الاثنين ١٦ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٦
بقلم هند فايز أبوالعينين

ثورة الحجاب العربية

آلمني أن أقرأ أن أحد بني أمتي من الشعراء، وهو العراقي جميل صدقي الزهاوي ،قال ذات يوم:

مزقي يا ابنة العراق الحجابا
وأسفري فالحياة تبغي انقلابا

كان هذ الشاعر أحد الدعاة لتحرير المرأة.

قبل عامٍ تقريبا زرت تونس الخضراء، وعلمت فيها أن الدولة أسِّست على يد الحبيب بو رقيبة على ثلاثة أعمدة ، كان تحرير المرأة أحدها، وعلمت أيضا أن الحجاب مكروه بين التونسيين، ويعتبرونه من علامات التخلف. وها قد أطل علينا البارحة وزير الخارجية التونسي ليحذر من ظاهرة انتشار الحجاب بين النساء التونسيات، وهو ما اعتبرَه أمرا دخيلا على ثقافتهم!

لا أعرف من أين أتى الرابط بين أن تتحجب المرأة وأن تعدّ متخلفة ؟

الشاعر العراقي الزهاوي قال أن تمزيق الحجاب هو الانقلاب الذي تعوزه العراق، وقال ذلك في بداية هذا القرن، في سني الاستعمار البريطاني لبلاده. وعندما حرر بو رقيبة تونس من أيدي الفرنسيين، جعل تحرير المرأة " من الحجاب على ما يبدو " أحد أسس الدولة الحرة. فهل هناك رابطٌ حقيقي بين حرية الدول العربية وتمزيق أحجبة نسائها؟ أم أن مقاطعة الحجاب هي الراية التي تعلن الأمم بها الثورة على كل ما هو قديم، وبدءَ حقبة جديدة من التطوير؟

سأثبت لهؤلاء أنهم مخطؤون.

في حياة المرأة العادية، يحتل المظهر المحور الأساسي في قدرتها على اجتذاب الأنظار. ولأن أعرافنا العربية تعدّ الأنثى لأن تشغل مكانة الزوجة من سن الطفولة، فإن تربية الطفلة تختلف عن تربية الطفل الذكر في أنها تركز على جمال المظهر حتى تستطيع أن تجتذب لنفسها الإعجاب. فنعلّم البنت كيف تزهو بجمالها، وتسرح شعرها وترتدي ألوانا متناسقة، وكيف أن كل شيءٍ فيها يجب أن يبدو للناظرين جميلا، حتى تلقى استحسانهم. ثم ترى أن الوالدين لطفلة جميلة يزهوان بها أيضا، في حين أن من رزقه الله بنتا قبيحة تراه يخفيها عن الأنظار حتى لاتصبح محط شفقة. حتى الدمى التي تلعب بها البنات يجب أن تكون جميلة جدا لتحاكي ما يجب أن تكون البنت عليه.

عندما تكبر البنت في هذه الهالة من التركيز على الجمال والمظهر، ينمو عندها حب الظهور الأنثوي. فتختال كل جميلةٍ بجمالها. ويصبح من السهل على البنت أن تنقاد وراء الصرعات المستوردة واتباع الموضات العالمية وتقليد من اتخذهن العالم رمزا للجمال في كل ما هو جديد وملفت للأنظار. هذا فضلا عن أن هذه الدوامة المنتشرة بين بنات بلدها ستمنعها من التوقف للتأمل في ما إذا كان ما تفعله صوابا. فتعمى عيونها عن أي أبعاد لأسلوب الحياة هذا غير البعد الظاهر لها، وهو أنها تستطيع أن تلفت الانتباه والإعجاب إليها، وما دامت كذلك فلا شيء آخر يهم.

إلا أن الفتاة التي تقرر أن ترتدي الحجاب، رغما عن نظرة التخلف السائدة ورغما عن دوّامة التركيز على فوقية المظهر الأنثوي الجذاب، لا تصل إلى هذ القرار إلا بعد أن تسمو بفكرها فوق كل ما هو حسيّ ومحيطٌ بها. أي أنها يجب أن تتفكر مليّا فيما العالم عليه اليوم وما سيؤول إليه بسبب استغلاله لصورة المرأة على أنها مجرد جسدٍ يشتهى. وهذا يعني أن المرأة التي تصل إلى هذا القرار بملىء إرادتها، وليس إملاءً عليها من قبل المجتمع، ليست إمرأة عادية الذكاء والبصيرة، بل هي امرأة تستطيع أن تتفوق بفكرها على كل المؤثرات المحيطة بها إلى أن تصل إلى قناعاتها الشخصية حول ماهية الأشياء ودوافعها.

كما أن المرأة التي تقرر اعتناق الحجاب تبيع ما هو عاجلٌ وجميل بما هو آجلٌ وعظيم. فمن أجمل الأشياء في حياة البنت أن تختال بقوامها وأنوثتها وتفاخر بنات جنسها بمظهرها، لكن إن وصلت إلى حكمة أن تبيع هذا بعظمة ثوابٍ تؤمن به رغم بعده عنها، فهذا يدل على أنها بلغت جمال الروح وسموّها.

يقول علماء الاجتماع أن من أصعب الأشياء هو خلق تغيير في مجتمع نشأ على معتقدٍ وعرفٍ سائد، وهو ما ألمح إليه المفكر الفرنسي جان جاك روسو في كتابه " العقد الاجتماعي". ذلك أن من طبيعة الإنسان عموما رفض كل ما هو جديد في بداية ظهوره. ويأخذ الرفض أشكالا كثيرة، منها ما هو فردي ، كالسخرية وإطلاق النكات وتوجيه النظرات المحقّرة. ومنها ما هو جماعيّ موجَّه، كرفض استقبال التغيير في التجمعات ، وخلق التكتلات المحاربة لهذا التغيير، سواء أكانت تكتلات بطابع سياسي كالآحزاب السياسية ،أو الاجتماعي كالنوادي والجمعيات التي ترفض التعامل مع أصحاب مبدأ معين. إلا أن في مسألة الحجاب واعتناقه، فإن الرفض الجماعي لاعتناق المرأة الحجاب قد يأخذ مناحٍ غير معلنة ، خصوصا في الدول التي ترفع شعارات الديموقراطية وحرية الفرد. فتجد مثلا أن من أصعب الأمور على الفتاة المحجبة أن تجد عملا محترما يعكس مؤهلها العلمي وقدرتها على العطاء المهني، ذلك أن المؤسسات الكبيرة في هذه الدول تستخدم الفتيات العاملات كعامل جذب في مكاتبها، كنوع من الديكور! وهو في اعتقادي من أكبر الإساءات الموجّهة لصورة المرأة. ثم أن الموظفة التي تختار لبس الحجاب وهي على رأس عملها في وظيفة ما قد تجابَه بتغيير في التعامل من قبل رؤسائها، وتحيزات واضحة من قبل إدارة العمل، علما بأن أداءها المهني لايختلف باختلاف الزي الذي تلبسه أثناء العمل، لكن ربما لم تعد تخدم ما وُظّفت لأجله أصلا.. أقول ربما؟

وعلم المرأة بكل هذا وهي على وشك أخذ هذا القرار، يعني أنها تؤمن بأن ما تصبو إليه بأن ترتدي الحجاب هو أكبر وأثمن من احترام ٍ سطحي يوليه إياها مجتمعها، أي أنها ترى أن المكاسب بعيدة المنال تستحق هكذا معركة في حياتها. ومجددا أقول أن من تنوي على مواجهة المجتمع لقناعة وصلت إليها منفردة ً هي إنسانة ٌ متفوقة بفكرها وعقلها.

في أوائل النصف الثاني من القرن الماضي، كان ارتداء الحجاب يعتبر نشازا عن المجتمع، ذلك أن الدول العربية جميعها كانت تحت تأثير الاستقلال الحديث، حين كانت لا تزال بعض الأنماط الاجتماعية المنقولة إليها من المستعمرين تغلب على سمات مجتمعاتها. فكانت الثياب النسائية تحاكي موضات الأوروبيات في القصر وشح القماش. أما في العقدين الأخيرين من القرن، فأصبح ارتداء الحجاب يسم الفتاة بالانتماء إلى الطبقات الفقيرة في المجتمع، وهو من مظاهر بداية رفض التغيير.أذكر أن لبس الحجاب في الثمانينات في عمّان كان يعدّ عيبا اجتماعيا، إذ يُعتقد أن الفتاة تنتمي إلى العائلات القروية أو البدوية إن كانت محجبة. كما أن في تلك الفترة كان صعبا جدا على المحجبة أن تجد ما ترتديه في الأسواق، لأن المحلات كلها كانت تعرض ملابس لا تليق بتغطية الجسد كاملا. أما خلال العقد الحالي فإنك تجد أن سائقات السيارات الفارهة في العاصمة الأردنية هن من البنات المحجبات كما أن سلاسل متعددة من المحال التجارية المتخصصة في اللباس الشرعي أصبحت تملأ الأسواق، وراجت تجارتها بشكل ملحوظ. علما بأن مبدأ فرض الحجاب مرفوض بين العائلات الثرية. ذلك لأن التباهي بالممتلكات الثمينة لايزال شريعة الطبقات الأرستقراطية في كل المجتمعات، ولن يقف ذلك عند اقتناء الملابس الأروبية قسرا.

وما ذكرته هنا من حيث الانتشار الطوعي لاعتناق الحجاب ليس ظاهرة تخص دولة عربية بحد ذاتها، بل تجدها تعم الدول العربية جميعها. ففي مصر زادت نسبة المحجبات بأضعاف ما كانت عليه في الستينات ، وكذلك في سوريا، وفي غيرهما. وهذا ليس نتيجة لقوى طائفية متوغلة في المجتمع، كما يقول الوزير التونسي هداه الله ، بل هو في رأيي نتيجةٌ طبيعيةٌ لأمرين اثنين: ألا وهما تعليم المرأة ومنحها حرية الاختيار

.

نعم، إن المرأة إن تعلمت فسوف تعرف كيف تتعمق في الفكر والتأمل، وما أن تتعلم المرأة كيف تتوغل بفكرها في ألباب الأمور حتى تجد نفسها تلامس تلك الفطرة الجميلة التي فطرنا عليها الخالق، وهي حبّ الستر. وبما أنها حرة فيما تختار فستختار الحجاب بملىء إرادتها، رغما عن أية عقود اجتماعية، بل ستحطمها وتبني عقودا جديدة.

أما أولئك الذين يربطون بين التقدم وتمزيق الحجاب، فما عليهم إلا أن يعودوا بالمرأة إلى العصور الجاهلية حيث لا تعليم ولا حرية، وليسموه تقدماً عندئذٍ إن شاؤوا، ما دام يخدم أغراضهم.

إن قمة التخلف الذي نحن بحاجةٍ حقـّة لأن نتحرر منه هو إغماضنا أعيننا عن الطريق على أمل أن نلحق بالجزرة المعلقة لنا. أما آن الأوان للعرب أن يتأملوا في ألباب الأمور؟

15/10/2006


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى