يزال على جلالكم ثانيا...»(#).

3 ــ 1 ــ 2 ــ التخلـــــص:

تنبغي الإشارة إلى أن بين الصدر والغرض روابط تنبغي الإشارة إليها، لأن الكاتب لا ينتقل مباشرة إلى غرضه، بل يمهد له بعبارات تنبه المتلقي إلى ما سيأتي. وهو ما يعرف بـ"التخلص". و« هو أن ينتقل مما ابتدئ به الكلام إلى المقصود على وجه سهل يختلسه اختلاسا دقيق المعنى بحيث لا يشعر السامع بالانتقال من المعنى الأول إلا وقد وقع الثاني بشدة الالتيام بينهما »(#). ويشترط في هذا الانتقال التناسب بين مفتتح الكلام والغرض، يقول التهانوي: «وعلى الانتقال مما افتتح به الكلام إلى المقصود مع رعاية المناسبة»(#).

ومن التخلص استعمال الإشارة إلى غرض الرسالة: «قال أبو الفتح بن جني: وإذا كان المرسل حاذقا أشار في تحميده إلى ما جاء بالرسالة من أجله»(#). أي أشار إلى غرضه من كتابه إعدادا للمرسل إليه أو تنبيها.

ويزيد إبراهيم بن المدبر هذا الأمر توضيحا فيقول: «وليكن في صدر كتابك دليل واضح على مرادك، وافتتاح كلامك برهان شاهد على مقصدك… فإن ذلك أجزل لمعناك، وأحسن لاتساق كلامك، ولا تطيلن صدر كلامك إطالة تخرجه عن حده، ولا تقصر به عن حقه…»(#).

إن مثل هذه الإشارات وغيرها من العبارات هي التي تسمح بالتخلص من الصدر إلى الغرض، علما بأن هذا التخلص يتم وفق تقنيات خاصة تعارف عليها الكتاب القدامى و استقرأها غيرهم، يقول أبو القاسم في "إحكامه": «ورأيت ــ أعزك الله ــ الرسائل على قسمين: أحدهما ابتداء الخطاب، والثاني رد الجواب. فمما توصلوا به من الألفاظ في ابتداء الخطاب إلى غرض الكتاب، قولهم: كتبت، وكتابي، وكتابنا»(#). أما في رد الجواب فإن «مما توصلوا به من الألفاظ في رد الجواب إلى غرض الكتاب قولهم: ألقي، وورد، ووصل»(#). يقول ابن المدبر: «وصل كتابك المفتتح بالعتاب الجميل، والتقريع الجميل، فلولا ما غلب علي من السرور بسلامتك، لتقطَّعْتُ غما بعتابك... فلا أعدمني الله رضاك مجازيا به على ما استحقّه عتْبُك، فأنت ظالم فيه، وعتابك وليُّ المخرج منه»(#).

إن الرسالة، إذن، صنفان: ابتداء الخطاب، وهي الرسالة الأصلية أو الابتدائية، والثانية هي الرسالة الجوابية، وسماها أبو القاسم بـ"رد الجواب". ولكل صنف خصائص هي بمثابة العلامات الفارقة التي تميز الصنف الأول من الثاني من حيث الأدوات المعتمدة في التخلص من الصدر إلى الغرض.

يتخلص الكاتب، إذن، في ابتداء الخطاب إلى غرض الرسالة بألفاظ مثل: كتبت، وكتابي وغيرهما، أما في رد الجواب فيستعملون ألفاظا من قبيل: ورد، ووصل وغيرهما. كما قد يستعملون العبارة المشهورة (أما بعد)، يقول عمر بن الخطاب في رسالته إلى أبي عبيدة: «بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى أبي عبيدة بن الجراح، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإن أبا بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توفي، فإنا لله وإنا إليه راجعون...»(#).وهكذا يمكن التمييز بين أصناف الرسائل من حيث:

ــ نوع الرسالة ( ابتداء الخطاب ــ رد الجواب).

ــ ومن حيث البنـــاء (أي من حيث كيفية التخلص إلى غرض الرسالة وأدواته وتقنياته).
إن التخلص، تبعا لذلك، هو انتقال الكاتب من مقدمة الرسالة إلى غرضها بواسطة أدوات لغوية تنبئ بهذا الانتقال وتمهد له، كما تدل على نوع الرسالة. وبهذا أصبح «للرسالة الفنية بناء خاص، وشكل فني معروف، وسمات معينة هي بمثابة الأركان الأساسية التي تبنى عليها الرسالة»(#).

3 ــ 1 ــ 3 ــ الغـرض:

أما المقطع الثالث في الرسالة فهو الغرض، ويسميه البعض بـ"المتن"، ويعد المقطع الأساس في أية رسالة. لذا يحرص الكتاب على التمهيد له، وحسن عرضه وتقديمه، وجمال التعبير عنه، ليلقى الاستجابة والإقبال من طرف المرسل إليه، وليحقق المقصد منه.

غير أن أغراض الرسالة تختلف من نوع إلى آخر، ففي الرسالة الإخوانية يكون الغرض هو (المدح أو العتاب أو الاعتذار أو التهنئة أو الشكوى أو الرثاء أو التعزية...)(#). ويضيف ابن وهب الكاتب أغراضا أخرى فيقول: « والترسل في أنواع من هذا، وفي الاحتجاج على من زاغ من أهل الأطراف، وذكر الفتوح، وفي الاعتذارات والمعاتبات، وغير ذلك مما يجري في الرسائل والمكاتبات»(#). يقول أحمد بن يوسف في رسالة تندرج ضمن غرض التهنئة: «أما بعد، فإنه ليس من أمر يجعل الله لك فيه سرورا إلا كنت به بَهِجاً... وقد بلغني أن الله وهب لك غلاما سَرِيا،أجملَ لك صورته، وأتمَّ خلقه، وأحسن البلاءَ فيه عندك، فاشتد سروري بذلك، وأكثرتُ حمدَ الله عليه، فبارك الله فيه، وجعله بارا تقيا، يشد عضدَك، ويكثرُ عددك، ويقرُّ عينك»(#).

يهنئ أحمد بن يوسف أحد إخوانه بمولوده الجديد، إذ بعد استفتاحه لرسالته بعبارة (أما بعد)، تخلص إلى غرضها الإخواني بقوله:( وقد بلغني)، مصورا جمال المولود، ومعبراعن سروره، وداعيا للمولود ولوالده.

ولقد كانت لبعض القدامى وقفات نقدية قيموا من خلالها أنواعا من الرسائل، يقول ابن الأثير عن "رسائل الصابي": «ولقد اعتبرت مكاتباته فوجدته قد أجاد في السلطانيات كل الإجادة وأحسن كل الإحسان... لكنه في الإخوانيات مقصر وكذلك في كتب التعازي»(#).

إن هذا "النص النقدي":

أ ــ يعكس نوع النشاط النقدي الذي كان سائدا في تلك العصور.

ب ــ كما يدل على وعي القدامى ومراعاتهم لأنواع الرسائل وأصنافها.

ج ــ أما النشاط النقدي، فكان يتمحور حول الكاتب مع استحضار النصوص وأنواعها (فوجدته قد أجاد في السلطانيات...).

د ــ ويتبين من خلال النص النقدي كذلك أن التقييم النقدي يمر بمرحلتين هما: التأمل والاعتبار (ولقد اعتبرت مكاتباته)، ثم الحكم بـ"الإجادة" أو "التقصير" (فوجدته قد أجاد ـ لكنه في الإخوانيات مقصر).

إن الغرض يكسب الرسالة سمات خاصة، (شكلية وأسلوبية ودلالية ووظيفية) تتعلق بحجم الرسالة من حيث الطول أو القصر، وبنوعية الجمل و الاستشهادات، وبوسائل الإبلاغ من حيث التلقين أو الإقناع، هذا فضلا عما يترتب على اعتمـاد المحسنـات وغيـرها كالسجـع من خصائص وأبعاد، يقـول عبـد الفتـاح كليطو: « صار السجع الذي عرف ازدهارا متألقا في القرن الرابع، ينافس جديا الشعر. حين نقرأ رسائل الهمذاني مثلا، نلحظ أن الأغراض الشعرية التقليدية قد تحولت إلى نثر. انصهر المديح في قالب القصيدة كما في قالب الرسالة والمقامة»(#).

3 ــ 1 ــ 4 ــ الخاتمــة:

أما المقطع أو الوحدة الرابعة من وحدات الرسالة فهي الخاتمة، ويسميها بعض القدامى بـ"المقطع"، ويقابله "الابتداء". يقول صاحب الصناعتين: «والابتداء أول ما يقع في السمع من كلامك. والمقطع آخر ما يبقى في النفس من قولك، فينبغي أن يكونا مونقين»(#). فالاعتناء، إذن، بـ"الخاتمة" من حيث تجويدها وتحسينها أمر مطلوب لما له من أثر في النفس.

إن الخاتمة تتخذ أشكالا متعددة، كما قد تتألف من عناصر متنوعة، ومنها الدعاء حيث يخصص صاحب الرسالة خاتمتها للدعاء للمرسل إليه، لكن «ينبغي أن يكون الدعاء على حسب ما توجبه الحال بينك وبين من تكتب إليه وعلى القدر المكتوب فيه»(#). ومعنى هذا أن الدعاء للمرسل إليه يستلزم مراعاة الأحوال وطبيعة العلاقات الكائنة بين المتراسلين وغرض الرسالة. ويزيد صاحب "الإحكام" أمر الدعاء توضيحا فيقول: «ومما يجب على الكاتب: أن يتحرى في الدعاء الألفاظ الرائقة، والمعاني اللائقة، و يتوخى من ذلك ما يناسب الحال و يشاكل المعنى ويوافق المخاطب»(#).

وفضلا عن الدعاء، تتألف الخاتمة من عناصر أخرى هي: التحميد، والتصلية، والسلام، والشعر، وهي بمثابة العناصر الرئيسة في كل رسالة. وهذا ما يتأكد من خلال نماذج أخرى من الرسائل على الرغم من قصرها كالرسالة التي كتبها الجاحظ إلى رجل وعده: «أما بعد، فإن شجرة وعدك قد أورقت، فليكن ثمرها سالما من جوائح المطل، والسلام»(#). ويختم عبد الحميد رسالته إلى الكتاب داعيا ومسلما: «... تولانا الله وإياكم يا معشر الطلبة والكتبة، بما يتولى به من سبق علمُه بإسعاده وإرشاده، فإن ذلك إليه وبيده، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته»(#).

3 ــ 2 ــ خصائص الرسالة:

تكتسب الرسالة خصائصها من فنها الأدبي الذي هو النثر، غير أنها تنفرد بخصائص أخرى تفرضها طبيعتها، أي باعتبارها جنسا أدبيا يستند إلى مكونات وسمات تميزه عن غيره من الأجناس النثرية الأخرى.

بيد أن حديثنا عن خصائص الرسالة يتعلق بنوع خاص من الرسائل هو الرسائل الفنية. أما باقي الرسائل، وخاصة تلك الرسائل التي يكون الغرض منها هو مجرد التواصل أو الإخبار، فتتضاءل فيها الخصائص الفنية أو تنعدم لأنها من قبيل الكلام الذي لا يقصد منه التأثير أو الإقناع أو الإمتاع. ولهذا «تتميز الرسالة الفنية من بين ألوان النثر الفني الأخرى بالمرونة الفنية والأسلوبية... ذلك أن تلك المرونة تسوغ للرسالة الفنية قبول خصائص الشعر من خيال وتصوير وتعبير عاطفي، وعناية بالزخارف المعنوية واللفظية»(#). لكن ليس من الضروري أن تستمد الرسالة خصائصها من الشعر، فتصبح شعرا منثورا، وذلك لكونها قادرة على خلق "شعريتها" الخاصة والمنسجمة مع جنسها الأدبي، إذ منه تستمد الرسالة خصائصها لتشيد "شعريتها" وتسمو بها. ولهذا تدعو الضرورة إلى دراسة معمقة لجنس الرسالة ولأنواعه و في مختلف العصور، وذلك لرصد ما عرفه من تحولات، ولتحديد الخصائص التي اكتسبها في كل مرحلة من مراحل تطوره، والتي قد تكون لفظية أو أسلوبية أو دلالية أو حجاجية، و تسهم كلها في تزيين الرسالة، وتعزيز دلالاتها وتعميقها، والرفع من قدراتها الإقناعية وقوتها التأثيرية، ولهذا قال إبراهيم المدبر: «وكلما احلولى الكلام وعذب ورق وسهلت مخارجه، كان أسهل ولوجا في الأسماع، و أشد اتصالا بالقلوب، و أخف على الأهواء»(#).

ولا شك في أن السجع من العلامات البارزة في الأجناس النثرية القديمة كما تشهد على ذلك المقامات والخطب والرسائل. و«السجع بالفتح وسكون الجيم عند أهل البديع من المحسنات اللفظية... وبهذا الاعتبار قال السكاكي السجع في النثر كالقافية في الشعر فعلى هذا السجع مختص بالنثر... وبهذا الاعتبار قيل السجع تواطؤ الفاصلتين من النثر على حرف واحد في الآخر والتواطؤ التواف »(#).

غير أن شيوعه في النثر، وخاصة في الرسائل، جعل من السجع ظاهرة أقرب إلى التقليد الأدبي منه إلى الخاصية الفنية التي تسهم في التمييز بين الأجناس النثرية بأنواعها المختلفة. وفي هذا الإطار نؤكد أن الالتزام بـ"السجع" من طرف بعض الكتاب الكبار لم تمله عليهم مبررات فنية، يقول عبد الفتاح كليطو: «ورغم عدم تقديره للسجع والمحسنات البديعية، فما كان بإمكان ابن خلدون (تحت ضغط السياق الثقافي والنوع) إلا استخدامها في رسائله»(#).

أما قيمته الفنية، فلا تبرز إلا إذا كان الكاتب ملما بالسجع وأنواعه، وواعيا بحدوده، ومصيبا في توظيفه إذ هناك أنواع من السجع، وإلى هذا يشير صاحب "الإحكام" فيقول: «وتأملت أيضا ـ أكرمك الله ـ الأسجاع فوجدتها على ضروب وأنواع»(#). وهذه حقيقة كثيرا ما يتجاهلها الدارسون لكون أغلبهم ينظر إلى السجع باعتباره نوعا واحدا يجتره الكتاب في رسائلهم ومقاماتهم، فانحطت بذلك قيمته الفنية، واضمحل تأثيره.

إن الوعي بتنوع السجع يسمح بالاختيار بين الأصناف، والتأليف بين الضروب، إغناء للنص ورفعا من قيمته، وهو الأمر الذي يمكن الكاتب من إبراز قدراته ومهاراته. ولهذا «سيكون حينئذ للسجع، وكذا للصور البلاغية الأخرى، وظيفة إضفاء القيمة والشرف على الخطاب»(#).

وحفاظا من بعض المؤرخين والدارسين على الطابع الفني لـ"السجع"، فإنهم اشترطوا فيه شروطا، ولهذا « قالوا أحسن السجع ما تساوت قرائنه »(#). ويؤكـد صاحب "المثـل السائـر" على هـذا المعـنى فيقـول : « (واعلم) أن الأصل في السجع إنما هو الاعتدال في مقاطع الكلام »(#). و لا شك في أن الإعجاب بالكلام المسجوع والانبهار به نابعان مما يختزنه السجع من خفايا وأسرار هي مكمن "جماليته". يقول ابن الأثير: «(واعلم) أن للسجع سرا هو خلاصته المطلوبة فإن عرى الكلام المسجوع منه فلا يعتد به أصلا »(#).

فضلا عن ذلك تتميز أنواع من الرسائل بنزعتها وحمولتها الرمزية التي تسهم في إغناء دلالاتها، وتحقيق مقاصدها، وهكذا نجد، على سبيل المثال، أن «من أبرز خصائص الرسالة المرابطية أيضا نزوعها الرمزي، فاستخدمت الإشارات التاريخية ووظفت معاني التراث في صور رمزية دالة»(#). علما بأن هذا النزوع الرمزي سيبرز أكثر مع المتصوفة في رسائلهم الصوفية إذ وظفوا لغتهم الإشارية، إضافة إلى أنواع من الرموز التي توافقوا عليها وتداولوها فيما بينهم.

وأخيرا يمكن القول إن البحث في النثر العربي القديم تحليق في فضاء يتمدد كلما توغلت في مجاهله، تظن أحيانا أنك قد ضبطت مفهومه، فإذا به يتمطط بين يديك فتتوالد مصطلحاته ليتخذ أشكالا و وجوها، ويستحيل، بالتالي، إلى كلام و كتابة، أو إلى منثور و ترسل.

وقد تبحث في هويته "الأجناسية" فيفاجئك وقد انفتح على نده، يستعير منه أغراضا ضاقت بأوزان الشعر وقيوده، وكأنها تستصرخه طالبة الفكاك!

وأخيرا تلجأ إلى فحصه لتستبين ملامحه وقسماته من خصائص وسمات، فتستشكل عليك لكونك لم تراع أجناسه وأنواعه، والسبب في ذلك أنه من الغنى والتنوع، والعراقة والامتداد، مما لا يسمح بالإلمام الشامل، والاستقصاء الكامل. وهذا ما دفع بي إلى أن أضيق عليه الخناق، زارعا بين أنواعه الشقاق، فانفردت برسائله أستقصي مصطلحاتها و بناءاتها وخصائصها، فلم أظفر منها إلا بما جاد به "الإحكام" و"المثل السائر"، وما تفضل به "الإمتاع" و "الصناعتين" من حدود وأغراض، ووحدات وسمات.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى