الثلاثاء ٢٥ تموز (يوليو) ٢٠٠٦
بقلم أمل الجمل

الرقص الحديث في مسرحيات "ريم حجاب "

الرقص هو السمة المميزة لأعمال المخرجة المصرية الشابة " ريم حجاب ", فهي تستخدم الجسد للتعبير عن مختلف المشاعر والأحاسيس. لكنها لا تعتبر الرقص بديلاً عن الكلمة, فهي تستخدمه فقط لتُوضح من خلاله معاني يجب أن تصل للملتقي, وهذا الإهتمام الكبير بالرقص سببه دراسة "ريم" للرقص في لندن وحصولها على ماجستير في الكوريوجرافيا وفنون العرض من جامعة ميدلساكس بلندن 2003, كما أخرجت في إنجلترا عرضيين مسرحيين راقصين لإحدى الفرق الجامعية.

كانت أولى تجارب المخرجة الشابة في مصر " زي كل يوم " بمسرح الشباب. بعدها بأربع سنوات جاءت تجربتها الثانية " استغماية.. ليه ؟", هو أول عرض مونودراما في تاريخ المسرح المصري يُقدم من خلال مبدعه, فالعرض كان فكرة ورؤية وأداء وإخراج "ريم حجاب", وإن سبقها في هذا المجال " رفيق علي أحمد " في لبنان, و "باسم كوسة" في سوريا. ولا يمر العام حتى تقدم "ريم" تجربتها الثالثة من خلال " أحمر ساكن " ثم " حد رايح صفحتي " ثم تُفاجئنا بل تُدهشنا بأحدث تجاربها " الملك لير ".

" استغماية .. ليه ؟."

وإبداع شكل مسرحي جديد .

إن استخدام المصطلحات الدرامية الأرسطية, مثل المقدمة والخاتمة والذروة والحدث, في وصف وتحليل عروض الرقص المسرحي الحديث, ومنها عرض "استغماية .. ليه؟." للمخرجة الشابة "ريم حجاب", لا يُساعدنا على تفهم أو إدراك بنيتها الفنية والفكرية المتميزة. بل يُضللنا عن حقيقتها. فالحوار مثلاً وفق النظرية الأرسطية يُمثل الحامل الأساسي للحبكة, لذلك اعتبره النقاد إحدى الخصائص التي يجب أن تتوافر في أي شكل درامي في أي مكان وزمان. لكن الحوار في مسرحية " إستغماية.. ليه ؟." لا يُمثل حواراً بالمعنى المألوف, ولا يُستخدم في حقيقة الأمر لتشكيل أو تطوير حبكة ما, بل نجده يقترب من طبيعة المونولوج, إلى حد كبير, فكأن هذه الفتاة بشخوصها الثلاثة " البهلوان, العسكري, الحرامي," تُعبر عن خواطرها, وخلجات نفسها بصوت مسموع, دون أن تُوجه حديثها إلى شخص بعينه.

كذلك فإن عالم النص المسرحي, الذي يُمثل موقف الخطاب أو الحديث المسرحي في عرض" ريم حجاب ", لا يتطابق مع عالم خشبة المسرح مثلما يحدث في المسرحيات التي ترتكز على الحوار, بل يتخطى خشبة المسرح ليشمل أيضاً قاعة العرض والمتفرجين.

يتميز عرض "استغماية.. ليه ؟." بأن له بنية خطاب يُمكن تحليله سيموطيقياً باعتباره نظام اتصال يعتمد على شفرتين, شفرة إرسال سمعية بصرية, وشفرة رؤية وإدراك, أي شفرة تلقي ورد فعل. أما الشفرة الأولى فتحدد نمط العرض والتمثيل, والشفرة الثانية تُحدد نمط الرؤية أو المتلقي, في نظام الإتصال هذا يتحول المتفرج إلى مُشارك في فعل السرد, فهو داخل اللعبة لكنه صامت.. والتفاعل بين الشفرتين, شفرة التمثيل وشفرة المتلقي, يُؤدي إلى إنتاج حالة ونمط الخطاب.
عرض "ريم" لا يُقدم قصة أو يُترجمها درامياً إلى حدث بالمعنى الأرسطي, ولهذا لا نستطيع أن نصف تناوله للقصة بأنه درامي. إن قيمة الحبكة في هذا العرض, الذي يُمثل "خطاباً" لا حواراً, ليست قيمة سردية بل تشكيلية. فالحبكة لا تسرد أو تعرض قصة بصورة تحليلية تشرح أحداثها, بل تُقيم نسقاُ من العلاقات بين عناصر العرض يستثير عدداً من المعاني والدلالات الكامنة في نفس وعقل المتفرج. ويتضح نسق العلاقات هذا ودلالته سمعياً وبصرياً في العرض في تنوع الأصوات المؤدية من ناحية, وفي المقابلة الرمزية الدائمة بين الشخوص الثلاثة " البهلوان والعسكري والحرامي من ناحية آخرى.

يبدأ عرض "استغماية .. ليه؟" بإرساء طبيعته الخاصة كخطاب مسرحي عن طريق شفرة سمعية بصرية. والخطاب المسرحي هنا يسعى إلى استثارة أفكار نفسية وفلسفية لدي المتفرج.

في الخطاب المسرحي, بطبيعة الحال, لا يوجد ما يُسمى بالزمن الدرامي.. فالماضي في عرض " ريم " يمتزج في آن واحد بالحاضر والمستقبل, وبنفس الصورة تضيع الهوية المحددة للمكان فتبدو كل الأمكنة كما لو كانت تتواجد جنباً إلى جنب على خشبة المسرح التي تُصبح مسرح العالم كله.

تتأكد طبيعة العرض كخطاب مسرحي منذ البداية في الإفتتاحية ـ المقدمة التي ينطق بها البهلوان أو البلياتشو, أو الفرفور, أو الأراجوز, أو المهرج, ـ فمنذ اللحظات الأولي ومع التقديم للعرض تُعلن الشخصية وهى وسط القاعة :" أن أياً من المتفرجين لن يرى كل شيء, لأنه لا أحد يُمكنه رؤية كل شيء.".. الجملة السابقة تستدعي مباشرة في ذهن المتلقي نسبية الحقيقة, وهى مقدمة مُعبرة بدرجة كبيرة عن تيمة " ريم", كما دّعمها طبيعة قاعة العرض حيث المؤدية تُمثل في المنتصف والجمهور أمامها وخلفها, أو بمعنى آخر الجمهور في مواجهة الجمهور.

تحتل الشخصية البهلوانية المشاهد الأولى في العرض وتستأثر بها, وهذا أيضاً له مغزاه, ربما كان الهدف منه خلق الحالة الشعورية العامة التي يتطلبها العرض كخطاب مسرحي فلسفي, فالبهلوان أو البلياتشو شخص يرتدي قناع من المكياج المبالغ فيه والذي يطمس هويته الحقيقية وهو لب العرض, فالشخصية تعترف بأنها ليست إنسان سوي, بأنها تُريد المصالحة مع نفسها, بأنها ترغب في أن تُصبح إنسان سوي.. لكن من هو الانسان السوي الذي تقتدي به؟. هل هو هتلر؟. أم موسيليني؟. أم صلاح جاهين؟. أم جريتا جاربو؟. أم خالتها أو عمتها أو من بالضبط؟!. في الطرح السابق والتعددية الاختيارية ينطوي الأمر على تأكيد النسبية مرة أخرى.
في إطار هذه الحالة الشعورية والفلسفية تُقدم الشخصيات الأخرى, العسكري والحرامي, نفسها للمتلقي بعيدة عن محاولة التأثير العاطفي أو استثارة النفور, أي بصورة محايدة تماماً, فتلتزم بحدود الدور الموضوعية.

يُؤدي أسلوب العرض هذا إلى إرساء شفرة الاستقبال فيُدرك المتلقي أن التوزيع المكاني للشخصيات لا يهدف إلى تأكيد الصراع الدرامي بينها, بل إلى تحديد قيمتها ومكانتها بالنسبة للمتفرج من ناحية, واشراكه كعنصر إيجابي أساسي في العرض من ناحية آخرى, ويتجلي هذا التفاعل في اللحظات التي تتجه فيها "ريم" إلى الجمهور وتختار منهم البعض لتنظر في عيونهم تبحث بداخلهم, تبحث عن نفسها, وتسألهم بنظرة فاحصة من دون كلمات : هل عثرتم على أنفسكم.. على الانسان السوي؟. فالنظرة هنا علامة رمزية.

والعرض لا يُقدم بدائل فلسفية أو فنية للواقع, لكنه يُثير تساؤلات فلسفية ومنها.. "عايزة أكون إنسان سوي.. لكن مثل من؟.. والأهم أنها ترى استحالة أن أن يُصبح إنسان سوي. لكنها أيضاً ترى المستحيل ممكن.. هىّ ليست وحدها.. لكنها ليست مع أحد."

كلمات ومفردات الخطاب المسرحي بليغة ومكثفة ومركزة ومُعبرة عن المضمون. تميز العرض بالجمع بين المتناقضات ليس فقط على مستوى الأشخاص " العسكري والحرامي والبهلوان", لكن أيضاً على مستوى مفردات الخطاب المسرحي, المستحيل والممكن, الوحدة وعدم الوحدة.. فهي مفردات تُؤكد ضياع هويتها, تُؤكد إحساسها بأنها انسان غير سوي.

عرض " استغماية.. ليه؟." ليس به ذروات درامية لكن به ذروات علامية "سيموطيقية" خالصة. إنه بمثابة بساط فلسفي ممتد ومتعدد الشفرات. وحين تتفاعل هذه الشفرات يبدأ الخطاب المسرحي, وينبض بالحياة, ولهذا السبب يُمثل عرض "ريم" تربة خصبة وثرية لدارسي علم العلامات, فهو يحتوي على الأنواع الثلاثة للعلامات, وفيما يلي نُقوم بتحليل بعض ملامح العرض تحليلاً علامياً باعتباره نظاماً من أنظمة الاتصال.

أولاً: العلامات الرمزية وتتمثل في :

1. لغة الخطاب ومفرداته, فاللغة علامة رمزية.. لكنها تحولت في بعض الحالات إلى علامة إشارية مثل: " بس.. بس بس" فهىّ إشارة إلى القطة. وهذه العلامة الإشارية تحولت بدورها إلى علامة رمزية, فالقطة تجمع بين الطيبة والوداعة من ناحية, وبين الشراسة من ناحية آخرى. وهو تناقض يخدم فكرة العرض.

2. التقابل بين نوعين من الملابس, ملابس أنثوية متمثلة في " الجونلة أو الجيبة", وملابس ذكورية تتمثل في " البالطو الخاص بالبلياتشو, قميص الحرامي, قميص العسكري"
ثانياً: العلامات الأيقونية النمطية وتتمثل في :

1. الحركات والإيماءات البلاغية التي تُصاحب مخاطبة الجمهور, خصوصاً أثناء التعبير عما بداخلها من مشاعر وتهيؤات مثل الخوف من الجنون, والخوف من العسكري.

2. كان البالطو أيضاً علامة أيقونية, لأنه ليس بالطو بلياتشو.
ثالثاً : العلامات الإشارية وتتمثل في :

1. الملابس.. مثلت شفرة هامة جداً داخل عرض "ريم", حيث كانت شفرة الانتقال من دور إلى دور في الحياة. لكن على نحو مجرد. فلم تكن هناك ملابس حقيقية للعسكري أو للحرامي. لكن قميصاً ترتديه بطلة العرض فتُصبح خائفة متوجسة ومترقبة طوال الوقت, تطرح أزمتها على الجمهور دون أن تتجاوز حالة المُطاردة, ثم ترتدي قميصاً آخر فوق الأول فتُصبح العسكري الذي يدّعي الصلابة, فيحافظ على دوره قدر المستطاع داخل اللعبة, ثم ترتدي القبعة وقميص المهرج فوق قميصي الحرامي والعسكري فيسخر منهما معاً. لذلك كانت الملابس بطلاً أساسياً في العرض.
2. كذلك استخدمت "ريم" الجسد كإشارة حركية. واستطاع العرض التدليل على أن العسكري والحرامي هما ذات الشخص. ينضم إليهما المهرج أحياناً, حيث تختلف الملابس ويتحول الأداء لكن تظل الهموم والمخاوف واحدة.

3. الماكياج كان مبالغاً فيه, عن عمد, لأنه اُستخدم كإشارة إلى البلياتشو أو المهرج الذي يُسيطر علينا, ويسخر منا.

4. الإضاءة.. وظف العرض اسبوتات الإضاءة كعلامة إشارية, فهى تُشير إلى الطريق.. لكن هذه العلامة الإشارية تحولت إلى رمز أيضاً, حيث تم استخدام spot "سبوت " إضاءة من مقدمة المسرح, وقابله من الإتجاه المعاكس spot "سبوت" إضاءة آخر, مما أوحى إلى المتلقي بأن الطريق بلا بداية وبلا نهاية, وغير محدد المعالم, وهو مرادف للضياع, ضياع هوية المكان والإنسان, وهو بدوره يخدم فكرة مؤلفة وممثلة ومخرجة العرض "ريم حجاب".

5. الموسيقى بإيقاعها اللاهث عبرت عن الحالة التي تُعانيها الشخصية بأبعادها الثلاثة.. بدأت الموسيقى هادئة في الجزء الأول, ثم أصبحت نشطة لاهثة أثناء البحث عن المكان من الحياة.. ثم تحولت إلى الهدوء مرة آخرى يُصاحبها الرقص في نهاية العرض.

اختلطت العلامات الرمزية والأيقونية والإشارية في عرض "ريم" بصورة مركبة لإنتاج الدلالة.. كذلك لعبت المعدات المسرحية في هذا العرض عدة وظائف دلالية, بمعنى أن دلالتها تتغير وفق استخدامها, فخشبة المسرح مثلاً تتحول إلى سرير للنوم عندما تُقرر بطلة العرض أن تنام وتتغطى ببالطو البلياتشو. والبالطو بدوره يتحول من علامة إشارية إلى علامة رمزية عندما تُحاول الممثلة أن تُغطى به جسمها كله. لكنها إن غطت جزء تعرى جزء آخر, وهو معنى رمزي تقصده المؤدية.
تميز أسلوب الأداء التمثيلي في العرض بالتوجه الدائم إلى المتفرج. فالمؤدية تتجه إليه دائماً وتُخاطبه حتى في مقاطع مناجاة النفس. كما أنها تخرج من بين صفوفهم في بداية العرض, ربما بهدف رغبتها في إعلان تورطهم " الجمهور" في الحدث والموضوع سواء كانوا من هذا أبناء هذا الجيل أو ممن أسهموا في أزمة وعيه.

"ريم حجاب" في عرضها الثاني "استغماية.. ليه؟"ـ والذي لعب فيه أدوار عديدة من فكرة ورؤية وأداء وإخراج, وهو أيضاً ثاني تجربة يُقدمها لها مسرح الشباب بعد عرضها الأول "زي كل يوم" الذي قُدم قبل أربع سنوات ـ نجحت في إبداع شكل مسرحي جديد راقص يُعبر عن رؤيتها الفلسفية للانسان وللعالم. واكتفت بطرح التساؤل, وإثارة التفكير, لكن دون أن تُقدم حلاً حاسماً.

"الملك لير".. بدون مأساة.. بدون جنون

كانت "ريم حجاب" من أحدث المخرجين الشباب الواعدين الذين أخرجوا "الملك لير" على خشبة المسرح بمركز الإبداع , في خامس تجاربها المسرحية في مصر.

مأساة "الملك لير" لها تاريخ فريد فهي من أكثر مسرحيات شكسبير صعوبة في الإخراج, وكثيراً ما إمتدت إليها أيدي المخرجين والممثلين بالحذف والتعديل.. وإذا كان شعراء القرن التاسع عشر ونقاده قد أنصفوا النص الأصلي لشكسبير فإنه في القرن العشرين ظهر عدد من المخرجين الدارسين الذين أحسنوا فهمها وتقديمها على خشبة المسرح.. وقد وجد فيها مخرجون معاصرون بذور "الحداثة " ـ Modernism ـ وذلك لما تتسم به مأساة "الملك لير" من بعض عناصر مسرح العبث واللامعقولTheater of Absurd .

مسرحية "الملك لير " كتبها الأديب الإنجليزي "ويليم شكسبير" عام 1605, وقد استمد حبكتها الرئيسية من كتاب "هولتشد " عن تاريخ إنجلترا, واقتبس الحبكة الثانوية, على الأرجح, مما رواه "سبنسر" في ملحمته الشعرية " ملكة الجان " عن ملك " بافلاجونيا" القاسي وابنه الطيب, على نحو ما يرويه الابن أولاً ثم الأب الأعمى." ويعتقد البعض أن شكسبير قد استفاد كذلك من مسرحية مجهولة المؤلف بعنوان " القصة الحقيقية للملك لير وبناته الثلاث ."

ريم حجاب مثلها مثل العديد من المخرجين تناولت نص "شكسبير" بالحذف والتعديل إلا أنها استطاعت بموهبتها وبقدراتها العالية أن تُحافظ على روح النص بل وتمنحه حق الحياة مجدداً.

تتناول مأساة "الملك لير" علاقة الآباء والأبناء, وتكشف عوامل الخير والشر في نفوس البشر, فالآباء يعميهم الحب أو الغضب عن حقيقة أبنائهم, والأشرار من الأبناء يُظهرون غير ما يبطنون ولا يدخرون جهداً في خداع الأب المسن.. لكن ليس كل الأبناء أشراراً فمن صلب واحد يخرج الطيب والخبيث.
إذا كان شكسبير يُعالج أحداث المسرحية في خطين دراميين, يُمثل الخط الأول قصة الملك " لير" وبناته الثلاث, إذ قرر الملك أن يختبر حب بناته له, ليُرشح أحبهن إليه لوراثة العرش من بعده. فتتمكن ابنتيه الأولى والثانية من خداعه بالكلمات الرنانة الساحرة, أما الصغرى وهى الوحيدة التي تُكن لأبيها كل حب وإجلال فترفض أن تفعل مثل أختيها فيحرمها الملك من نصيبها في إرث المملكة. يسقط الملك الشيخ في خطيئة الغضب ويتخلي عن واجباته كملك وأب.
الخط الثاني للمعالجة يتمثل في أمير "جلوستر" وولديه أحدهما بار بوالديه, والثاني فاسد يُخطط لطرد أخيه ثم يكيد لأبيه عند الملك, ويُصبح هو المهيمن على ثروة أبيه دون منازع. الحبكة الفرعية في معالجة شكسبير تُعالج نفس التيمة وتدعم القصة الأولى وتُضفي عليها الشمولية. مع ذلك تخلت عنها "ريم حجاب" واكتفت بالحبكة الرئيسية المتمثلة في الملك "لير" وبناته الثلاث, ربما يكون قصر مدة العرض هو السبب وراء هذا الحذف.

كذلك تخلت "ريم" عن عنصر الجنون الذي يُصيب الملك لير والذي يُميز هذه المأساة ويجعل لها مكاناً فريداً فيما كتب شكسبير من تراجيديات.. لكن المخرجة فعلت ذلك عن عمد ربما لتُوحي إلى المتلقي بأن السماء عادلة بعض الشيء, إذا استجابت لدعاء الملك ورجائه لها بألا يُصاب بالجنون من جراء قسوة ابنتيه.

لجأ بعض المخرجين ـ الذين تناولوا مأساة لير ـ إلى حذف شخصية المهرج "بهلول" تماماً بحجة أن وجوده يُقلل من تأثير المأساة ويُشتت مشاعر الجمهور. لكن "ريم" في عرضها كانت على وعي تام بأهمية وخطورة دور المهرج. فهو يُعد من أهم الأدوار في المسرحية. و"شكسبير" كان يُعطي المهرج دوراً في كل المآسي التي كتبها لأسباب علمية وفنية كثيرة. لكنه في هذه المأساة جعل للمهرج دوراً رئيسياً فهو أول من يلفت نظر الملك إلى حقيقة وضعه في قصر ابنته, ويخلط الجد بالهزل, فيقول الحقيقة المرة في مزيج من شذرات الأغاني والنكات أشبه بأسلوب اللامعقول في المسرح الحديث.

كان دور المهرج يُمثل عقبة أمام بعض المخرجين فقاموا بحذف هذا الدور الحيوي كلية أما "ريم" فأبحرت في أعماق النص وأدركت أن دور المهرج ما هو إلا التناقض القائم داخل الملك لير, ومنذ البداية تُؤكد على ذلك حيث نرى الملك يقف شامخاً في عباءته بعيداً عن الأرض يكاد يلمس عنان السماء وحينما يقترب من الأرض يخرج من عباءته المهرج بهلول وكأنما تُعلن "ريم " أن الملك كان, طوال الوقت, يُخفي بداخله شخصية المهرج إلى أن حانت اللحظة الحاسمة ليُفرج عنه, فيتخلى عن كرسي العرش والمملكة, وكأنما التخلي عن الحكم جاء نتيجة للإفراج عن شخصية المهرج من أعماق الملك. يقول الفيلسوف الدانمركي "سورين كيركجارد": " أينما تُوجد الحياة يُوجد التناقض, وأينما يُوجد التناقض تُوجد الكوميديا." وريم في عرضها " الملك لير " منذ البداية تنطلق من التناقض داخل النفس, والنفس المتناقضة المنقسمة على ذاتها هى شخصية الملك المقهور من ابنتيه, الملك المغترب عن عالمه, وصراعه بين الخير والشر, بين الإنصياع والتمرد, بين المصالحة والثورة, هذا الصراع يتجسد مسرحياً في إنشطاره الكامل إلى شخصيتين هما الملك والمهرج.

"ريم حجاب" مشروع مخرجة واعدة تعي جيداً ما تفعل وتتجلى موهبتها في قدرتها على إنشاء بناء مسرحي محكم يُترجم رؤيتها إلى حدث درامي يتطور من خلال جدليات الشخوص المسرحية عبر سلسلة من التحولات والمفارقات البالغة الفكاهة المأساوية الدلالة, والتي تتصاعد بالصراع بين حقوق الآباء وعقوق الأبناء.. بين العقل والتهريج.. بين القيم والفوضى في إيقاع لاهث وصولاً إلى ذروة الحدث حينما تُصر ابنتي الملك " جونريل , وريجان " على موقفهما من المعاملة القاسية للأب وطرد كل فرسانه وحراسه. تلك الذروة التي تُفضي إلى مرحلة التنوير, التي تتمثل في مواجهة النفس والإعتراف بالتناقض أو مواجهة الملك لذاته.

استطاعت المخرجة أن تُحقق فن الموازانات المسرحية بحس مرهف فهى تمضي بالموقف المسرحي إلى حدود الميلودراما, لكنها تُدرك متى تتوقف حتى لا تنزلق إلى الميلودراما, وهى تمضي بالضحك إلى أقصى حدوده لكنها لا تسمح للنص أن ينزلق إلى التهريج السطحي. والحق أنه لولا أسلوب التمثيل الكاريكاتيري الخفيف من قبل الملك والمهرج والذي يُباعد عاطفياً بيننا وبين المشهد لماتت الضحكة على شفاهنا.

لعب دور الملك "لير" الممثل الشاب الموهوب " نضال الشافعي ", وهو إختيار مُوفق من "ريم" لأنه كشف لنا عن موهبة ممثل يحمل طاقة فنية هائلة, ممثل يمتلك قدرات تُمكنه من أداء نوعيات مختلفة من الأدوار حيث ظهر في دور "لير" كمارد ينطلق من قمقمه ويتوهج أمامنا على خشبة المسرح.. تجلت موهبة " نضال " في نسق الأداء المدروس الذي شكله لنفسه مستغلاً فيه خصائصه الجسدية, وفي مقدمتها ملامح الوجه التي تحمل التناقض بين براءة الطفولة والغضب, كذلك قدرته على تلوين نبرة صوته في الأداء فيعرف متى يصرخ ومتى يُهديء من نبرة الصوت ولكن بغضب أيضاً.. نجح " نضال " في إقامة علاقة توحد وجداني كامل مع دوره فعايش أفعال ومشاعر "الملك لير", وكأنها جزء من خبرته الشخصية والسلوكية.

أما كورديليا التي لعبت دورها " رانيا بدوي " فكانت شيطانة من شياطين الشعر المسرحي. تميز دورها بالصغر وضيق مساحته الأدائية مقارنة بأختيها والملك والمهرج.. لكنها استطاعت أن تُجسد طبيعة شخصية " كورديليا " في نسق حركي راقص محكم.

أثبتت " ريم " تمكنها العميق من لغة المسرح وأدواته وامتلاكها الخيال الإخراجي الثري فحولت الحركة والإضاءة والتشكيل إلى عناصر ناطقة فعالة تشرح وتُفسر وتُثري النص.. وأخيراً فإن عرض " الملك لير " للمخرجة " ريم حجاب", والذي قدمته كمشروع تخرج في ورشة الاستوديو على مسرح مركز الإبداع الفني تحت إشراف المخرج "خالد جلال" وذلك ضمن خمس رؤى للملك " لير", يحمل خطاباً فنياً مُضمراً موجهاً إلى المسرح الكوميدي في مصر يقول: هكذا يكون الفن والمتعة وإعادة النظر في التراث.. وهكذا ترقى الكوميديا إلى مرتبة الفكر والفن الرفيع.

المراجع :

  1. الملك لير، ترجمة : محمد عناني, الهيئة المصرية العامة للكتاب, 1996.
  2. الملك لير، ترجمة : فاطمة موسي, الهيئة المصرية العامة للكتاب, 1997.

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى