الأربعاء ٢ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٦

في وداع «غزة»

حسين أبو زيد

بعد فتـــرة مرت بنا من العمل في غزة، صاحبتها ورافقتها الأحاسيس والحنيــــــن والشعور بالراحة النفسية والتي لازمتني طيلة فترة مكوثي في فلسطين / غزة... غزة الرجال، غزة العراقــــــــــــــة، أودعك ورفـــاقي ياغـــــزة...

أودعك كأردني حتى النخاع، سكنتي جوف نخاعــه وأحاسيسه ومشاعره وكل كيانـــه.

لم أكن أتوقع حقيقـــة"، أن أهل هذه المدينــــة الحزينــــة والمليئــة بالرجولة والصمود، تكون
بهذا الحجم من القوة، والإرادة، والكبرياء !.

هذا الشعب الشامخ والذي عانى الأمرين، والذي يعمل بجد وإجتهاد،أن يكون بهذا الحجم من
الثقة بالنفس، والإصرار، والكرم والجود وحسن الضيافــــة، والإيمان بقضيتــــه وعدالتـــها، وثقتــهم بأن الله سيغير الحال إلى أفضل، وسيغير العقاب والحصار إلى نصر وزغاريـــــد، وسيكون يوما" جدارهم الذي وضعوه حول إخوتنـــا في فلسطين هو جدار لحديقة حيوانــــــات
شرسة، كانوا هم يقطنــــــــون داخلـــه.

قلمــا دخلت بيتا، لم أشاهد فيه أما" تبكي طفلها، أو إبنها العريس، أو بنتها، أو زوجها... أو ان أشاهد شابا" في ريعان وجمال الشباب بلا ساق، أو عين، أو ساعد... لم أشاهد حارة"، ولا مسجدا"، ولا مدرسة" إلا وقصفت صواريخ العدو جدرانها ومآذنها وساحاتها...

لا غزة... لا يوجد مثلك بالكون...

تطفئ أنوار غـــزة، لساعات طويلة، ويبقى أطفالها ونسائها بلا أقـل أساسيات الحيــاة، فتنيــر
لهم قناعاتهم، وثقتهم بربهم، وفقط بربهـــم أنه معهم ولن ينساهم، وسيكون معهم لامحال، حتى ولو تأخر القطار، ويجدولون حياتهم بأساليب وطرق صعبة، لا يقدر عليها سوى الأبطال.

وفي المقابل، ووسط كل هذا الالم والحرمان، لم أشاهد شعبا" حقيقــة" عنـــده روح الفكاهـــة،
والمرح، والنكتـــة مثلهم، فتخرج البسمة من شفاه رجالها ونسائها وأطفالهـــا وسط دموع
وحسرات والام عاشوها زمن طويل، وتحت نظر القريب قبل البعيـــد، دون جدوى ودون حتى
محاولة حراك، وهذا ما يؤلمهم، فأهل غزة ليسوا كبقيــة البشر، هم لا يجوعون، لا يعطشون، وتكسرت كل أمالهم بمن يحيط بهم، إلا بفرج من الله عزة وجل، وأمل من أخٍ يجــــــاورهم،
يبعد عنهم مرمى العصى، عسى أن يفتح لهم نافــــــذة" فتحها ووضعها رب العبـــــاد، قبل أن
يغلقها جيرانهم بوجوهم، ولهم أيضا" نقول: ان غزة لن تموت، غزة لن تغرق في البحر،
كما تمناها وزير من أعداءهم، غزة ستبقى، وسيتحطم أمام سواعد رجالها هامات كل من عادى
غزة.

فسكان غزة، أراهم وكأنهم يرون أمام أعينهم شيئا" لا يراه الكون بأسره، لا قريب ولا بعيـــد
... يرون نصرا" قادم، وفتحــــا" قريب، وزلزالا" يحرق الظلم والظالمين بإذن الله تعالى.

لا غزة... فأني لم أشاهد في بلد رجالا" كما تملكين... فرجال غزة رجال يحق لنسائهم أن
تفاخر بهم الدنيـــا، ونسائها نساء، وجب أن يخجل الكثير من أشباه الرجال النظر في أعينهن،
لما قدمن من تضحيات على أرض فلسطين، عجزت عنها شعوب ودول.

غـــزة الغاليــة...

فحال دخولي إلى أرضك، ومنذ أن وطأت قدمي ترابك شعرت بكبرياء عظيم، وفخر لن يشعر
به من لم يدخل غزة، وعرفت ياغـزة،أننـــا مهما قدمنــــا لك سنبقى نشعر بالتقصيــر أمام
صمودك، شعرت يا غزة بمحبـــة أهلك الحقيقي لنـــا نحن كشعب أردني، ومحبتهم وشكرهم
للقيـــادة الهاشمية لما تقدمه لهم ولأبنائهم، كنت أرى النساء ترفع أكفها إلى السماء تدعـــــو
لشعب الأردن وملك الأردن حفظه الله ورعاه بكل الخيـــر، ولا أتردد أن أقول أنني شعرت أيضا" بشوقـك لبقيــة الأخوة العرب أن يزوروكي، كي ترفعي لهم هاماتهم عاليـــا "، وكي تخبريهم أنك لست بحاجـــة لشيء منهم، أكثر من أن تتبــــاهي بهم أمام عدوهم ك عرب أولا"، لطالما تفاخر التاريخ بتأخيهـــم سابقا... نعم، هم بحاجـــة للعرب لكل العرب، كي يخبروهم ويؤكدوا لهم أن عدوهم ليس بهذه القوة التي رسموها في خيال شعوبهم، كـــــــي يؤكدوا لهم، أن الحجر هزم المدفع، وان ثقتهم بالله تسقط طائرات عدوهم، وأن الحصار خلق جيلا" من الأبطال تخر أمامهم الجبال، وأن قنابلهم هي ألعاب في أيــــــادي أطفالك يا غزة.... وأن الهزيمة هي كل ما يملكون أعدائهم في أخر المطاف، وهم على يقين من ذلك أكثــر من كثير من أخوتهم العرب وللأسف.

غاليتي غــــــــــــزة...

أم الخيرات، والمزارع والمحررات، ساحات النخيل، والفاكهة، والحمضيات والتي يستطيع أي عربي في كل أرجاء الوطن العربي أن يشتم رائحتــــها الزكيـــة وحتى من بعيـــد، فقط لو
رفع أنفــــه قليلا ".

غزة...

لكل أهلك سلام وتحيـــة، قـدر تلك المحبـــة التي شعرنا بها نحن الأردنيين على أرضك، قدر
تلك المحبــــة والدعاء التي كنت أسمعها من رجال ونساء غزة لجلالــة الملك لمواقفه ومساندتـــه لأهل فلسطين عامــــه، ولسكان غزة خاصـــة، فقد حفرت الأردن نفقــــــــــــا"
فوق الأرض وأمام عيون الدنيـــا، وأرسلت أبنائها منـــذ سنين طويلة ليقدمـــوا المساعدة
والعون لأهل غزة هاشم، غزة الشرفاء، كي نخبـــر الدنيـــا، كل الدنيـــا، أننا مع قضايانـــا العربيــة عملا" وفعلا"، لا قولا".

فالأردن صغيـــر الحجم نعم، ولكن أفعالــه لا يستطيع أحد أن يضاهيها، حيث بقي ومنـــذ
سنين طويلة جنبــك، والمستشفى الأردني على أرضك، والعاملين به، والذين عاشوا معكي
ضائقتـــك، شاهدوا بأم أعينهم ومنـــذ بدء حصارك، أحبوكي كما تحبيـهم.... فقد قصف مستشفاهم معك مثلك يا غزة، وكان من بينهـم مصابين وجرحى مثلكي يا غــزة، وعانوا
مثلك... وأصروا على البقاء معك وجنبك، متمنيــن من إخوانهم العرب أن لا ينسوا غزة، ولا أهل غزة، ولا شهداء غزة، ولا نساء غزة، ولا أطفـال غزة...

وفي الوداع.... أطلب من الله العزيز... أن يحفظ غزة، وأهلها، ليس من أجلهم فقط، بل
من اجل أن تكون غــزة مدرسة"، يسجل في صفوفهـا الإبتدائيــــة ألكثيــــر من الرجال
الكبار من وطننــــا العربـــــي.

حفظ الله فلسطين... كل فلسطين، وفـك غزة وأهلهــــــــــا من هذا الحصار الجـــائر، والذي لا
يرضى عنـــــــه إنسان حمل معنى الإنسانيـــــــــــة في ضميره يوما من الأيـــام.

نودعـــك... وفي العين دمعـــة فرح وأمــــل، بأن الله لن ينساكي، ولو تناسيناكي نحن... وأن
أشراف هذه الأمـــة يجب أن يقولوا كلمتهـــــــــم لو بعد حيـــن.

فسلام على أهلك... غزة هاشم.

حسين أبو زيد

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى