الخميس ٦ نيسان (أبريل) ٢٠١٧
بقلم حسين سرمك حسن

ليلة تسليم جلجامش لليهود (17)

تأويلات وتحليلات مُضافة ينبغي أن تؤخذ بعين الإعتبار:

هناك الكثير من المسائل والمفاهيم التي يجب أن تؤخذ بعين الإعتبار عند تحليل الأدب المصري القديم بشكل عام، وحكاية الأخوين هذه بشكل خاص. ويجب ملاحظة أن واحدة من الصعوبات الكبرى التي تواجه تحليل أدب مصر القديمة هو أن ندرة المصادر تمنح المراقب لأي نوع من التطورات التاريخية في أدب مصر القديمة حالة نظرية عالية وتجعل إعادة بناء أي شبكة تناصّية أمرا شبه مستحيل. وقد أشار بعض الباحثين إلى أن ("النظرية اليوهيميرية – euhemeristic" من الممكن أن تُستخدم بنجاح في تحليل نصوص أدب مصر القديمة، ويُقصد بالنظرية اليوهيميرية هو الاتجاه العقلاني في التأويل الذي يعامل النصوص الميثولوجية كانعكاس للحوادث التاريخية الفعلية، ويعتبر الشخصيات الميثولوجية شخصيات تاريخية حقيقية ولكنّها صُوّرت وضُخّمت أو تغيّرت من خلال إعادة السرد وتأثيرات التغيرات القيمية. وقد سُمّيت هذه النظرية نسبة إلى الفيلسوف اليوناني "يوهيميروس القورينائي" (القرن الرابع الميلادي) الذي قام بعقلنة الأساطير اليونانية في أشهر كتبه وهو كتاب "التاريخ المقدّس") (110).

وبالعلاقة مع "حكاية الأخوين"، فقد استخدمت الباحثة "سوزان توير هوليس" هذا المنهج في كتابها "الحكاية المصرية القديمة عن الأخوين: أقدم حكاية خرافية في العالم - The Ancient Egyptian Tale of Two Brothers: The Oldest Fairy Tale in the World" (أوكلاهوما – 1996) حيث اشارت إلى أن الحكاية هذه قد تتضمن انعكاسات عن واقع تاريخي فعلي. وقد رأت هذه الباحثة أن هذه الحكاية قد تعود جذورها إلى النزاع على الإرث والعرش الذي أعقب وفاة الفرعون "مرنبتاح" في بداية القرن الثالث عشر قبل الميلاد. فعندما مات مرنبتاح كان "سيتي الثاني" هو الوريث الشرعي للعرش بلا أدنى شك، ولكن أخاه غير الشقيق "أمون مس" نازعه السلطة واغتصب العرش وحكم لعدة سنوات في مصر العليا، بالرغم من أن سيتي الثاني حكم في النهاية ست سنوات كاملة.

لقد قام سيتي الثاني بترقية "المستشار باي" ليصبح المسؤول الأكثر أهمية في الدولة، وأنشأ ثلاث مقابر في وادي الملوك: واحده له، والثانية لزوجته الملكة "أوزوريت"، والثالثة لباي. وإنشاء مقبرة للأخير هو فعل غير مسبوق في مصر القديمة، لأن باي لا يحمل الدم الملوكي المصري وهو ذو أصل سوري ولا يرتبط، لا بالزواج ولا بالدم، بالعائلة المالكة. وهنا علينا أن نلتفت إلى معلومة شديدة الخطورة وقد تقلب كلّ ما قدمناه وتتمثل في ما يعتقده بعض الشرّاح مثل السيّد (بيتري) من أن المقصود بوادي الطلح هو وادي سوري أو كنعاني، ورأى آخرون أنّه وادي الصنوبر الذي تشتهر لبنان بأشجاره. وما يسند ذلك نسبيّاً هو قول جنود الفرعون أن باتا موجود في أرض غريبة سمّوها "الأرض البعيدة"! وبذلك – وهذا رأي يتطلب بحثاً أوسع – يكون البحر ليس النيل كما ورد في التحليل، بل البحر الذي يفصل مصر عن لبنان!! علماً أنني أشرتُ سابقاً إلى ظاهرة أن المصريين حتى يومنا هذا يسمّون النيل بـ "البحر" بصورة عاديّة.

وهناك ترجمة أخرى للحكاية تقول: "واتفقوا معه على الحكم (أي الحكم الذي أصدره عليها) (111). ولكن لا توجد أي ترجمة تشير إلى النهاية التراجيدية التي يحكم فيها الفرعون (باتا) على الملكة - زوجته السابقة وأمّه الحاليّة - بالقتل. ويعتقد بيتري أنّ الحكاية قد صمتت عن نهاية الزوجة الخائنة إذ كيف يذبح باتا المخلوقة المقدّسة (وهي زوجته وأمّه)؟! لقد اكتفت الحكاية بالقول أن باتا حاكمها أمامه وأن النبلاء الكبار اتفقوا معه، فتركت الحكم غير مكتوب ومسكوتاً عنه. ولاحظ أن هذه النهاية صاغها كاتب "ذكر" من السلطة الذكوريّة القديمة، في حين أن نهاية القتل المتشفّي (الذبح بالسيف) صاغها محلّلون "ذكور" هم ممثلون للسلطة الذكورية في العصر الحديث!!

وحتى عندما ابتلعت الأميرة/ الزوجة الخائنة قطعة الخشب، وحبلت، ثم ولدت لم تكن هناك أدنى إشارة في النص الأصلي الذي بين ايدينا، إلى أن الطفل المولود يشبه باتا. يبدو أن شيئا من "الحداثة" كان في بنية الحكاية السردية بحيث راهنت على ذكاء القاريء في عملية تصوّر ناتج عمليّة الإنجاب حيث لابدّ أن يكون المولود باتا نفسه أو مشابهاً له مادام التخصيب قد جاء منه (من شجرته، ولاحظ هنا أن الشجرة رمز ذكوري في هذا "السياق"، وليست رمزا للإلهة الأم كما دوخّنا الباحثون في كل حالة) أي أننا نحتاج – من وجهة نظري – إلى شيء من "المرونة الرمزية" إذا جاز الوصف، حيث من الممكن أن تحمل الرموز الأنثوية دلالات ذكورية، وبالعكس، اعتمادا على السياقات التي تأتي ضمنها، وليس مثل الأفعى رمزا ذكورياً في سياقات معيّنة، وهي الرمز الأنثوي الأصيل، مثالاً أكثر دلالة. والمشكلة أن ناجح - وقبله فراس السواح - يعتبرون حمل الإلهة سيبيل، وهي تمسك غصن شجرة رمّان، علامة على الإخصاب الذاتي، والغصن كما يصرّون هو رمز قضيبي أصيل يوفّر "الإتصال الإدخالي".

ويكون ختام الأسطورة بجلب الأخ الأكبر أنبو، الذي يعيّنه باتا أميرا ووصيّا على كل البلاد. حكم باتا كفرعون ثلاثين عاما (وفي نسخة أخرى عشرين عاما)، وبعد أن رحل إلى السماء، خلفه أخوه في حكم مصر.

(الآن انتهت الحكاية).

والآن – يا ناجح – هل هذه المرأة أنموذج للإلهة الأم؟:

نعم. إنتهت الحكاية ودعوني أعود أولا إلى ما قاله ناجح من أن زوجة باتا التي خلقتها الآلهة هي إلهة أمّ، الإلهة إيزيس، ورمزها الشجرة. الآن نجد ناجح يقول:

(استعاد بايتي الاله الشاب / القتيل كامل حيويته وعزمه على الانتقام من المرأة / زوجته التي صارت نموذجا للنساء المعروفات بالمكر والدهاء - ص 148) (112).

إنها الآن من النساء، وليست من الإلهات الأمّهات اللائي عُرفن بكونهن نماذج للخصب وتجدّد الطبيعة، ورموزاً للعطاء والولادة.

أعطني يا ناجح تصرّفا واحداً أسطورياً لهذه المرأة التي تعتبرها إلهة غير أن خلقها تم من قبل إله؟؟

إن كل ما قامت به لا يزيد على سلسلة من المؤامرات والدسائس "البشرية" لغرض قتل زوجها السابق باتا وإفنائه ؛ من قتله بقطع الأكاسيا التي وضع قلبه على زهرتها، مرورا بقتله كثور، إلى اجتثاث وجوده كشجرتي لبخ. وكل الأعمال المدمّرة هذه تمّت عن طريق جعلها الفرعون يقسم لها بالإله رع بأنه سوف يُنفّذ كلّ ما تقوله له.

إنّها منذ أن نزلت في بيت باتا وحتى نهايتها ونهاية الحكاية لم تقم بأي عمل على الإطلاق يشير إلى كونها إلهة أمّ. فكيف اعتبرها ناجح – وبكل بساطة وبشروحات مكررة – أنها أنموذج للإلهة الأم ؛ مثل إنانا وعشتار وعشتروت، وأنها مثل إيزيس.. إلخ.

مقاربات تلفيقية!:

وهناك مقاربات تشبه التلفيق السريع الذي لا يحكمه منطق ولا أسس تحليل. يقول ناجح:
(وكان لحكاية الشاب بايتي تاثير واضح على اسطورة الاله الاغريقي الشاب "ديونيسس" الذي كان على هيئة خنزير (لم يكن باتا على هيئة خنزير)، فهجمت عليه مردة من جنس الالهة Titans (لم تهجم على باتا مردة من الآلهة بل جنود مكلّفون من الفرعون)، وفسخت جسمه واكلت اطرافه ولم يبق منه الا القلب (قام الجنود بقطع ساق شجرة الاكاسيا ومات قلب بايتي في حين بقي قلب ديونيسس حيّاً يخفق) فاستنقذته الآلهة اثينا وحملته الى كبير الالهة زفس (لم تقم إلهة بانقاذ بايتي بل أخوه الأكبر البشري) فجعل منه الها جديدا هو ديونيسيس زكوس، ثم انثنى واوقع اشد العقاب بالمردة الالهة وحرقهم بنيران البرق، ومن رماد اجسادهم خلق الانسان (لم يحرق بايتي أحدا من الآلهة وكانت مشكلته مع زوجته ولم تتطور مأساته إلى أسطورة خليقة)!! - ص 143) (113).

وسأحاول تنظيم الفروقات الفادحة بين الإله ديونيسيس وباتا من جديد ووفق رأي ناجح فقط، علماً أن هناك العديد من الفروقات التي لم أذكرها لأنني تقيّدت بقول ناجح فقط:

 ديونيسيس كان على هيئة خنزير، وباتا لم يكن على هيئة خنزير.

 هجم على ديونيسيس مردة من آلهة التيتانس، في حين هجم على باتا جنود بشريون من الفرعون.

 فسخ المهاجمون جسم ديونيسيس وأكلوا أطرافه ولم يبق منه سوى القلب، في حين أن المهاجمين لم يقطّعوا أطراف باتا ولم يفسخوا جسمه ولكن هاجموا قلبه وأماتوه ثم احياه الأخ الأكبر.

 قامت الآلهة أثينا بإنقاذ ديونيسيس وسلّمته للإله زفس، في حين قام الأخ الأكبر بإنقاذ باتا وأوصله كثور مقدّس للفرعون.

 أحرق الإله زفس قتلة ديونيسيس وخلق من رمادهم الإنسان (أسطورة خليقة)، لم يحرق الفرعون قتلة باتا ولم تتحوّل قصته إلى أسطورة خليقة.

هذه التناقضات من مقطع قصير قاله ناجح.. فكيف إذا أخذنا الأسطورتين كاملتين وقارنّا بينهما تفصيلياً وضمن سياقاتهما؟!.. هل سيبقى هناك دليل شافٍ وكافٍ على "التناص" المزعوم؟
وكما يرى السيّد القارىء فلا علاقة لباتا بديونيسيس، وكل ما في الأمر تلفيق التشابهات، ولو اعترضت على هذه الطروحات، فسيكون الردّ عليك جاهزاّ: هذا تناص!! في حين أنّه، ومع احترامي لاختنا الغالية "جوليا كريستيفا": (تلاصّ) كما يقول الكاتب "يوسف يوسف" في تعليقه الذي سنذكره قريباً.

وفي القسم الرابع (موت بايتي وانبعاثه) يستهل ناجح بحثه بالقول:

(تقترب شخصية الإله الشاب "بايتي" في حكاية الأخوين كثرا من الاسطورة الخاصة بالاله ديونيسس وهذا ما ستضيئه الدراسة من خلال الطقوس الدينية/ الشعائر السحرية - ص 169) (114).

ويبدو أن ناجح ينسى كثيراً لأن الموضوع متشابك. فقد كان عليه أن يشرح لنا التشابهات بين شخصية باتا وشخصية الإله ديونيسس، وأوجه التطابق بين أسطورتيهما. لكنه عاد بعد عشر صفحات ليتحدث عن ديونيسس بخمسة اسطر ضمن سياق عام تحدث فيه أيضا عن أدونيس بخمسة عشر سطرا. ولم نشعر بوجود وقفة خاصة يفي بها بما وعدنا به في الاستهلال.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى