الأربعاء ٨ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢٣
بقلم سلوى أبو مدين

أنين الكلمات

عند ذاك المنعطف كان يقف صبي صغيُر. لا أعلم بالضبط تقدير عمره.. كان أشعث الشعر، أغبر الوجه، مهلهل الثياب .. يقبض بيديه الصغيرتين على قطعة خبز ناشفة.. يتأملها بين الحين والآخر!

تقدمت تجاهه خطوة.. بل خطوتين.. فكرت.. ربما سأخيفه.. وما أن رآني حتى انكمش في زاوية المنعطف.. اقتربت منه وسألته:

من تكون؟

أجاب: ـ من هذا الكون الفسيح.
قلت: ـ أي هوية تحمل؟
قال: ـ لا مأوى لي .. لا أرض .. والخوف يلفني!
قلت ـ أفصح
قال: ـ فقدت الوالدين
قلت: ـ وماذا عنك؟
قال: ـ أبحث عن وطن يحتويني
قلت: ـ كل بلاد العالم العربي وطنك ..
قال: ـ لا أعتقد
قلت: ـ ماذا تعني؟
قال: ـ جائع .. محروم .. مسلوب الحرية!
قلت له: ـ كيف؟
قال: ـ أعزل قتلوا أبرياء بلا تعليل.. ثقبوا الفضاء منذ قليل، قتلوا الأفكار. مارسوا الدمار، أدوا الصغار.. فهل من وسيلة لنعيد الاختيار!؟
قلت: ـ حروفك تحمل أوجاعاً وأنينا
قال: ـ هذا العالم وما يحدث فيه بأسره .. فأين الأمان؟
قلت: ـ ثمّ الأمان ولكن لنبحث عنه
قال: ـ أريد الاتحاد .. ففيه القوة
قلت: ـ نعم أصبت الحقيقة .. ولكن كيف أنت هنا؟
أجاب: ـ مثل أي طفل رمت به الظروف إلى وطن معدم، وسُلبت كل شيء .. وها أناأحمل قلباً مليئاً بالحب والكراهية!
قلت: ـ لا أعتقد من يحيا حياتك سينعم بحياته ما دام يحمل أحقاداً وكراهية.
قال: ـ نعم أحمل أحقادا للمعتدين، للسالبين.. لمن حرمونا الراحة وطغوا في أرضنا أحمل حقدا لمن مارسوا علينا قهرا واضطهادا، للطاغيين المعتدين للذين فقدوا الضمير الحي.. للذين هُزموا من صلاح الدين .. وسأحمل حجرا من سجيل وأكيدُ به الغاشمين!
أعرفت الآن هويتي؟
هذا جرحي .. وهذا ألمي .. حتى أملي أضحي سراباً
قلت: لا. مازال النصر حليف المؤمنين بقوة إيمانهم والأمل معقود في الغد بإذن الواحد الأحد فاصطبر
قال: ـ انظري إلى عيني ..إ نها تحمل جغرافية الوطن العربي أجمع! ألا تقرئين ذلك؟
أجبت: ـ نعم أقرأه بوضوح .. ولكن كيف لي بمساعدتك؟
قال: ـ العودة.. ثم العودة .. ولن أبرح أرض أبي وأمي، ومحمد الدرة .
قلت: ـ وماذا تريد أيضا؟
قال: ـ اكتبي حكايتي.. ربما يوماً ستذكرينني..يوم أحمل على الأكتاف أو تشاهدين صورتي بين جموع الضحايا يومها أطلقي الحمام الأبيض وتذكري غصن الزيتون.
هذه رسالتي أخبري عنها .. واذكريني بها. إن هناك صبياً .. وقف يحمل ألم السنين.. سلبت أرضه، وفَقَد أمه وأباه وأخته وأخاه، وأضحى يتيماً.
اكتبي . ولا تنسي.. وصيتي!
قلت: ـ سأكتب.. أيها البطل.. سأكتب يا بطل غزة والقدس!
حمل قطعة من الرغيف اليابس وحفنة من تراب أرضي، قبض عليها بكلتا يديه الصغيرتين وتوارى عن الأنظار.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى