الأربعاء ٥ نيسان (أبريل) ٢٠٢٣
بقلم الهادي عرجون

«أصوات بلا مأوى» لآمال جبارة

منذ قراءتي الأولى لمجموعتها الشعرية (أصوات بلا مأوى) بحثت عن سيرة الشاعرة التي تقوم بفتح أبواب قصائدها للحلم وهي تباغت الكلمة وتعجن طين مفرداتها لتتشكل اللغة طرية سلسة تفضح المعنى وتريق نهر الشعر فينساب كزخات مطر لتطوق مملكة شعرها بهالة من الإبداع وترسم حدود مملكتها حين تخاتل بعثرة الخطوات وحشرجة المسافة لتختزل الشعر، وتنظم طوابير اللغة بعناية شاهقة، تنظف الجمل من الشوائب بغسول المجاز وترتب الصور في خزائن المعنى، وهو ما جعلني أبحث –كما قلت- في سيرتها التي اكتشفت من خلالها أن للشاعرة مجموعتين سابقتين (ألق الكلمات) و(نصفي سماء) ليكون الشعر بوابة سفرها و نبض احساسها تنفض من خلاله غبار المألوف عن الفكرة وتطرز العبارة بعقيق الإيحاء من خلال مولودها الجديد الذي اختارت له من الأسماء (أصوات بلا مأوى).

حيث نلاحظ من خلال مسار نصوصها أن المجموعة الشعرية (أصوات بلا مأوى) تقوم على تجميع مفردات لغتها الشعرية لتبوح بأسرار الأشياء التي حولها، لتستنطق المشاعر والأحاسيس التي تريد بثها للمتلقي من خلال صور مختلفة مغايرة للمألوف، فالشاعرة تبدأ صفحات كتابها وهي ترسم جغرافية مرور القارئ عبر ثنايا النّصّ من خلال عناوين فرعية تحدد ماهية محتوى كل جزء من أجزاء المجموعة، (الفكرة وثابة والمدى يضيق-أعتذر للحقيقة عما تقوله الحياة-الوقت يذرف الحقيقة-كنت لفرط القصيدة أضيع الكلام).

فالكتابة معها تأخذ قياسات أخرى وألوانا مغايرة لرؤية وجودية فلسفية تجمع مفردات اللغة التي تبدو من خلال بوحها طينة لينة تشكلها كيفما تشاء، لتبوح بأسرار الأشياء وتستنطق المشاعر والأحاسيس التي تريد بثها للمتلقي من خلال صور مغايرة للمألوف.

"فكرتي نحيلة كحائط لا يتسلقه ضوء
وملامحي منطفئة تذرف الخجل
ليرسم الكحل خرائط الحزن في العالم
روحي كماء يسلك منحدرات لا تعترضه...
لغتي أكثر هشاشة من قصة حب بدأت وقت الحرب
وصوتي أكبر من البلاد"(ص27).

كما تحاول أن تخلق عالما خاصّا بها ولغة بدايتها اللاّوعي ونهايتها اللاّوعي لتعيش في خيال لنصوصها وغرائب صورها، فالشاعرة تعتبر الشّعر تخييل أبديّ وإبحار في اللاّوعي. وبذلك يحقّ للشاعرة وللإنسان عموما أن يعيش في الخيال كما يشير إلى ذلك جون جاك روسو بقوله: "أن تخلق بقوّة الذّات وسلطانها أمورا ليس لها وجود ويضعها في منزلة أعلى من كلّ ما هو موجود". لتخاطب الأشياء وأنسنتها فلا هي تبتعد عن التّلميح والإيحاء وأساليب الإخفاء ولا هي تفضح المعنى وتكشف جسد الكلمات لتجد الارتواء وتطفئ حرائق الرّوح والجسد والشعر. ويظهر ذلك في قولها (ص10):

"عديدة هي الشاعرة
تنظم طوابير اللغة بعناية شاهقة
تنظف الجمل من الشوائب بغاسول المجاز
ترتب الصور في خزائن المعنى
تطهو وجبة سريعة بنكهة الإيجاز
تنفض غبار المألوف عن الفكرة
تطرز العبارة بعقيق الإيحاء"

ومن خلال هذا الإيجاز والإيحاء تقوم الشاعرة في مجموعتها الشعرية على مبدأ "أنسنة الأشياء" حيث تعمل على الدخول في عالم الأشياء واستنطاقها استنطاق أفعال، فتجعل الأشياء تتكلم وتعبر عن مشاعرها وتتحدث بماهيتها. حين تقول (ص15):

"أريد أن أصنع تمثالا أسند إليه رأسي عندما تثقله الفكرة
ويصبح التأويل أسرع من الصوت
أسمع طقطقة عظامها/ الفكرة
الأفق يشد حزامه جيدا كلما راودني الطيران
واللغة تتلهى عني بالاحتطاب في بلاد مجاورة
أكثر فقرا من مدينة الشعراء"

فالأنسنة في الشعر هي التوجه إلى الآخر المغاير للإنسان، وعقلنته، وإضفاء صفات الإنسان على غير الإنسان، وقد استخدم مصطلح الأنسنة في الدراسات العربية الحديثة وتوضيحه على أنه رؤية الشاعر الأشياء رؤية تحمل صفات بشرية، "صفات إنسانية محددة على الأمكنة، والحيوانات، والطيور، والأشياء، والظواهر الطبيعية حيث يشكلها تشكيلا إنسانيا، ويجعلها كأي إنسان، تتحرك، وتحس، وتعبر، وتتعاطف، وتقسو حسب الموقف الذي أنسنت من أجله"(1).

ولقد اتخذتها الشاعرة لصياغة مشاعرها ومكنوناتها النفسية، وهو ما يجعل أنسنة الظواهر الطبيعية والموجودات صلة رمزية بحالة الشاعرة النفسية. ويظهر ذلك جليا في قولها " (ص19):

"تندلع الحمى مع كل فكرة
وتتخثر الأسئلة حد الإغماء
اللغة كانت هناك تراقب النبض
وتجفف العرق المتصبب بسبب عسر المجاز"

وبهذه الأنسنة ترقى الشاعرة بالأشياء إلى المستوى البشري بما يتلاءم مع حالتها النفسية فالشاعر عموما هو الأقدر على إضفاء الداخل بتناقضاته على الخارج بجموده وأشيائه ليندمج معها بالإضافة إلى تفعيل التواصل لتخلق عالما من الألفة بين أجزاء الكون وما يحيط به.

"حين أسر له القمر ذات حزن أن اركب الغيب
ولا تخش الغرق...
كان كل شيء ينبئ بالرحيل
.........................
كاد يعتذر لحلاوة الحلم عن ملوحة البحر"(ص56)

فحدائق الشعر مفتوحة ومزدانة بالجمال الذي لا يشبع عين الانسان يجلس على حافة نهرها لالتقاط الاجمل الذي يعبر عن رغبات الذات الشاعرة التي تنير بفانوس كلماتها طريق الجمال وتصبغ بألوان الجمال صورا للبوح.
ولقد وشحت الشاعرة قصائدها بصور فيها الكثير من الجماليّة والغموض رسمتها بريشتها واستقت لنا جملا شعريّة غير مألوفة لتكسر الحواجز وتجمع مفردات اللغة وتبوح بأسرار الأشياء وتستنطق المشاعر والأحاسيس التي تريد بثها للمتلقي من خلال صور مغايرة للمألوف وتفضح المكنون بلغة فيها ثورة على عالمها تبتغي الرّحيل عنه نحو عوالم أخرى تتوفّر بها مساحات من الحريّة والانعتاق.

"حين كبرت لم تعد الأرض تتسع لي
ولم تعد أحلامي تجد طريق الجدوى
زرعت ريشا على رأسي وطرت
.........
ثمة مطبات وحواجز في الفضاء تعيق رفرفة الأجنحة
ثمة هبوب يدير الفكرة ويبعث بريش الانعتاق
ثمة جدران أيضا"(ص59)

فلا يغرنك صمت الشاعرة حين تحول ضجيج لغتها لينطلق البوح شعرا يغري أسئلة الأنا والآخر لتكسّر بذلك حاجز اللغة والصّمت ويصبح اللّفظ معبّرا عن حوار عميق بين الذات الانسانية والأشياء التي تحيط به لتؤسس بذلك الشاعرة كيانا شعريا وأسلوبا في الكتابة مميز.

لنقرأ ما تقاطر من عسل الكلمات فنحس فيها رنة حزن وألق وقلق يسيطر على الأشياء التي لم تكن صامتة بل معبرة عن نفسية الشاعرة التي لا هدوء فيها ولا سكينة، لأن الشاعرة استطاعت أن تبث الحياة في أوصال تلك الأشياء.

"رفعت راية الانكسار...سمعت وجعا في النشيد
القلب يريد..............
وأخشى أن تنفجر الرصاصات في صدر الشمس
وأن تترك (حـ)ــاء الحنين (قــ)ـاف القصيد"(ص66)

كما أننا نحس عندما نقرأ نصوص الشاعرة آمال جبارة بعنصر المفاجأة في الصور التي تنتقيها، لتغدو لوحات فنية نابعة من إحساسها الشامل بالكون وما يحيط بها من أشياء، وهذا التصوير الدقيق والصورة الشعرية الجميلة ينبع أيضا من تأمل عميق وصفاء ذهنها الذي يثير في الموجودات والأشياء روح الإنسانية وكأنها رؤى حالمة تنشر صورا شعرية جد مبتكرة لم تتناول الظاهر من الأشياء بل تناولت الداخل من خلال تناول النفس وأحاسيسها لتظهر روح التأمل مع روعة التخييل.

"المسافات تفقد وعيها
هذا يرهق قدمي...لكنه
يمضي بي إلى نضج ما..."(ص76)

كما يمكن القول أن الشاعرة قد اعتمدت في أسلوبها على الكتابة التّجريبيّة حيث جرّتنا دون وعي منا إلى عالمها لتنير لنا بعبق كلماتها، وترشدنا طريق العبور من مضيق الكتابة المألوفة إلى فسحة من الكتابة تعتمد فيها أسلوبا جديدا متفردا، مزجت فيه بين خوالج الذات الشاعرة وهمس الواقع المعيش معتمدة على استنطاق الأشياء الذي اختارتها ملاذا لتبحر سفينة الشعر وترسي في موانئ المعنى.

"تعلق مقاصدها في الدولاب الدهشة
تسدل ستائر الغموض لتوقد شموع التأويل
أحيانا تضع موسيقى البحور
تراقص الكون بشغف أنثوي
يصير البيت مرتبا كسمفونية تنتظر
ذاتها في محطة بنزين"(ص11).

كذلك لا ننسى ان هذه الأشياء المستنطقة تتلاقح في مجالاتها الفكرية لتجعل للذات الشاعرة رؤية انسيابية في أنسنة الاشياء التي تستخدمها بدقة متناهية حد التلازم الفكري للوصول لمبتغاها الذي استنطقت من أجله وجعلت له روحا انسانية تتحدث بقدرة البشر.

وفي الختام يمكن القول أن اعتماد الأنسنة في شعر آمال جبارة مرده الصلة القائمة بينها وما حولها، وهو ما يجعلها ترفع بها غير البشري إلى مستوى البشري العاقل، حين تكسبه صفات إنسانية ومشاعر إنسانية خارجة عنه لتكشف عمق الكلام الشعري المرتبط أساسا بأحاسيس الشاعرة في أغلب الأحيان رغم رمزيته في الكثير من المواضع. وع ذلك فهذه الأنسنة لها قدرة على تفريج هموم النفس ببعث الأمل والتفاؤل لدى الشاعرة التي اتخذتها أدوات فنية لصياغة مشاعرها ومكنوناتها النفسية.

مرشد أحمد، أنسنة المكان في روايات عبد الرحمان منيف، ص7.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى