الثلاثاء ٨ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨
درويش وأثر الفراشة
بقلم عادل الأسطة

العمى والبصيرة

  الحقيقة والمجاز:

ثانية أعود إلى يوميات محمود درويش: "أثر الفراشة". هل كنت موفقا حقا حين ذهبت، وأنا أدرس دال العنوان، إلى أن الفراشة ذات مدلول رمزي في أشعار درويش؟ أم أنني لم أكن كذلك، وكنت واحداً من النقاد الذين يغتالون نصوص الشاعر، بخاصة أنه يأتي في "اغتيال" على دال الفراشة وما يقصده منه؟ وما يقصده معناها القاموسي ليس أكثر:

"وإذا كتبت: هي الفراشة أختي الصغرى
على باب الحديقة
حركوا المعنى بملعقة الحساء"

الملعقة هنا، ملعقة النقاد، هي ملعقة الحساء، لا ملعقة الشاي، كما في "حالة حصار" (2002) في مقطع: "إلى ناقد"، وثمة فارق بين ملعقة الشاي وملعقة الحساء حجما، لا شك في ذلك.

اعتماداً على ما ورد في مقطع درويش السابق، فإن تأويلي يذهب أدراج الرياح، على الأقل فيما يخص قصيدة "أثر الفراشة" فقط. ويمكن أن يكون المعنى فيها أن الشاعر وقد رأى الفراشة، على باب الحديقة، سحر بمنظرها، فكتب ما كتب، وقد تركت الفراشة في نفسه أثرا لا يرى ولا يزول. ولكن هل كان درويش يرى في الفراشة، دائما، الفراشة فقط؟ لا أظن ذلك، فهو في مواطن كثيرة يستخدم المفردة في غير معناها الأصلي، وهو يقر، أيضا، بأنه ذو مخيلة لافتة. لنعد إلى كتابه "في حضرة الغياب" (2006) ولنقرأ المقطع التالي: "ستسمي البحر سماء مقلوبة، وتسّمي البئر جرة لحفظ الصوت من عبث الريح، وتسمّي السماء بحرا معلقا على الغيوم.

ثمة شيء يتزيا بالغامض، لا يشم ولا يلمس ولا يتذوق ولا يبصر، هو ما يجعل الطفولة حاسة سادسة، فسمّوك الحالم من فرط ما ركبّت للكلمات من أجنحة لا يراها الكبار، وتحرشت بالغامض واغتربت". (ص31).

ولنقرأ أيضا مقطعا آخر:

"لكن همساً مالحاً يأمرك بأن تنبطح على الأرض. هو الضبع- يقولون لك وهم يشيرون إلى ضوء سيارة من بعيد، ولا يأذنون لك بأن تسأل: هل يقود الضبع سيارة؟ ولم تعرف المجاز بعد، فلم تعرف أن الضبع هو "حرس الحدود"... (ص44).

تسعف نصوص "أثر الفراشة" قارئها على أن المجاز حاضر أيضا في نصوص الشاعر. وهذا ما أبرزته من قبل، وهي أيضا تقول له إن الشاعر لم يكن دائما يقول كلاما بريئاً:

"أعبر من شارع واسع إلى جدار سجني
القديم، وأقول: سلاما يا معلمي الأول
في فقه الحرية. كنت على حق: فلم يكن الشعر بريئا".

وإن كانت- أي النصوص- في مكان آخر تقول لنا إن الشاعر أحيانا يقول فقط لأنه يريد أن يقول. ولا يحدث هذا معه فقط، فقد يحدث معنا نحن أيضا حين نكون فرادى ونثرثر كلاما ما، نتحدث فيه إلى أنفسنا، أو نطرد من خلاله وحدتنا التي نشعر بها. في "ماذا.. لماذا كل هذا؟" يتسلى أنا المتكلم، "وهو يمشي وحيدا، بحديث قصير مع نفسه. كلمات لا تعني شيئا، ولا تريد أن تعني شيئاً". ونحن نتفهم هذا السلوك، لأننا، كما ذكرت، قد نمر به. ولكن السؤال هو: هل يكون المرء دائما على هذه الحالة؟ والجواب قطعا: لا، ولا أظن أنه، من قبل، كان يعاني منها كثيرا، بخاصة حين كان مشغولا بالهم العام، في شبابه ورجولته. وأظن أن ثمة حالات يمر بها المرء قد تفرض عليه ضربا من التناقض. إننا لا نستطيع أن نحاكم أي إنسان على أنه نفسه في اللحظات كلها، وفي الأزمان كلها، وبناء على هذا نستطيع أن نتفهم لماذا تمنى أنا الشاعر في بعض يوميات أن يكون الفتى حجرا، وتمنى في لحظة أخرى أن يكون الفتى شجرة. لطالما أعجب درويش، ومن قبل أدونيس، بأبيات تميم بن مقبل:

هل عاشق نال من دهماء حاجته في الجاهلية، قبل الدين، مرحوم؟
ما أطيب العيش، لو أن الفتى حجر تنبو الحوادث عنه وهو ملموم.
ولقد كررها درويش في قصائد سابقة، في "حصار لمدائح البحر" (1983)

وسيكررها هنا، في "أثر الفراشة" في "ليتني حجر"، وفي "ليت الفتى شجرة" "وقديما قال الشاعر: "ليت الفتى حجر". وليته قال: ليت الفتى شجرة. لماذا تمنى أن يكون الفتى حجرا، ثم عاد واعترض على أمنيات الشاعر الجاهلي، وتمنى درويش لو قال تميم بن مقبل: لو أن الفتى شجرة؟ والجواب طبعا يعود إلى تباين الحالتين، ولا ندري ما الذي كان عليه حين قال: ليتني حجر، والذي كان عليه حين قال: وليته قال: ليت الفتى شجرة.

  الشاعر والنقاد ثانية:

في "اغتيال" يذهب أنا المتكلم/ أنا الشاعر إلى أن النقاد يغتالونه أحيانا، وحسنا فعل إذ قال أحيانا. هذا يعني أنه يميز بين ناقد وناقد، وبين نقد ونقد، وبين نقد ناقد تارة، في دراسة ما أو في مقالة ما، وبين نقد الناقد نفسه طورا، فقد يرضى الشاعر عن مقالات ودراسات وتأويلات، وقد لا تروق له أخرى، والأخيرة يرى فيها اغتيالا.

وكما ذكرت، فإن السبب في ذلك يعود في جانب منه إلى المسافة الجمالية بين الشاعر ونصه وبين الناقد وما يريده من الشاعر ونصه أيضا. وهذا ما يبدو واضحا في "اغتيال".

يريد النقاد القصيدة ذاتها والاستعارة ذاتها- أي ما ألفوا من شعر الشاعر أو ما يشبه ما ألفوا- أي "سجل أنا عربي"، وهو قد يمشي على طريق جانبي شارداً- أي قد يقول شعراً غير وطني مثلا، شعرا مختلفا عما كتب، لأنه يريد الاختلاف وعدم التكرار، كأن يكتب قصيدة يعبر فيها عن إعجابه بزهر اللوز أو بغياب الشمس في البحر. هنا سيقولون: لم يعد درويش شاعر مقاومة. لقد خان الطريق.

وإن عثر عل بلاغة عشبة، أي إن كتب قصيدة يصف فيها عشبة، قالوا إنه لم يعد يصف الأشجار في حيفا، أشجار السنديان، بما لها من دلالة رمزية، مثل صمود عرب فلسطين وعنادهم ومقاومتهم للمحتل. هنا سيقولون: لقد تخلى عن عناد السنديان. طبعا هنا فارق بين عشبة وشجرة، بين ما ينمو على السطح ويظل منبطحا، وبين الشجرة، شجرة السنديان بما تمثله من شموخ وعناد.

وهو إن رأى الورد أصفر في الربيع، وقد يسحره، تساءل النقاد: أين الدم الوطني في أوراقه- أي أين شعره الوطني. وربما تذكر المرء هنا بعض مقالات وآراء في أشعار درويش التي كتبها في موضوعات أخرى غير الموضوع الوطني، وهو ما بدا واضحا في "سرير الغريبة" (1999) و"كزهر اللوز أو أبعد" (2005)، وربما تذكر المرء هنا أيضا بعض افتتاحيات "مجلة الكرمل" في أعدادها الأخيرة، ودفاع درويش فيها عن أشعاره الأخيرة، وعن مفهومه لشعر المقاومة، رادا بذلك على بعض النقاد الذين هاجموه.

وهو، إن كتب عن الفراشة، من حيث هي فراشة فقط، دون أن يكون لها مدلولات رمزية، فسروا هذا الدال تفسيرا رمزيا، أو على حد تعبير درويش: حركوا المعنى بملعقة الحساء.. طبعا هنا نسأل الشاعر: هل تخلو عبارة "حركوا المعنى بملعقة الحساء" "تخلو أيضا من دلالات رمزية. ثمة عمى وبصيرة في الفقرة نفسها. ثمة قول للشيء ونقيضه في أسطر درويش التي أكرر اقتباسها:

"وإذا كتبت: هي الفراشة أختي الصغرى
على باب الحديقة
حركوا المعنى بملعقة الحساء"

وإذا ذهبنا إلى أن الفراشة هي الفراشة، لا أكثر ولا أقل، فما معنى: حركوا المعنى بملعقة الحساء؟ وثمة اختلاف أيضا بين درويش ونقاده، أو بعضهم، فهو قد يستخدم دال الأم استخداما بعيدا عن المدلولات الرمزية، لكن النقاد قد يصرون على أن الأم رمز، وهو ما يبدو في قوله:

"وإن همست: الأم أم، حين تثكل طفلها
تذوي، وتيبس كالعصا
قالوا: تزغرد في جنازته وترقص
فالجنازة عرسه"

ونحن إذا ما عدنا إلى هذا الدال في أشعار درويش لاحظنا استخدامه رمزيا، فإذا كانت الأم في "أحن إلى خبز أمي" هي أمه الحقيقية، فإن درويش هو الذي خاطب المرأة قائلا:

أنت عندي أم الوطن
أم أنتما توأمان".

وثمة خلاف أخير تبرزه القصيدة/ اليومية يمس موضوعات الشعر. قد يكتب درويش، وهو ينظر إلى السماء، الشعر معبرا عما يراه هو ولا يراه غيره، أو عما يراه ولا يُرى. أي قد يكتب في موضوعات أخرى غير مألوفة، وهذا ما لا يروق للنقاد الذين ألفوا موضوعات الشعر، ورأوا أنها هي الموضوعات/ الأغراض. هنا طبعا لن يعجبوا بأشعار درويش الجديدة، لأنها خالفت أفق توقعهم، وبالتالي فإنهم سيكتبون كلاما يرى فيه الشاعر اغتيالا.

والقصيدة/ اليومية هي على أية حال، من ألفها إلى يائها، تعبر عن التفات الشاعر لما يقوله النقاد. هذا يعني أن درويش يتابع ما يكتبون عن أشعاره وعنه أيضا؟، فهو لم يكتب: يغتال النقاد أشعاري، وإنما كتب يغتالني النقاد، غير فاصل بينه وبين أشعاره. وربما هنا نتذكر الناقد (هيوبوليت تين) وأصحاب المنهج النقدي الذين قالوا بوحدة النص وكاتبه، فحين درس (تين) بلزاك لم يفصل بينه وبين أعماله. وسيكون خيار درويش للقصيدة الجديدة، لا للنقاد:

"يغتالني النقاد أحيانا
وأنجو من قراءتهم
وأشكرهم على سوء التفاهم
ثم أبحث عن قصيدتي الجديدة"

  شيء يحفر عميقا:

هل ما قاله درويش في "اغتيال" شيء جديد؟ أم أنه يعود إلى سنوات طويلة خلت، وسبق للشاعر أن قاله بصيغة أخرى؟

ابتداءاً أشير إلى أن القصيدة تبدو جديدة كل الجدة، ويخيل لقارئها أنه لم يقرأ فكرتها من قبل. وهذا سر من أسرار شاعرية درويش التي تذكر بمقولة (غوته): "ليس الشعراء الكبار شعراء كبارا لأنهم اتوا بأشياء جديدة، وإنما هم شعراء كبار، لأنهم أبرزوا الأشياء كما لو أنها تظهر لأول مرة".
قارئ "اغتيال" إذن يشعر أنه يقرأها لأول مرة، ولكن دارس درويش وناقده الممعن النظر في نصوصه، يتذكر المقطع الثالث من "مزامير" في ديوان أحبك أو لا أحبك" (1971)، المقطع الناص:

"يوم كانت كلماتي/ تربة.../ كنت صديقا للسنابل/
يوم كانت كلماتي/ غضبا.../ كنت صديقا للسلاسل/
يوم كانت كلماتي/ حجرا.../ كنت صديقا للجداول/
يوم كانت كلماتي/ ثورة.../ كنت صديقا للزلازل
يوم كانت كلماتي/ حنظلا..../ كنت صديق المتفائل/
حين صارت كلماتي/ عسلا..../ غطى الذباب/ شفتي!.."

وقد كتب درويش هذا المقطع بعد خروجه من الأرض المحتلة، في العام 1970، ويوم بدأت رؤيته الشعرية تتغير، ويتغير معها مفهومه للشعر. يوم بدأ يتخلى عن كونه شاعر الحزب، ويكتب شعرا يراعي فيه الشاعرية أولا. وهذا ما يقوله المقطع السابق الذي يتكون من ست فقرات تخالف الأخيرة الخمسة الأولى منها، فحين كانت كلماته تربة وغضبا وحجرا وثورة وحنظلا، كان صديقا للسنابل والسلاسل والجداول والزلازل والمتفائل، والمفارقة أن كلماته حين صارت عسلا غطى الذباب شفتيه. ولا يخفى المعنى على القارئ الذكي. واغتيال، فيما أرى، هي صياغة جديدة للفكرة التي وردت في "مزامير". إن "اغتيال" إذن تعيد من جديد فكرة تلح على درويش منذ خروجه من الأرض المحتلة، وهي ماذا يريد الآخرون من نصه، وماذا يريد هو. هل قلت كل شيء في "أثر الفراشة"؟ لا أظن ذلك، ولعل للكتابة بقية.

ليت الفتى حجر... ليت الفتى شجرة!

  ليتني حجر...:

أعادني درويش في موقفه من نقاده، كما بدا في قصيدة: "اغتيال" إلى مقولات نقدية تفكيكية قرأتها في كتاب (بيير ف. زيما): "التفكيكية" الذي عربه أسامة الحاج، وفي كتب نقدية أخرى. وهنا سأقتصر على مقولا وردت في كتاب (زيما) (بالعربية 1996) أظن أنها تقدم خدمة كبيرة لقراءة أشعار درويش، وربما يصح القول معكوسا: إن أشعار درويش، منذ "محاولة رقم 7" تصلح لأن تدرس وفق تلك المقولات، بل إنها من أفضل النصوص العربية التي تصلح لأن تدرس وفقها.

سأتذكر، ابتداءً، مقولة الناقد اللبناني جورج طرابيشي التي أوردها في مقدمة كتابه "الأدب من الداخل"، وهي: "إن أسوأ أنواع النقاد هم أولئك النقاد الذين يملكون مفتاحا واحدا لجميع الأقفال"- أي منهجا واحدا لجميع النصوص. وربما أضيف إليها رأيا آخر يخص درويش وأشعاره: إن أشعار درويش لا يجوز أن يتعامل معها بمنهج نقدي واحد، نظرا لاختلاف لاحقه، باستمرار، عن سابقه. وعليه فإن أشعاره قابلة لأن تدرس وفق غير منهج، وقد يحتاج الدارس الواحد إلى غير منهج وهو يدرسها.

سأعود إلى بعض عباراته، في قصائده الجديدة، ومن ثم سأعود إلى كتاب (زيما).

في يومية "ليتني حجر" يتمنى أنا المتكلم/ أنا الشاعر/ أنا درويش لو أنه حجر. وهو في بداية القصيدة يخبرنا أنه لا يحن إلى أي شيء. وإذا قرأنا عبارة: لا أحن إلى شيء مع العنوان فهمنا المعنى. إنه يتمنى لو أنه حجر، فلا يحن إلى شيء، لأن الحجر، لا يشعر بما يشعر به الإنسان: فلا أمس يمضي ولا الغد يأتي، ولا حاضري يتقدم أو يتراجع، لا شيء يحدث لي! ولكن درويش في نهاية اليومية يقول:

يا ليتني حجر
كي أحن إلى أي شيء

وفي قصيدة أخرى يتمنى لو أنه شجرة، لا لو أنه حجر. ما معنى هذا كله؟ هل من معنى للكلام الأخير؟ من الذي يحن ومن الذي لا يحن؟ هل الشاعر لا يحن، كما في بداية القصيدة، والحجر يحن، كما في نهايتها؟ ومن المؤكد أن القارئ العادي سيقول: بم يهذي درويش؟ ما الذي يقوله؟ الإنسان لا يحن إلى شيء، ويتمنى لو أنه حجر حتى يحن إلى شيء. هل غدا الإنسان أقسى من الحجر؟

ربما تذكر المرء هنا الشاعر إبراهيم طوقان في: الثلاثاء الحمراء، حين كتب عن الإنجليز:

لا تعجبوا، فمن الصخــور
نبــع يفـــور
ولهم قلوب كالقبـــــور
بــلا شــــعور
لا تلتمس يوما رجاء عند من
جربته فوجدته لم يشعر

وربما تذكر المرء هنا أيضا الآية القرآنية:

(ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة، وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار، وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء، وإن منها لما يهبط من خشية الله، وما الله بغافل عما تعملون) (البقرة 74).

وسيختلف القراء في تفسير ما كتبه درويش هنا. وربما تساءلنا: من هو المسؤول؟ أهو الشاعر أم نصه أم الأمر يعود في النهاية إلى اختلاف مستويات القراء. والنظريات النقدية الحديثة تميز بين قارئ وقارئ، قارئ عادي، وقارئ مثقف، وقارئ متخصص.

ما لاحظته وأنا أقرأ دراسات دارسي أشعار درويش أنهم لم يتفقوا، أحيانا كثيرة، على معنى ما لنص واحد. ولا أخص هنا الدارسين غير العرب، وإنما أعنيهم وأعني الدارسين العرب. خذ مثلا قصيدة مثل "عابرون في كلام عابر" واقرأ تأويلاتها المختلفة. طبعا أنا أميز بين قارئ محترف يتابع درويش وأشعاره، وقارئ آخر يدرسه على عجل، ولطالما أشرت إلى سوء قراءة لنص درويش من شعراء فلسطينيين تعجلوا في قراءة نصه وأسقطوا رؤاهم على ما لا يقوله النص. ولقد نشرت، ذات نهار، من هذا العام، في مجلة "ديوان العرب"، وهي مجلة الكترونية تصدر في أمريكا، مقالا عن سوء قراءة المتوكل طه، في كتابه "الآخر في الشعر الفلسطيني" (2006) لبعض مقطوعات درويش التي وردت في "حالة حصار" (2002)، وقدمت قراءة مغايرة، لعلها لا تدرج تحت ما قاله درويش: سوء تفاهم، ولعلها لم تكن اغتيالا له.

أعود إلى بعض مقولات التفكيكيين، كما وردت في كتاب (زيما) "فبما أنها يمكن أن تقرأ وأن تعاد قراءتها في سياقات مختلفة ومتغيرة تكون قابلة للتأويل وغير ثابتة". (ص58)

"إنهم يرون أن الكتابة كانت مشبوهة دائما لأنها قابلة للتأويل وتنزع إلى التملص من التحديد وحيد المعنى". (ص58)

"إن" مستقبل النص- نيتشه لم يقفل": ذلك أن ازدواجات هذا النص وتعددات معانيه تجعله "قابلا لأن تعاد كتابته ولأن يعاد تأويله ضمن سياقات جديدة. ويضيف دريدا: "ثم إن مفاعيل نص أو بنيته لا تقتصر على "حقيقة" هـ، على إرادة قول مؤلفه المفترض، لا بل على إرادة قول مُوقِّع وحيد ممكن تحديده" (69). و:
"كل مؤلف يمر بتجربة عدم فهم (القراء) له وفقا لنواياه، وهذا لا يعني أنه "أسيء" فهمه: لقد جرى فقط فهمه خلافا لما يفهم نفسه هو". (ص83).

هل من حق محمود درويش إذن أن يقول: يغتالني النقاد أحيانا؟

ربما يعتمد الشاعر على مقولات أخرى لا تأخذ بما تقوله التفكيكية، ولا تعطي القارئ الحق الكامل في تأويل النص. فإذا ما اختلف اثنان في قراءة نص، لاختلاف وجهات نظرهما، يرى بعض النقاد، حلا للإشكال، ضرورة العودة إلى النص ومساءلته، فقد يكون أحد القارئين بالغ في التأويل، وقوّل النص ما لم يقله، والسبب: سوء القراءة، عن قصد أو عن غير قصد. وأظن أن نصوص درويش، بل أجزم ، هي من النصوص المربكة التي تحتمل تأويلات عديدة، وكما ذكرت فإنه قال في مقابلات عديدة إنه ما عاد يكتب النص الذي يحتمل تأويلا واحدا.

قال درويش في رثائه عز الدين القلق: ليت الفتى حجر، وقالها أيضا في "أثر الفراشة"، ثم لما رأى الشجرة قال: وليته- أي الشاعر- قال: ليت الفتى شجرة.

  رائحة الموت، وصور الخراب:

لم أقرأ "أثر الفراشة" كتابا. لقد قرأت بعض مقطوعاته التي نشرت في "القدس العربي" (1/12/2007)، وتلك التي نشرت في "الحياة" وأعادت "الأيام" (رام الله) نشرها في 3/12/2007. واقترب عدد المقطوعات من ثلاثين، ولا أدري ما عددها في الكتاب الذي سيصدر. وكل ما قلته يعتمد على ما قرأت، ولا أدري إن كنت سأعيد النظر في بعض الأحكام، بعد قراءة اليوميات كاملة، وبعد قراءتها في زمن آخر، وهنا أستذكر مقولة أصحاب نظرية التلقي: إن قراءة نص واحد في زمنين مختلفين تؤدي إلى قراءتين مختلفتين. وربما أذكر درويش بمقولة أخرى لهم هي: إن قراءة قارئين مختلفين لنص واحد تؤدي إلى قراءتين مختلفتين، وليس عبثا أن اختارت مجلة "فصول المصرية، مجلة النقد الأدبي، بابا ثابتا عنوانه: "نص وقراءتان".

وحين قرأت النصوص التي نشرت في "القدس العربي" تذكرت ديوان درويش "حالة حصار" الذي أنجزه أبان حصار مدن الضفة في العام 2002، وهو ديوان يختلف في موضوعاته ومفرداته عما كتبه درويش في فترة ما بعد (أوسلو) حتى العام 2000، ويختلف أيضا عما كتبه في 2003 و2005- أي في "لا تعتذر عما فعلت" و"كزهر اللوز أو أبعد". إن ما نشر من يوميات في القدس العربي تعيد القارئ إلى حالة حصار، خلافا لتلك التي نشرت في "الحياة"، حيث تقترب من آخر مجموعتين لدرويش في موضوعات بعضها.

وسأضع إشارات على مفردات المقطوعات التي نشرت في القدس العربي، وسأرى فيها مفردات تجعلنا نشتم فيها، ومنها، رائحة الموت، ونبصر من خلالها صور الخراب. وإليكم هذه الجردة:

بارجة تتسلى بصيد المشاة، دم، ليل، طائرات تقصف، ذباب أخضر، قتلى، قتل، جارح، قاتل، ضحية، صراخ، جنازات، تدفن، غارات، أيتام، ثكالى، دم، صيف خريفي، اصفرار، تقشف، عبث، طبيعة جافة، محاصر، بقية موتى، قربان، وحش، العدو، مقاومة، جهنم، شهداء، نيرون، حريق لبنان، حريق العراق، حريق فلسطين، حريق العالم، غابة، جوع، جيش مهزوم، أشلاء، ذئب، موتى مجهولون، حمام معدني، عدم، حرب، ألم، قتل جماعي، البيت قتيلا، مقبرة، بئر، يتوجع، قتل، قتل، قتل، تناثر أشلاء، تتمزق، تتكسر، سحق، يسحق، تتطاير، أوج وهاوية، انتصرت وخسرت، مص دم، معركة عبثية، حمّى، تطن، وساوس، أرق، يد مبتورة الأصابع.... الخ الخ.

  اللافت: التجديد في الموضوع:

اختار درويش إلى جانب العنوان الرئيس: "أثر الفراشة" عنوانا آخر يحدد الجنس الأدبي الذي يدرج الكتاب تحته، وهو "يوميات"، ونتذكر هنا كتابه السابق "في حضرة الغياب" (2006) الذي أدرج فيه تحت العنوان الرئيس عنوانا آخر هو "نص"- هذا يعني أن الشاعر لا ينظر إلى كتابيه الأخيرين على أنهما شعر، علما بأن هناك فارقا بينهما، وبأن هناك اتفاقا. الفارق يكمن في ترتيب الكتابة، فهي في "في حضرة الغياب" تقول للقارئ العربي إنه يقرأ نثرا، لأن كتابة الشعر العربي، قديمه وحديثه، مغايرة لكتابة النثر في الكتب، وأما الاتفاق فيكمن في أن قارئ الكتابين سيقرأ كلاما للمجاز فيه حضور كبير، ما يعني أن درويش، وهو يكتب نثرا ويوميات، غير قادر على أن يتخلى عن الشاعر فيه إطلاقا. وربما تذكر المرء هنا العبارة التي استعارها من أبي حيان التوحيدي، وصدّر بها ديوانه الأخير "كزهر اللوز أو أبعد" (2005): "أحسن الكلام ما قامت صورته بين نظم كأنه نثر، ونثر كأنه نظم".

وأظن أن "أثر الفراشة" سيلفت نظر الدارسين إلى جنسه، وربما احتار بعضهم في تصنيفه: أهو شعر أم نثر: في الأسطر التي صدّرت بها "القدس العربي" اليوميات التي نشرتها ورد ما يلي:

"هناك في "أثر الفراشة" قصائد نثر حقيقية ترتدي قناع (اليوميات) المراوغ،...." وورد أيضا:
"يمكنني أن أسمي شعره شعرا ونثره قصائد نثر، لا يوميات، وفي ظني أن درويش اقترب، في يومياته هذه أكثر من أي مرة أخرى من قصيدة النثر بالمعنى الغربي للكلمة".

هنا سأشير إلى الموضوعات التي يخوض فيها درويش. إنها موضوعات خاض فيها من قبل، وأخرى لم يخض فيها. إنه يكتب يوميات/ مقطوعات/ قصائد نثرية، في موضوعات جديدة تستحق الالتفات إليها.

سيكتب درويش قصيدة عنوانها: البنت/ الصرخة في الفتاة الغزية التي قتل أهلها على الشاطئ (هدى أبو غالية)، وأخرى في العدو، وثالثة في البيت قتيلا (تدمير البيوت)، ولكنه سيكتب قصائد في الألوان: لون أصفر، وفي البعوضة التي تزعجه ليلا فلا تجعله ينام، وفي المشي. سيلتفت إلى الطبيعة أكثر، سيواصل ما بدأه في "كزهر اللوز أو أبعد" في هذا الجانب، فإذا كان زهر اللوز هناك سحره، وإذا كان منظر غياب الشمس أوحى له بكتابة "برتقالية"، فإنه هنا سيكتب عن الأشجار والحمام: الطبيعي والمعدني، وشال حرير... إنها موضوعات يكتب فيها لأول مرة، ما يعني أن هاجس الشاعر لا يقتصر فقط على التجديد في الشكل، وإنما على التجديد في الموضوع.

 شاعر مقاومة:

هل تدرج أشعار درويش هذه ضمن أدب المقاومة؟ ربما يجدر تذكر ما كتبه الشاعر في إحدى افتتاحيات الكرمل حول هذا المصطلح: شعر المقاومة، ففيها- أي في الافتتاحية رأى أن كتابة قصيدة حب، أو التغزل بالطبيعة الفلسطينية، يمكن أن تعد شعر مقاومة (الكرمل، ع85، خريف 2005): إن الجمال حرية والحرية جمال. وهكذا يكون الشعر المدافع عن الحياة شكلا من أشكال المقاومة النوعية". وأرى أن يوميات مثل: البيت قتيلا، ونيرون، وقانا طبعة جديدة، والبنت/ الصرخة، وعملية تسلل، أرى أن هذه اليوميات وما يشبهها هي من صميم شعر المقاومة الذي يفضح العدو وأخلاقياته. وكما ذكرت تحت عنوان "رائحة الموت، وصور الخراب" فإن مفردات درويش، في كثير من اليوميات، منتزعة مما نعيشه في فلسطين ونبصره يوميا.

في "حالة حصار" (2002) كتب درويش: "صرنا أقل ذكاء" لأن حياتنا اقتصرت على جانب واحد: متى نتخلص من العدو والاحتلال، حتى نلتفت إلى أشياء أخرى، وإلى مفردات جديدة وموضوعات جديدة. حاول درويش ذلك، ولكنه لم ينجح كليا، فالواقع يفرض نفسه عليه وعلينا، وأظن أن ما كتبه في "أثر الفراشة" من يوميات سيلفت نظر الدارسين ثانية إلى شعر المقاومة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى