الخميس ٧ شباط (فبراير) ٢٠١٩
بقلم رياض كامل

صورة العامل في شعر زيّاد والقاسم

تهدف هذه المقالة إلى دراسة صورة العامل في أشعار توفيق زياد (1929-1994) وسميح القاسم (1939-2014). فالكتابة عن صورة العامل في الأدب الفلسطيني لهو موضوع شائك بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، ولكنها فكرة هامة ولافتة تستحق دراسات واسعة وشاملة، مما يفرض على الدارس أن يقوم ببحث حول الحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية قبل النكبة وبعدها، ومن ثم دراسة الصراعات حول السيطرة على هذه البقعة من الأرض.

نقول بإيجاز شديد إن المعلومات حول العمل والعمال قبل النكبة (سنة 1948) ليست بكافية، ولا تسعف الباحث في رسم صورة كاملة واضحة المعالم. فهناك أمور أخرى في غاية الأهمية تحتاج من الدارسين في هذا المجال إلى الدخول في العمق أكثر، وهذا ليس مجالنا. لكن من اللافت حقا أن حقوق العمال قد فرضت ذاتها على الواقع الفلسطيني، فأقيمت نقابات عمالية في حيفا ويافا والناصرة، منذ عشرينيات القرن الماضي، تعنى بعمال الموانئ والقطارات والتجار، واستمرت في عملها حتى النكبة، ثم انتقلت إلى نابلس وتوقفت عن العمل بعد تدخل السلطات الأردنية (سنة 1952) وإقفال جميع فروعها هناك.

ويبقى السؤال المطروح: إلى أي مدى من الوعي تعاملت هذه النقابات مع العمال؟ والأسئلة الأخرى التي تنبثق من خاصرة الأول هي: كيف نظر العامل آنذاك إلى هذه النقابات وكيف تعامل معها؟ وما دور هذه النقابات؟ وماذا قدمت لمجتمعنا؟ هذه أسئلة لا نملك إجابات وافية لها. كان الهمّ الأكبر للفلسطيني الباقي في أرضه آنذاك البحث عن لقمة الخبز في ظل ظروف ليس ممكنا استيعابها بعد هذه الصدمة المفاجئة والسريعة، في حين كانت نسبة المثقفين والمتعلمين متدنية جدا، إذ إن معظم المتعلمين والمثقفين قد هُجِّروا وبقيت منهم فئة قليلة برزت من بينها أسماء هامة رغم الظروف الصعبة، لذلك ضاعت أمور كثيرة في خضم الصراع من أجل البقاء والحفاظ على الصغار وتوفير لقمة العيش.

اعتمد الإنسان الفلسطيني لقرون طويلة على الأرض كمصدر عيشه الأساسي منتظرا مواسم الحصاد والقطاف، ومن يقرأ أدبنا الفلسطيني فسيرى بوضوح صورة بارزة للفلاح والفلاحة، وهذا ما تعكسه جل الأعمال الأدبية والفنية والتوثيقية التي تعرض المواعين والآلات التي كان يستعملها الآباء والأجداد، فهي في جلها مربوطة بالأرض والفِلاحة، كما هو حال الكثير من الشعوب، لكن الثورة الصناعية في أوروبا كان لها انعكاسها المباشر على الفلاح الأوروبي الذي اضطر للانتقال في أعقابها إلى المدينة سعيا وراء لقمة العيش، فظهرت طبقة العمال هناك قرنين تقريبا قبل ظهورها في بلادنا. لذلك حين نعمد إلى الأدب الفلسطيني لدراسة صورة المجتمع وتركيبته فإن صورة الفلاح تطغى على غيرها، فيما تبقى صورة العامل في الظل، فالأدب في محصلته مرآة الشعوب.

إن كلمة "عامل" في مفهومها الحديث، وفي بعدها الطبقي، قد بدأت تتبلور في بلادنا، وتأخذ حيزا أوسع في الحياة اليومية، كما نرى، بعد النكبة، ولربما في أوائل سنوات الستين من القرن العشرين. فقد قامت الحركة الصهيونية بتطبيق أهم مبادئها وهو مصادرة الأرض من أصحابها الأصليين، وبناء مستوطنات وتجمعات سكنيّة لاستيعاب مئات آلاف المهاجرين اليهود القادمين من شتى دول العالم الغربية والشرقية، وباتت الأرض تسحب من تحت أقدام أصحابها حتى تمكنت الدولة من مصادرة القسم الأكبر منها، بعد أن هُجِّر حوالي ثمانين بالمائة من سكان فلسطين العرب عام النكبة (حوالي 750 ألف مُهَجَّر) تاركين وراءهم أكثر من خمسمائة قرية مهجّرة خالية من أهلها الأصليين، وبالتالي، تحول الإنسان الفلسطيني هنا، بشكل تدريجي من فلاح إلى عامل.

تشير الدراسات إلى أن نسبة أبناء المدن الذين بقوا من الفلسطينيين بعد النكبة لا يتعدى الربع. وهم ليسوا مدنيين بالمفهوم الاجتماعي والاقتصادي، إذ إن مدينة الناصرة، وهي المدينة العربية الوحيدة الباقية بعد النكبة والتي بقي فيها معظم أبنائها، لم يكن سكانها مدنيّين، إذ لم يكن فيها مصانع البتة، اللهم إلا بعض المعامل والمحلات التجارية. كما أنّ من تبقى هنا من سكان المدن الأخرى مثل حيفا وعكا ويافا لا يتعدى تعدادهم أربعين ألفا آنذاك، بعد أن فقدوا مصادر عيشهم.

 2-

تابعت البقية الباقية هنا العمل في الأرض كفلاحين، ثم بدأت تظهر مجموعة من العمال الذين يخرجون من بيوتهم صباحا نحو أماكن العمل في البناء وفي المصانع وفي المعامل التي أقيمت حديثا، وفي حقول الفلاحين اليهود، وكان هذا العدد في ازدياد مطّرد مع كل عملية مصادرة للأرض.

بقي من بقي هنا يلكأ جراحه ويبحث عن لقمة عيشه، في ظل أوضاع عربية وعالمية ليست في صالحه، وكان شبه معزول عن العالم الخارجي وعن التطوّرات الحاصلة فيه. وكانت مصادر معلوماته عما يدور في العالم تعتمد على بعض الإذاعات العربية، وعلى الاجتماعات الشعبية التي كان يقيمها بالأساس الحزب الشيوعي الإسرائيلي، وكان خطباء هذا الحزب وداعموهم يؤكدون في خطاباتهم على أهمية دور العامل والفلاح عملا بالشعار الأهم "يا عمال العالم اتحدوا". كان الشاعر توفيق زياد والشاعر سميح القاسم وقسم من الأدباء والمثقفين يميلون في أشعارهم للطبقات المسحوقة من عمال وفلاحين وفقراء، متأثّرين بأدبيات الأحزاب الشيوعية العالمية وشعرائهم ومفكريهم.

أولت هذه المجموعة أهمية كبرى لهذا الفكر ولهذه الطبقة، ووثقت لحياة الناس ورصدت التحركات الوطنية والمظاهرات التي قام بها شعبنا الباقي هنا في أكثر من مناسبة، وتطرقوا إلى حياتهم ومعاناتهم ودَورهم. كان هؤلاء الشعراء يكتبون شعرا ثوريا مُحرِّضا، وربطوا بين قضيتهم وقضية التحرر في العالم العربي وفي العالم أجمع. لقد كانت قضية التهجير الشاغل الرئيسي لسميح القاسم وتوفيق زياد ورفاقهما فعبّروا عن همهم الوطني والقومي والفكري، تلقّفت الجماهير أشعارهم وحفظتها عن ظهر قلب ورددتها في المناسبات الوطنية والفكرية.
حري بنا أن نُذكّر بتأثير الفكر الأممي على الشاعرين القاسم والزياد وقد انتمى كل منهما إلى الحزب الشيوعي، وكان من شعارات هذا الحزب ومبادئه قضية العمال وحقوقهم وما يتعرضون له في حياتهم اليومية من ظلم وإجحاف في مواقع عملهم. وكان، ولا يزال، أول أيار هو يوم العمال العالمي الذي يخرج فيه الشيوعيون ومؤيدوهم في مظاهرات جماهيرية، وكان لا بد أن ينعكس هذا الأمر في قصائد هذين الشاعرين.

لسنا بصدد كتابة سيرة حياة الشاعرين، لكن من الضروري أن نذكّر بأن توفيق زياد قد انتمى منذ شبابه المبكر إلى الحزب الشيوعي، وظل فيه حتى آخر يوم في حياته، حيث توفي في حادث طرق في طريقه إلى مدينة القدس. انحسر انتاجه الأدبي بسبب انشغاله في العمل البرلماني وفي رئاسة بلدية الناصرة، بل قد توقف لعقدين من الزمن تقريبا، حتى عاد إليه في أواخر حياته فكتب مجموعة من القصائد جمعتها العائلة ونشرتها في ديوان بعنوان "أنا من هذي المدينة" (1994).

أما الشاعر سميح القاسم فقد انضم إلى الحزب الشيوعي في جيل الشباب، بعد النكسة (حرب حزيران1967) مباشرة وقد قدم طلب الانتساب وهو في السجن مع بعض الرفاق من الحزب الشيوعي، كما يكتب في سيرته الذاتية "إنها مجرد منفضة" (انظر: ص83) ثم انفصل عنه، على ما يبدو، نهاية العقد التاسع من القرن العشرين، ولم يتوقف عن قول الشعر حتى آخر يوم في حياته.

 3-

أولى الشاعر سميح القاسم قضية العمال عناية أكبر في مرحلة مبكرة من أشعاره، ومن قبل أن يصبح رفيقا في الحزب الشيوعي، كما يشير في كتابه "إنها مجرد منفضة" في معرض حديثه عن فصله من العمل كمدرس وتزامُنِ ذلك مع إصداره المجموعة الشعرية الثانية "أغاني الدروب" (1964)، فكتب قصيدته "خطاب من سوق البطالة" التي اشتهرت لاحقا باسم "سأقاوم" يقول فيها:

حملتُ الجوع زوادة
ورحت مبكرا للشغل كالعادة
فلم أعثر على عملي
ولا وردي ولا خبزي ولا أملي
أنا جنديك المجهول يا أسوار طروادة" (إنها مجرد منفضة)

لا يتحدث الشاعر هنا عن عامل في مصنع أو معمل، بل يتحدث عن موظف في سلك التعليم، لكنّا مع ذلك نعثر على مفردات وتعابير من عالم العامل الذي يفقد مصدر رزقه بعد إغلاق باب العمل في وجهه.

يجد القارئ عند الشاعرين قصائد تحمل طابعا أمميا، وتأثيرا مباشرا للشيوعية العالمية وأهم منظريها وكتابها مثل ماركس لينين وفيديل كاسترو وتشي جيفارا وغيرهم، فكتبا قصائد تعبر عن مواقفهما في تأييد العمال في كل قطر من أقطار العالم. وحين كانت تحدث صدامات بين المتظاهرين العمال في أي منطقة من العالم مع الشرطة أو الجنود، كان ذلك يجد له صدى في أشعارهما، فقد هاجم القاسم أرباب البترول متسائلا: "من منكم دخل نهار العيد بيوت العمال/الفقراء" (الحماسة، ج3). هذا التساؤل بحد ذاته يعلن عن موقف داعم لهذه الفئة من الناس، ويكشف عن موقع العامل في قلب الشاعر الذي يمثل فئة المثقفين أصحاب المواقف الأممية الداعية إلى دعم مكانة العامل الذي يبني بجسده وعرقه مستقبلا للأجيال الصاعدة.
تكررت هذه المواقف عند القاسم والزياد ومن يتبنى رؤيتهما، فرأوا أن العامل هو الذي يستحق أن يبجّل وأن يكرّم، لا أولئك الذين ينعمون في القصور وفي ظلال الحياة المرفّهة بينما العامل هو الذي يبني ويطوّر ويؤسس.

حاول بعض الناشرين أن يخفوا بعض قصائد القاسم التي تحمل طابعا أمميّا، ويشير أحمد سعيد محمدية في مقدمة القسم الثاني من "ديوان سميح القاسم" الصادر عن دار العودة (1987) إلى أن دار العودة تقوم بنشر هذه القصائد التي "لم يسبق نشرها لأنها ذات نفس ماركسي، وكان الذين يحذفون هذه القصائد في البلاد العربية يحتجون بأن هويتها اليسارية تسيء إلى الشاعر المناضل أكثر مما تحسن إليه" (ديوان سميح القاسم دار العودة، 1987).
قمنا بالبحث عن قصائد تتحدث عن العامل وظروف معيشته ودوره فعثرنا على القصيدة المشار إليها أعلاه، والتي ترى الموظف أيضا عاملا يسعى وراء لقمة عيشه، وعلى ما يبدو فإن القاسم قد طرق موضوع العمال بشكل مباشر في قصيدة له بعنوان "طلب انتساب للحزب" وفيها نرى بوضوح النبرة العمّالية، بل ونقع على مفردات من عالم العامل مثل: "إزميل"، "مطرقة"، "منجم" وفأسا". يقوم الشاعر بداية بإهداء القصيدة "إلى ماير فلنر.. وشيوعيين لا أعرف أسماءهم من أسيوط واللاذقية وفولغوغراد ومرسيليا ونيويورك وإزمير، ومن جميع المدن والقرى وأكواخ الصفيح والعرائش المتشبثة بكوكبنا- بكرتنا الأرضية"، ثم يستهلها بقوله:

"أعطني إزميلك المسكوب من صلب المرارة!
لم أعد أقوى بأظفاري
على هذي الوجوه المستعارة". (ديوان سميح القاسم، 1987)

من يقم بمراجعة القصيدة يلاحظ أنها تتحدث عن العمال وداعميهم في أكثر من موقع، فحملت روحا أممية، دون الغوص في هم العامل هنا وما يتعرض له. يرى القارئ أن الشاعر يلجأ في مقدمة كل مقطوعة (ما عدا واحدة) إلى ذكر أداة من أدوات العمال التي أتينا على ذكرها أعلاه، ويكتشف لهجة التقدير للعمال ولدورهم الكبير. تأخذ صورة العامل بعدا أكثر وضوحا في قصيدة تنسب إلى نفس الفترة الزمنية بعنوان "عزيزي.. إيفان ألكسييفتش أكتوبر" وفيها عناصر درامية يفتح من خلالها الشاعر حوارا واسعا يعرض من خلاله قضايا خاصة وإنسانية عامة، فنقع على كلمة "العمال" بشكل مباشر، لا تلميحا، وفيها ينسب إليهم دورهم المهم في الصراع من أجل العدالة:

"وفي يوم من الأيام
صحوت على يد مست جبيني الجهم، في رفق
وصوت معلم جوال
أتى من قمة الشرق
[..................]
وحدثني طويلا،
عن بلاد الثلج والأطفال
والأزهار والعمال" (ديوان سميح القاسم)

ثم يتابع بوضوح أكثر بالتوجه المباشر إلى العمال في نص آخر من نفس القصيدة:
"أدور على بقايا حدائق لم تلكها النار
وأجمع ضمة سلمت من الأزهار
لأبعثها لبيت الجد أكتوبر
سلاما يا سواعد إخوتي العمال
سلاما يا مداخنهم
سلاما يا منازلهم
سلاما للجسور الشهل،
للآلات،
للأبراج". (ن. م)

يلاحظ القارئ مدى التقدير الذي يكنّه الشاعر للعامل ولدوره، وإن كان الحديث يدور عن العامل في المصانع الكبرى في المدن الكبرى من الاتحاد السوفييتي، لكن قارئ القصيدة كلها - وهي تمتد على أربع عشرة صفحة – يلاحظ لهجة الإجلال والتبجيل للعامل ودوره. يبدو جليا غلبة النبرة الأممية على القصيدة، وعلى دواوينه الأولى حيث تعج بقصائد موجهة إلى رموز أممية وشخصيات قدمت نموذجا في الفداء في سبيل التحرر والعدالة، كما يتجلى في قصيدته المطولة "بطاقات إلى ميادين المعركة" من ديوانه "إرم" (ن. م) حيث يرسل "إلى الأسطى سيد" مقطوعة يُشيد فيها ببناء السد العالي في مصر. تتميز هذه المقطوعة بالحماسة للعمال ودورهم:

"يا أسطى سيد!
ابن.. وشيّد
شيّدلي السد العالي
شيّدلك
أطفئ ظمأ الغيظ الغالي
وامنحنا.. وامنح أهلك
كوبا من ماء
وخضارا.. وزهورا.. وضياء (ن. م)

تتداخل في المقطوعة أعلاه وفي غيرها نبرة الحماسة التي تظهر ميل الشاعر تجاه العمال مع موسيقى القصائد ونبراتها البارزة في جناسها وقافيتها. إن سرعة الإيقاع المنبعثة من اللفظ الشعري أعلاه ينسجم انسجاما كاملا مع فكرة القصيدة المنحازة للعمال. ونراه حين يعلن موقفا صارما في قصيدة له بعنوان "هكذا" يؤكد فيها انتماءه الأزلي للعروبة ويأتينا بصور من محيطه وواقعه ومنها صورة العامل والمصنع:

"مثلما تمسح وجهَ العامل المجهد نسمة
مثلما يشمخ بين الغيم مصنع
............................
هكذا تنبض في قلبي العروبة" (ن. م)

لقد آمن سميح القاسم أن طبقة العمال هي المحرك الأهم في حركة تحرر الشعوب، وأن ازدياد قوتها سيساهم في ازدياد الدعم للقضية الفلسطينية، وأن نجاح الرأسمالية من شأنه أن يضر بقضية الشعب الفلسطيني. إن هذه القصائد التي كتبها القاسم في هذه الفترة، وإن كانت ذات أبعاد أممية، إلا أنها تحمل بعدا وطنيا. إن هذا التقدير العالي للعمال، في كل بقعة من بقاع الأرض، نابع من إيمان الشاعر أن خلاص الشعوب من الاستعباد ومن الظلم لا يتحقق إلا من خلال دعم العمال فهي الطبقة الوحيدة القادرة على تحقيق العدل والعدالة.
حاولنا أن نعثر على قصائد تتناول وضعية العامل العربي في هذه البلاد فلم نعثر، لكن يبدو أن الشاعر كان آنذاك يؤمن أن بشائر الخير وبشائر التغيير، التي يتمناها، قادمة لامحالة من قلب كل عامل حيثما تواجد. وهو آنذاك يرى من خلال إيمانه الأممي أن وحدة العمال ستحقق أحلام الشعوب المظلومة.

 4-

انتمى الزيّاد، كما ذكرنا أعلاه، للحزب الشيوعي في سن مبكرة فعبّر في شعره، منذ قصائده الأولى عن إيمانه العميق بطبقة العمال العالمية معتزا بانتمائه إليها، ولذلك يجد نفسه إلى جانبهم ومعهم. لم يتأخر توفيق زياد، هو أيضا، في التعبير عن دعمه للعامل ودوره، إذ تصدى لأرباب المصانع الذين ينتهكون حقوق العامل فكتب قصيدته المبكرة بعنوان "إلى عمال آتا المضربين" (نشرت سنة 1954)، وهي شركة كانت في حينه من أشهر شركات النسيج في الدولة جاء فيها:

"فالذي لصّ خبزَكم لصّ خبزي
نحن الاثنان للطغاة ضحيّة
دربنا واحد فهاتوا الأيادي
يا رفاق المعارك الطبقية" (أشد على أيديكم)

لم يتأخر زيّاد في رسم صورة إيجابية للعامل هنا، وإلى ضرورة دعمه والوقوف إلى جانبه، كما لم يتأخر في الخوض في قضية العمل والعمال كطبقة لها مصالح مشتركة حيثما تواجدت، ورأى فيها المحرّك الرئيسي القادر على التصدي وإحداث التغيير المرجو لتحقيق العدل والعدالة والمساواة. ومن اللافت أنه يكتب هو أيضا عن العمال في موسكو وعن إعجابه بهم وبدورهم، كما ينعكس في قصيدة بعنوان "إلى عمال موسكو" التي رأت النور سنة 1961، ثم نشرت في ديوانه الشهير "أشد على أيديكم" (1966) يعبر فيها عن تقديره لدور الاتحاد السوفييتي في دعم الحقوق والمصالح العربية، وبدلا من تقديم شكره للدولة فقد آثر أن يخاطب العمال هناك معتبرا إياهم شركاء في الهم والمصير، فهم، في نظره، السد المنيع في وجه الرأسمالية:

"يا إخوتي العمال في موسكو
قلوبكم كبيرة.
وبقدر ما أنتم جبابرة، فأنتم طيبون.
وستغفرون لنا حتى الشتائم.
وسترسلون لنا الهدايا
دون عد.
وستبتنون لشعبنا، مليون سد.
أنا أعرف العمال، أعرف طبقتي" (أشد على أيديكم)

نعود لنؤكد على أن الشاعر توفيق زيّاد يرى في العمال مناصرين لبعضهم أينما تواجدوا وحيثما كانوا، ليطبق مقولة الشيوعيين "يا عمال العالم اتحدوا"، فالصراع طبقي، بين المُستغِلّين والمُستغَلّين، لذلك لن يتردد هؤلاء العمال في تقديم السلاح للشعب العربي "نحمي به الوطن المقدس/ من نوايا كل طامع."، كما جاء في القصيدة أعلاه. وهو حين يتحدث عنهم فكأنما يتحدث عن فئة يراها جدّ قريبة منه "أنا أعرف العمال، أعرف طبقتي". تتجلى رؤية الكاتب في أوضح صورتها؛ رؤية أممية تنظر إلى العالم نظرة كلية مترابطة ترى أن الصراع هو ذاته صراع طبقي، حتى ليبدو كأن العالم قرية واحدة، أو مدينة واحدة وتجمّع سكاني واحد يصارع فيه العمال للقضاء على الرأسمالية من خلال دعمهم لحركات التحرر، وبالذات في العالم العربي، رغم "الشتائم" والنواقص والعيوب. يبدو العامل في هذه القصيدة وفي غيرها النور المضيء في العتمة، والشمعة التي تحترق لتبقى الشعلة وهاجة.

يتكرر الموقف الأممي ذاته في قصيدة "إليكم" (سنة 1964) التي يتوجه فيها مباشرة للعمال معبرا عن تقديره لهم، لكن في هذه المرة تمتزج الرؤية الأممية بالرؤية القومية أكثر، فالجامع بين الأممية والقومية هو العمال:

يا أميَ التي في عنقها الأغلال
يا شعبي الذي يريده الطغاة
أن يقبّل النعال
يا شارعا تزحَم فيه بعضَها
مواكبُ الرجال
يا إخوتي العمال
أحبّكم جميعكم
أحبّ كل قبضة مهزوزة
في أوجه الأنذال" (ديوان توفيق زياد)

من الملاحظ أن النبرة الأممية تمتزج بالنبرة الوطنية، فالشاعر لا يرى أن هذي قد تلغي تلك، بل إن الواحدة تدعم الأخرى. فإن بنى العمال مصنعا وشيدّوا صرحا في مكان ما، من أي بقعة في الأرض، فإن نتيجته ستنعكس إيجابا على شعوب أخرى لتعمل على دحر الاستغلال والرأسمالية. وهم، كما يتجلّى أعلاه، القادرون على نشر الحرية والكرامة دون خوف أو وجل، يراهم الشاعر دائما يقفون في الطليعة، لا في المصانع والمعامل فقط بل في ساحات المواجهة.

رأى الشاعران أن الكثير من الإنجازات، حتى العلمية منها، تُنسب في نهاية المطاف إلى العمال. لقد تكررت أسماء لأعلام عدة؛ كتابا، ثوارا، منظرين وقادة سياسيين في أشعار الزياد والقاسم ورفاقهما، ففي قصيدة بعنوان "غغارين" لتوفيق زياد يهيج الشاعر حماسا لإنجاز رائد الفضاء السوفييتي الأول، ويعبر عن تقديره لهذا الرجل لأنه ينتمي إلى فئة العمال:

"إنه مثلك،
مثلي..
مثل كل الآخرين
عامل يؤمن بالحق
بما قال،
لينين." (أشد على أيديكم)

يرى زيّاد أن كل فرد، مهما كان موقعه، ومهما كان نوع العمل الذي يمتهنه، إنسان ينتمي إلى طبقة العمال، شرط أن يؤمن بمقولات المفكرين الأمميين، وهو، لا شكّ، ينطلق في ذلك من خلال تبنيه لهذا الفكر. يخصص توفيق زياد عددا كبيرا من قصائده للعامل والعمال ويراهم الطبقة التي تبني وتعطي وتضحّي، ويعتبرها المحرك الأهم في دفع عجلة التطور في جميع المجالات، بل إنه يعوّل عليها كثيرا حيثما كانت وأينما تحركت.

تتميز قصائد الزياد بالنبرة الخطابية الحماسية ممزوجة بالفخر والاعتزاز بانتمائه إلى هذه الطبقة. ونراه مؤمنا حتى النخاع أن العمال سيحققون أحلامهم وأحلام شعوبهم بالحياة الحرة الكريمة التي تحقق المساواة اجتماعيا واقتصاديا. برزت لدى الزياد النبرة الوطنية في كثير من قصائده رغم انتمائه الأممي، وهو يؤمن أن لا تناقض بين الفكرين؛ الوطني والأمميّ، فتحرُّر الشعوب من الاحتلال ومن الاستغلال وتطبيق العدالة والمساواة الاجتماعية هي مبادئ قومية، وطنية وأممية، تكمل إحداها الأخرى.

 5-

ليس من واجب هذه الدراسة الموجزة أن تقيم مقارنة بين الشاعرين، ولم ترم إلى ذلك أبدا، لكن من الضروري أن نشير إلى أن صورة العامل بارزة في شعر الزيّاد، وذلك نابع من التزامه بأهم قيم ومبادئ الحزب الشيوعي طوال حياته، فكانت النبرة الأممية غالبة منذ قصائده الأولى. كما رأيناه يدمج في الكثير من قصائده بين الفكر الأممي والفكر القومي والوطني بحيث يكمل أحدها الآخر، فهو يؤمن إيمانا مطلقا بأن الخلاص من الاحتلال والإمبريالية لا بد قادم بفضل العمال، عصب التحرر الأممي والقومي.

كتب سميح القاسم شعرا أمميا مع انضمامه للحزب الشيوعي، ورأينا لذلك انعكاسا لأهم رموز اللينينية الماركسية من قيادة وأدباء ومفكرين. ووجدنا أن النكبة قد وجدت لها انعكاسا في شعره فضلا عن النكسة وما آلت إليه أحوال الأمة. لكنه مثله مثل زميله زيّاد فقد رأى أن هذه النكسة ليست إلا كبوة حصان. وللحقيقة فإن صورة الفلاح أكثر بروزا من صورة العامل في شعر القاسم وقد يعود ذلك، لكون سميح القاسم ابنا لقرية الرامة الجليليّة التي كانت تعتمد في معيشتها على الأرض، بينما زيّاد قد ولد وكبر في مدينة الناصرة التي اعتمدت في معيشتها أكثر على التجارة، وعلى العمل في المجمعات السكانية المجاورة، ففيها سوق كبيرة جمعت فيها تجارا صغارا وكبارا، فضلا عن بائعين وبائعات يبسطون بضاعتهم المتواضعة على جوانب السوق من الناصرة والقرى المهجّرة والقرى المجاورة. ومع ذلك لا نرى أن أيا منهما قد فضّل العامل على الفلاح، بل إن شعرهما يشهد على الدور الهام للعامل والفلاح، على حد سواء، خاصة أن العمل في الأرض يجمع بين الرجل والمرأة أكثر مما يجمعهما المصنع.

رغم الطابع الأممي الطاغي على قصائد العمل والعمال إلا أن ذلك لم يتناف ولا بأي شكل من الأشكال مع النبرة القومية والوطنية، فالقارئ لأشعارهما وأشعار غيرهما من الشعراء والكتاب الفلسطينيين يلاحظ أن النبرة الوطنية قوية وبارزة. فقد انشغل زيّاد والقاسم وكثيرون بالقضية الفلسطينية، وبكل قضية عربية أخرى، ورأوا أن تحرر الشعوب العربية يساهم في رفع الروح المعنوية للمواطن الفلسطيني حيثما كان، ويساهم في تحريك قضيتهم. فوجدنا انعكاسا واضحا للانتماء العربي قوميا ووطنيا، واهتماما بالغا بكل ما يحدث في العالم العربي سياسيا واجتماعيا واقتصاديا. ولذلك فإن إقامة السد العالي في مصر وتأميم قناة السويس كان لهما صدى في شعرهما لدوافع وطنية وعمالية، فقد رأى كل منهما أن هذا السد سيعود بالفائدة على المواطن الفقير وعلى العمال والفلاحين، شأنه شأن قناة السويس.

نجمل في النهاية أن الشاعرين يعكسان صورة إيجابية عن العامل ودوره على عدة أصعدة؛ تحقيق العدل والعدالة والمساواة، تحرير الشعوب، وتطوير العلم من أجل خدمة الطبقات المسحوقة. فالعامل هو المناضل القادر على تحقيق المساواة، وأن نجاحه في أي بقعة سيكون له أبعاد مباركة على واقع الشعوب المستضعفة، ونجاحهم وعطاؤهم في الدول الأخرى سيساهم في دعم قضية الإنسان الفلسطيني.

القاسم والزياد لم يكونا عاملين في مصنع أو معمل، ولم يكونا عاملين في ورشة بناء، ولم يكونا فلاحين مزارعين، بل هما مثقفان عملا في مجالات أخرى لا علاقة لها بما ذكرناه، لكنهما وجدا أنهما يتماهيان مع العامل ومع الفلاح، ويريان أن هذه الطبقة هي الكفيلة بحمل أعباء الشعوب على جميع الأصعدة الاجتماعية والسياسية والفكرية. فقد التزم الشاعران في تلك الفترة بأهم مبادئ الشيوعية اللينينية الماركسية.

المصادر

توفيق زياد، ديوان توفيق زياد، دار العودة، بيروت: د.ت.

توفيق زياد، أشد على أيديكم، ط2، مطبعة أبو رحمون: عكا، 1994.

توفيق زياد، أنا من هذا الوطن- مختارات شعرية، رام الله: منشورات وزارة الثقافة الفلسطينية، 2016.

سميح القاسم، ديوان سميح القاسم، دار العودة: بيروت، 1987.

سميح القاسم، إنها مجرد منفضة، دار راية للنشر: حيفا، 2011.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى