الأربعاء ٥ تموز (يوليو) ٢٠٢٣
بقلم الهادي عرجون

سخرية الأحلام والمتاهات ونقد الواقع

من خلال المجموعة الشعرية (على يأس وأضحك) للشاعر يوسف خديم الله نموذجا

ما قبل القول:

"يتأزم الزمن فتصفو الكلمة.
يتأزم الزمن والكلمة فماذا يصفو؟
لنقل: الجوهر.
لنقل ذلك رغم ما يجول". (1)

وأنت تجمع ما تناثر من شِعرك كقطع البازل منذ ما يزيد عن ربع قرن، لتفصح عن الجمر الذي تخبئه بصدرك، وأنت تستنطق الكلمات ليولد من رحم الصمت أطيافا شعرية في شكل مرايا تعكس صورة الواقع المعيش، وأنت تطرح بردتك الملطخة بجرحك لتستر جرح العالم، وتنزوي بكرسيك شطر قصيدة النثر تراقب مارد الشعر وهو يتخبط بين أناملك، لترغمه على زرع أزهار متنوعة من قصيدة النثر، لتجعل من نصك عميقا مرنا يجمع بين البساطة والعمق، لنكتشف الجوهر الإبداعي في شعرك بوصفه تجربة عيش وصراع، إنه الشاعر يوسف خديم الله، شاعر استثنائيّ عابر للأجيال، وليس من باب الصدفة أن يصف الشاعر نفسه بأنه شاعر سابق، "شاعرٌ سابقٌ*، سبقتُ زملائي، اللاّحقين أيضا، إلى قلمِ الرّقيبِ، ذلكَ القارئ المتعجّل لشاعرٍ متمهّل، مثلي!"(هواء سيء السمعة). من خلال نصوص متفرّدة قائمة على التمرد والسّخرية من الواقع والعالم، همها رصد التفاصيل ودقائق الأمور، فكانت في نزوع إلى التّكثيف بعيدة عن الحشو المصطنع، فبدت التفاصيل جلية كالوشم في ظاهر اليد.

نعم، هو شاعر سبق جيله من ناحية التميز والتفرد وإثارة الكلمة واغتصاب اللغة العصية التي يطوعها كما تشتهي أفكاره، فهو ضرب من السبق والنبوءة، "فالناس يتكلمون عن الشعر بأنه أسلوب سلس ومشحون، مع العلم أنه في نظري خطأ لأن الشعر لابد أن يكون مهما وله مغزى، فواقع الشعر إما أن يكون حيا أو ميتا، وليس أن يكون الأسلوب سلسا أو مشحونا وهذا يعتمد على براعة الشاعر"(2). وهو ما جعل الشاعر يوسف خديم الله يخرج بنا من عتبة القصيدة الشعرية المتعارف عليها بكل مميزاتها إلى عتبات نصوص شعرية منفتحة على الواقع بأنماط مختلفة تعبر عن رؤية جديدة ومختلفة عن سابقاتها عنوانها التفرد.

ليطل علينا بمجموعته الشعرية الثالثة (على يأس، وأضحك) عن دار "الشّنفرى للنشر والتوزيع" بتونس، بغلافٍ صمّمه الفنان السوري "رامي شعبو" بينما جاءت لوحة الغلاف للفنان "برهم حجو". والتي ضمّت بين طياتها أكثر من خمسين قصيدة، وقعت في 160صفحة.

فأنت عندما تقتفي أثر النصوص توقفك العناوين، فالشّاعر لا يترك شيئا للصّدفة أبدًا، ليرسم جغرافية مرور القارئ عبر ثنايا النّصّ، فالشّعر حالة طارئة على اللّغة، تفقدها صوابها وتقترب بها من حالة اللاّوعي، لننطلق من عتبة العنوان فعناوين الكتب عند الشاعر يوسف خديم الله لها ميزة وتفرد ودلالات فليس من باب العنونة الاعتيادية بقدر ما فيها نظرة وتمحيص واختزال للمضامين في جملة أو عبارة موجزة، تعكس حروفها ومعانيها على صفحات الديوان رغم ما فيها من ترميز وتجريد بما تحمله من قبسات يحاول القارئ أن يأخذ جذوة منها ليفك شفرتها وينير مسالك نصوصه.

(على يأس، وأضحك) فالضحك لا يقتضي غياب المشكلات والأوجاع والهموم. والضحك كذلك لا يعني أننا صرنا بلا مشاكل نعيش في مدينة فاضلة. إنه دعوة لتفريغ التوتر والاحتقان، دعوة للتحرر من العبء الضاغط على أرواحنا، لنغدو أكثر خفة، وتغدو الحياة بلحظاتها المتصدعة أكثر احتمالا وألفة. نعم صديقي يوسف فلنضحك مهما أصرّت بلادنا وحكوماتنا المتعاقبة على أن تحول بيننا وبين معانقة الابتسامة واقتراف الفرح. وقد عالج العديد من القضايا السياسية والاقتصادية الاجتماعية والثقافية بطريقة ساخرة فيها من العبث والسخرية القاتمة الشيء الكثير، لذلك اختار الشاعر يوسف خديم الله الضحك من النفس وعليها، ليس رضى بل هروبا إيجابيا من جنونها وهلوستها. فالضحك سلاحنا ضد اختناق الروح وعبء تكاليف الحياة.

"أما أنا، فبقيت مثابرا:
على يأس/
وأضحك."(112).

فالكلام عن الضحك الحزين كثيرًا ما نقرأه، حيث أن الضحك أصبح قناع يرتديه الكثير لعدم كشف ما يوجد بداخلهم وراء هذا القناع، لنخفي بها ما بداخلنا من أحزان وأوجاع تحدث لنا، هل الضحك الكثير يخفي وراءه حزن أكبر؟ هناك عبارة تقول اضحك بقدر ما تستطيع فالضحك علاج رخيص الثمن. لكن الحقيقة المؤلمة أن خلف ضحكته وهو على يأس وقلق، ألم وحزن، وهو يرفض أن يظهرهم رغم حزنه، حتى لا ينقل أحزانه لمن حوله، ويظهر ذلك في قوله كأنه يخاطب القارئ:

"اقرأ،
ثم امح ما كتبت،
بيأس.
(بيأس، كمن يتنفس لا غير)."(ص28).

فليس من الغريب أن يلتحف الغموض نصوص مجموعته الشعرية (على يأسٍ، وأضحك) من ناحية الأساليب والتّراكيب، بل يتجاوزها إلى مستوى المضامين والمعاني. كما يمارس سخريته الخاصة، من خلال بعض النصوص الأخرى التي ترصد ظواهر اجتماعية تعريها وتفضح سلبياتها، فهو يؤمن بالتعبير بقدر إيمانه بالتلميح بما أن الكلمات هي رموز لذكريات، ربما تكون مشتركة بين الباث والمتقبل، وهو ما يجعل القارئ متيقظا ومستعدا للتخيل حين يتصفح ديوانه. ليخلق عالما خاصّا به ولغة بدايتها اللاّوعي ونهايتها اللاّوعي وبذلك يحقّ للإنسان أن يعيش في الخيال كما يشير إلى ذلك جون جاك روسو حين قال "أن تخلق بقوّة الذّات وسلطانها أمورا ليس لها وجود ويضعها في منزلة أعلى من كلّ ما هو موجود".

لتطفو على سطح النص مجموعة من الإشارات مردها النقد والسخرية ليقول أشياء في شكل أمثال وحكم وشخصيات وظفها لخدمة النص ولإرسال قبسات من الضوء ليقول أشياء كثيرة بكلمات قليلة فيها الكثير من النقد، والسخرية من الواقع ومن الحياة، ويظهر ذلك من خلال قوله مثلا: (ص: 18)

"هو يعطي لقيصر،
ما لقيصر.
صحيح أنه...لا يأخذ منه شيئا، غير أن الأمر أقصر:
هو لا يحب القياصرة أصلا"

وهو إشارة لسؤال يسوع بقوله عندما آتوه بِدِينَارٍ لينظرَهُ«. فَأَتَوْا بِهِ. لِمَنْ هذِهِ الصُّورَةُ وَالْكِتَابَةُ؟« فَقَالُوا لَهُ: »لِقَيْصَرَ«. فَأَجَابَ يَسُوعُ: »أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لِلّهِ لِلّهِ«. فَتَعَجَّبُوا مِنْهُ« (12-17).

كما نجد إشارات أخرى فيها تناص مع مقولة الإمام الشافعي -رحمة الله عليه-، حينما أغضبه أحد الأشخاص الحاقدين عليه، فرد عليه الإمام الشافعي بأبيات من الشعر،

"قل ما شئت بمسبتي ... فسكوتي عن اللئيم هو الجواب
لست عديم الرد لكن... ما من أسد يجيب على الكــــلاب"
عندما يقول: (ص:14):
"هو لا يسير في ...
قافلة تسير.
فلم نبحت كلاب،
كلما توقف أيضا"

والتي قصد من خلالها الإمام الشافعي، أنه لا يوجد مانع بأن يقوم الحاقدون بسب الناجحين، لأنهم في نهاية الأمر، هم أعداء النجاح، كما يرى أن عدم الرد عليهم هو أفضل جواب، لأنهم لا شيء، فحديثهم مثل عواء الكلاب، لن تؤثر في مسيرة نجاح وتفوق الناجحون، ومن هنا جاءت مقولة "القافلة تسير والكلاب تعوي".

ويشير الإمام بأن السكوت ليس ضعفا، لكن لا يوجد أسد يرد على نبح كلب، الذي هو أقل منه شأنا ومكانة، فالأسد صاحب الكلمة الأولى والأخيرة علاوة على أنه ملك الغابة، وهو من يحرك القافلة كما يشاء، لأنه هو القائد والسيد، كما أن الكلاب ذاتهم من ضمن رعيته، ومنذ ذلك الحين، أصبح الكثيرون يرددون هذا المثل، أمام أعدائهم والحاقدين على نجاحهم.
كما نجد إشارة وتناص مع بيت لأبن الفارض الذي يقول فيه:

فلئن رضيت بها فقد أسعفتني
يا خيبة المسعى إذا لم تسعف

حينما يقول (ص29):

"فيا مسعى الخيبة
كيف سيدرك أن للسعادة، تلك،
كل القلب الأسود، ذاك؟"

كما نجد إشارة للمتنبي الذي يقال عنه بأنه "شاعر ملآ الدنيا وشغل الناس" بقوله: (ص16 ):

"أما الدنيا، فلا تمتلئ به.
والناس،
لا يشغلهم.
فكيف مسه الدنس إذن؟
كيف؟"

بالإضافة إلى الحديث عن (شعرة معاوية) التي يضرب بها المثل في التعامل مع الناس ومداراتهم وأخذهم بالحكمة والحنكة، فيقول المرء متمثلا بها: «اجعل بينك وبينهم شعرة معاوية»، وقد أشار إلى ذلك بقوله: (78):

"الأفضل إذن، في أرض صلعاء كهذه،
أن أكف عن ري شعرة معاوية،
بينهم،
وأن أزرع شعري،
في رأسي فقط"

حيث يقال إن أعرابيا سأل معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه-: كيف حكمت الشام أربعين سنة ولم تحدث فتنة والدنيا تغلي؟ فقال معاوية: إني لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، كانوا إذا مدوها أرخيتها، وإذا أرخوها مددتها.

كما نجد إشارة إلى قولة قالها الحجاج ببن يوسف في خطبته الشهيرة في الكوفة أول ولايته على العراق: إني أرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها، وإني لأرى الدم يترقرق بين العمائم واللحى. عندما يقول: (ص 82):

"لأني أرى رؤوسا قد حان ...
...ولا قطافها،
فإنني أشرب/
أشرب كل يوم، قليلا،
لأرى أمامي الأحمر لا غير..."

مع العلم أن هذه الإشارات فيها الكثير من اللعب على الألفاظ والمعاني كان المراد منها السخرية تارة والنقد تارة أخرى.
كما نجد إشارة إلى حوار دار بين "كسرى أنو شروان" وفلاح عجوز شاب رأسه، وغارت عيناه، ووهنت قواه، وتقوس ظهره، وكان يغرس فسيلاً فقال له:

يا هذا كم أتى عليك من العمر؟

قال العجوز: ثمانون سنة.

قال الملك: أفتغرس فسيلاً بعد الثمانين؟ ومتى تأكل ثمره وهو لا يثمر إلا بعد عدة سنين؟

فأجاب الفلاح: زرعوا فأكلنا ونزرع فيأكلون!

"الأوغاد...
أنا أزرع، (لهم).
وهم يحصدونني، (لغيرهم)." (ص123)

كما تحيلنا هذه الإشارة إلى معنى آخر يمكن أن نفهمه من هذا المعنى – إن جاز لنا التأويل-وفيه إشارة إلى أن الشاعر رغم سنوات العمر التي تجري إلا أنه مازال يكتب وينتظر نضوج ثمرات ما يكتب كما أنه يكتب الشعر لتقرأ الأجيال التي ستأتي وكذلك ينطبق الشأن على من سبقونا بالكتابة، كتبوا فقرأنا ونكتب فيقرأ من يأتي بعدنا.

وهذا ما يجعل نصوص يوسف خديم الله نصوص متفردة قائمة على السخرية والنقد ورصد التفاصيل الدقيقة في الوجود كما تنزع تجربته الشعرية إلى التجريد عموما ولكنها لم تكن معزولة عن اليومي والعادي. فالسخرية السوداء هي منجانا من اليأس الذي يصل بالبعض حدّ الانتحار. إنّك حين تضحك، كما يقول الروائي الراحل مؤنس الرزاز صاحب رواية سلطان النوم وزرقاء اليمامة، تدافع عن نفسك وبقائك وتعزز تماسكك وتتفادى انهيارك.

(على يأس وأضحك) بنيت على جملة من الثنائيات و المتضادات (الحياة ≠ الموت، اليأس≠ الأمل، الواقع≠ الحلم) فالحياة قائمة على مجموعة من الثنائيات لا يقوم أحدها إلا لنفي الآخر أو إثباته وفق حتمية تاريخية مرتكزة على مجموعة من الثنائيات والمتضادات وقد استعملها الشاعر للتعبير عن الألم والوجع الذي رافقه وعبر عنه بصورة جلية فهو يحاصرنا بنمطية فرضها على طول المقاطع الشعرية في الديوان، فلا يخلو نص من نصوصه إلا وقد وشحه بسوداوية قاتمة خاصة مع تكرار هذه الكلمات أكثر من مرة، ولكن رغم هذه السوداوية التي تحدثنا عنها إلا أن نصوصه لا يغيب عنها تشبث الشاعر بالحياة، كيف لا، وقد تكررت تيمة (الحياة)، وتيمة (الشاعر)، 15 مرة لكل منهما. وقد اعتمد الشاعر من خلال هذا على جنسنة اللفظ وإعطائه روحا إنسانية وأوصاف أخرى حسية مع تكرار هذه العبارات. ليختار الشاعر من خلالها زمن التجوال والمرور بين فراغات النص وتعرجاته، ويقف عند زخرف القول، لتبزغ الهندسة الروحية التي تنكشف فيها رحلة "الشاعر الذي قضى حياته يحلم بأرض، خضراء للجميع"(ص68).

ليظهر التكرار الذي يعتبر من أبز الظواهر الفنية والأسلوبية التي اعتمدها الشعر الحديث والتي تبين لنا أبعادا دلالية وفنية تحفز المتلقي للنظر والبحث في دلالات القصيدة ومراميها، فالتكرار يعد من الأسس الأسلوبية التي تساهم في تمتين وحدة النص الشعري وتماسكه، بالإضافة إلى أنه مرتبط بالحالة النفسية للشاعر بشكل مباشر، كما تعتبر أحد الأضواء اللاشعورية التي يسلطها الشعر على أعماق الشاعر.

ويظهر أيضا من خلال تكرار الكلمة سواء كانت اسما أو فعلا، في عدة مقاطع شعرية نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر (شيء/ شيء لا يشاء (ص11)، وضع الشاعر يده/ يده التي لم تعد تكتب، (ص25)، فأنا أيضا، أقع/ أقع، في الجب الواحد، مرات كثيرة، (ص44)، أكون أكثر/ أكثر بكثير عندما أكون...وحيدا(ص92) ...) وهو تكرارٌ يُعيدُ اللفظة الواردة في الكلام لإغناء دلالة الألفاظ، وإكسابها قوة، كما يتغير اللفظ المكرر، بزيادة أو نقصان، أو بتقديم أو تأخير، أو تغير المحيط الذي ينزل فيه اللفظ المكرر.

بالإضافة إلى تكرار حرفي (الشين) و(السين)، وهذا التكرار الذي يعتبر "من أبسط أنواع التكرار وأقلّها أهميّة في الدلالة، وقد يلجأ إليه الشاعر بدوافع شعورية، لتعزيز الإيقاع في محاولة منه لمحاكاة الحدث الذي يتناوله، وربما جاء للشاعر عفواً دون قصد" (3). وأمثلة هذا النوع في شعر يوسف خديم الله كثيرة. نذكر منها تكرار حرف السين (199 مرة)، و الذي يمتاز صوته بصفير عال يوحي بنفس قلقة، كما يدل على الحرقة والانحدار والعلو وينسجم هذا مع رؤية الشاعر لما يحيط به من ظلم واستبداد (يأس، سلاح، سوداء، فأس، يسقط، مستاء، مسه الدنس، سهما، قوسه، الأسود، أخسر، يسعل، الأسوأ، سيئا، كسلا، بائسا، يتسلق، عابسا، سجين، يكسرون، مأساة...). حيث يقول في نص (زوفري) ص80:

"صحيح أن بي، ككل صباح، كسلا أرستقراطيا.
غير أنني، أمام قهوتي السوداء،
كلما وضعت ساقا على ساق،
ويدا قي يد،
وأملت رأسي إلى اليسار قليلا،
وطأطأته، أقل،...
ساعتها، بالضبط،
أبدأ في عمل طويل وشاق/
عمل أشرف،
بلا أجر في الدنيا،
وبلا أجر في الآخرة، طبعا"

ففي هذا المقطع الشعري كرّر الشاعر حرف السين وهو حرف مموسق بجرس إيقاعي ترتاح له الأذن. لا يخفی أنّ تكرار الحرف لا يمكن أن يخضع لقواعد نقدية ثابتة، لكن مع هذا فإنّ تكرار الحرف يحقّق أثراً واضحاً في ذهن المتلقّي، يجعله متهيّئاً للدخول إلى عمق النص الشعريّ. وقدرة على تشكيل اللغة وفق رؤية وجدانية تختار ما يناسبها من مفردات، وتوظف طاقتها الانفعالية للتعبير عن أفكار متجددة. ولا ينكر أحد ممن له بصر بالعربية ونصوصها ـ الشعريّة منها والنثرية ـ أن للحرف حال تكراره دلالة ومعنى، كما أن تكرار الحرف يقتضي تكرار حروف بعينها في الكلام، ممّا يعطي الألفاظ التي ترد فيها تلك الحروف أبعاداً تكشف عن حالة الشاعر النفسية.

وكذلك تكراره لحرف الشين(155)، الذي يعني الانتشار، كما أن معناه مأخوذ من طريقة لفظه، أي الطريقة التي يلفظ فيها حرف الشين داخل الفم وهي نشر الهواء داخل الفم ويطلق هذا الحرف على كل شيء مادي أو حسي ينتشر ويتشعب، وكذلك على الأشياء التي تنشر شيئًا ما أو تبث الانتشار، ويظهر ذلك من خلال بعض الكلمات مثل (عشب، وشاية، شمس، شجرة، شهوة، يشعر، الشعر، شتى، شعيري، الشعراء، شيئا، عاشق...)، كما أن حرف(الشين) يتسق مع دلالة العشق، حتى ولو كان في حب سيجارة، حيث يقول في نص:(...وهذا حب أيضا) ص59:

"هو لم يلتق بها،
(كعاشق)
هي لم تلتق به،
(كعاشقة)
هو لم يقل لها: (سره)
هي لم تقل له: (شرها)
هو لم يقبلها (بلهفة)
هي لم تقبله، (بلهفتين)
......................."

لأن العشق حالة من الحالات التي تتلبس الإنسان على جميع مستوياته (فزيائيا، وسيكولوجيا) وهو أمر يناسبه حرف الشين، لما له من خصيصة الانتشاء والتفشي، كما أنه صوت احتكاكي، ويلعب تكرار الحرف دورا كبيرا في منح النص الشعري ايقاعه الخاص الذي يعكس الحس النفسي والأفكار داخل الذات التي ينبعث منها هذا الإيقاع، وهو أمر يسعف الشاعر في إحداث مزيد من التفريغ الانفعالي، وهو أمر غاية في الراحة لنفس الشاعر. إذ يجسد حرف الشين حس الشاعر الانفعالي في صراعه مع الذات والآخر، حيث يقول (ص11):

"هو لا يريد شيئا.
فهو في غالب الأحيان، شيء/
شيء، لا يشاء."

إنه تكرار فني، يستدعي التأويل، سواء كانت انفعالات الشاعر التي نحس بها من خلال تصاعد المؤثر الدرامي أو من خلال استجابتنا كقراء، حيث تكون ذات المتلقي متوازية مع ذات الشاعر، لتتحقق المشاركة بينهما في الوصول إلى مدلولات التكرار في النص الشعري. فالتكرار في الشعر الحديث يهدف لاستكشاف المشاعر الدفينة و تبين الدلالات الداخلية للنص كما يعد أحد المسالك المؤدية بالضرورة إلى إفراغ المشاعر المكبوتة والذي جاءت في سياق شعوري حزين، وهو رغم تنوعه لم يأت عشوائيا ولكنه جاء لإثراء القصيدة إيقاعيا وكذلك لإثارة المعنى بتراكيب جديدة لم تكن دارجة أو شائعة الاستعمال في الشعر الحديث.

فشعره يبدو فيه نوع من الاختلاف عن بقية الشعراء، فالشاعر يوسف خديم الله يشتغل على الاستعارات، مع العلم أن هذه الاستعارات لا تعني الإيمان بها بل تكمن أهميتها في استجابتها الانفعالية العاطفية والفكرية. فالوضوح في الشعر لن يؤدي سوى إلى تعطيل فعل القراءة ولذة الدهشة والتواصل مع النص، أما الغموض والرمز فيحث القارئ ليسحب مقعدا وثيرا ويسترخي متأملا الشاعر في أفكاره وتأملاته. يقول خورخي بورخيس:"فإذا كان علي، على سبيل المثال، أن أعرف الشعر، وليس لدي الشعر كله، وكنت أشعر بأنني غير متأكد، فإنني سأقول شيئا من نوع: "الشعر هو التعبير عن الجمال بكلمات محبوكة بصورة فنية". يمكن لهذا التعريف أن ينفع في معجم أو في كتاب تعليمي، أما نحن فيبدو لنا قليل الإقناع. فهناك شيء أكثر أهمية بكثير... شيء لا يشجعنا فقط على مواصلة تجريب الشعر، وانما الاستمتاع به كذلك والإحساس بأننا نعرف كل شيء عنه"(4).

ليثير قلق القارئ وفضوله بإثارته واستفزازه، على الرغم من أنه لا يؤمن بخرق المعيار الذي لا يستدعي الآخر، كذات واعية. وهو بذلك ينتهج منهج رولان بارت بهذا الخصوص بقوله: " لذة النص، هي اللحظة التي يتبع فيها جسدي أفكاره الخاصة، لأن للجسد أفكارا ليست كأفكاري " في كتابه (لذة النص)، الذي يستدرج من خلاله مفهوم القراءة، إلى لعبة الإغراء، فالقارئ عندما يقرأ عملا إبداعيا ما، ويستشعر في ذلك نوعا من اللذة، فلأن هذا العمل كان قد كتب بتلذذ، فالشاعر هنا يستدعي قارئه ليراوده عن نفسه عبر جدلية الخفاء والتجلي.

"وإن كنت، بلا نفيس، سوى نفسي.
وإن كنت لا أراهم في...مأساة،
ولا يرونني في...ملهاة.
فهم، في حصونهم، يخشونني/ يخشونني،
والحال أنني ذئب لنفسي... فقط"(ص131).

وهذا الأسلوب الذي يعتمده من شأنه أن يفاجئ القارئ ويصدمه، الشيء الذي يجعل هذا العمل مستمر مع كل قراءة ومع أفق توقع كل قارئ. والأكيد مع كل هذا أن قيمة المجموعة الشعرية (على يأس ...وأضحك) الأدبية والجمالية والفنية تكمن في مدى خلخلة وزعزعة الشاعر للمعايير الفنية التي تتحكم في أفق توقع المتلقي من قارئ عادي أو ناقد، عبر قراءاته المتعددة. ليمس الروح الإنسانية في كل مكان، ويفتح أمامك نوافذ جديدة وأجنحة للعبور إلى غابة المعنى، كما يضع القارئ في مواجهة المعنى ومواجهة النفس.

وفي بعض الأحيان نلحظ بلا شك أن الشاعر مخلص للأحلام وليس للظروف فبعض شعره يحمل دائما جرعة من هذه الأحلام لأن الشاعر لا يفكر في القارئ عندما يكتب، لأن القارئ شخصية متخيلة حسب رأي، ولا يفكر في نفسه أيضا وإنما يفكر فيما يريد إطلاقه وبثه في المتقبل.

"كنت سعيدا، عندما كنت صغيرا:
لم تكن لي أحلام.
وعندما كبرت، صرت أحلم/
أحلم ألا تكون لي أحلام...كالأحلام." (ص 105).

فالشاعر خديم الله ظاهرة حقيقة متفردة في أصالتها وجدتها، يزعزع من خلالها بنيان القصيدة العربية ليعيد بناءها وتشكيلها بطراز جديد وأسلوب مختلف يوقظ من خلاله عفوية الكاتب ليعيد ذاكرة الطفل القابع في أعماقه، ليخاطب الإنسان الحالم. وهو ما يشير إلى أن شعره جاء شاهدا على أزمنة مختلفة تحاكي الواقع وتنفخ في صورة المشهد ناقما على وضعية المعاناة التي أشاعر إليها في أغلب نصوص المجموعة.

وفي الختام يمكن القول إن الشاعر يوسف خديم الله قد امتشق سيف القصيد واعتلى صهوة الحلم، ليفتح أبواب الشعر ويفك أسرار من أسرفوا في اقتفاء اليأس، لتكون غربة الشاعر الملتحف بالغموض، غربة يحيك بها الزمان والمكان، لتظهر الأبعاد الدلالية التي تكشفها اللغة ويزيح غطاءها عن اليومي المعيش، لتفصح عن رؤية الشاعر الخاصة تجاه العالم، عندما يقضم أطراف أصابع الحياة، حين يعتمد في بناء القصائد على إرباك الحواس، وخلخلة الثابت ليكون اللعب بالأفكار، كما يكون اللعب باللغة أيضا، ليتجاوز موسيقى النص بصور تستفز ذهن القارئ كلما غاص في نص، وولى وجهه ناحية (على يأس وأضحك)... كاتبٌ مختلف، وساخرٌ عبقريّ، من الموجودات ومن المسلمات، يرميك بمعنى لم تألَف جوانبه. يستدرجك في رحلة المعنى نحو خبرته الخاصّة، فتجد نفسك محاصرا بتعاويذ شعرية راقية تخبركَ… بأن تضحك وإلا فقدت الحياة كما عبر عن ذلك في قوله: "اضحك وإلا فقدت الحياة… تعويذة تعلي من قيمة الضحك، وتحيله سلاحا ضد الكآبة وهشاشة الروح".
ولا أخفيكم سرا أنني تصفحت مجموعة (على يأس ...وأصحك) من ثلاث رؤى مختلفة (قارئ وشاعر وناقد)، ولقد لمست فيها خصوصيات جمالية ودلالية تعكس تجربة صاحبها وتفردها، والتي سكب فيها صاحبها من روحه ليضعنا في مفترق الحلم والصّحوة، وبرؤية وجودية مغايرة للعالم من خلال نصوص تعتمد القسوة في نقد وتصوير المشاعر والأحداث بكثير من الإيجاز معتمدا على قوة اللغة من حيث ما تقدمه من معانٍ ورسائل في شكل لحظات مأزومة موغلة في العمق الانساني، تثير الدهشة وتطرح الأسئلة الحارقة.

انسي الحاج: خواتم، مقدمة الجزء الأول، ص17.
خورخي بورخيس: صنعة الشعر (ترجمة صالح علماني، دار المدى للنشر الطبعة الأولى 2007) ص123.
خورخي بورخيس: صنعة الشعر (ترجمة صالح علماني، دار المدى للنشر الطبعة الأولى 2007) ص23.
لغة الشعر العراقي المعاصر، عمران خضير، ط1، الكويت، وكالة المطبوعات، 1982: 144.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى