الجمعة ٢١ نيسان (أبريل) ٢٠٠٦
"فرحان ملازم آدم".. فيلم يُدين النساء والمهمشين.
بقلم أمل الجمل

الفجر السينمائي الكاذب ..

قضايا المهمشين لها جاذبية وسحر خاص لدي المبدعين .. البعض يُوظفها عن وعي, والبعض الآخر يستغلها من أجل أغراض تجارية, وبريق النجومية الإعلامية لما تُثيره من جدل, وصراع فكري في كثير من الأحيان.. و" فرحان ملازم آدم" أحدث الأعمال السينمائية المصرية التي تدور حول المهمشين.

الفكرة الرئيسية للفيلم ـ الذي كتب له القصة والسيناريو والحوار الكاتب الراحل "محسن زايد" ـ هى المدينة التي تبتلع الوافد إليها سواء من الريف أو الصعيد. بطل الفيلم هو الشاب الصعيدي "فرحان ملازم آدم" الحاصل علي الثانوية العامة والذى جاء للقاهرة بأحلامه الكبيرة ليضع قريتة المجهولة علي الخريطة. فيعمل مُحصّل أتوبيس, ويُقيم في حارة شعبية أهلها من المهمشين الذين يعيشون تحت خط الفقر.. يتورط "فرحان" في عدد من المشاكل مع السلطة وأهل الحارة تنتهي بفقدان حبيبته التي تُصبح محرمة عليه. لأنه أقام علاقة عابرة مع أمها صاحبة البيت الذي أقام به.

بالتوقف قليلاً أمام مضمون واسم الفيلم "فرحان ملازم آدم" نكتشف العلاقة الوثيقة بين "فرحان" بطل العمل الفني وبين "آدم " أبوالخلق .. كلاهما ينتهي إلي نفس المصير .. خرج آدم من الجنة حينما أغوته حواء بالأكل من شجرة المعرفة .. وخرج "فرحان" من القاهرة علي يد حواء جديدة هي "أم فتنة".

الفيلم يُقدم جميع نماذج النساء سلبية متواطئة مع الفساد .. أم فتنة تُقيم علاقة غير شرعية مع المخبر لكي تحصل علي تصريح بزيارة زوجها المسجون. لكنها تكتشف ـ في مشهد ساذج ـ أنه مُصاب بالعجز الجنسي. ربما كناية عن استحالة وجود علاقة سوية بين السلطة والشعب.
تكشف الأحداث أن "أم فتنة" لم تساوم علي جسدها من أجل رؤية زوجها فقط ـ خاصة أنها رفضت الذهاب إليه وأرسلت ابنتها ـ لكنها أيضاً حاولت بأنوثتها مساومة المخبر حتى يغض الطرف عن أهل الحارة, ولا يقف لهم بالمرصاد. وفي نفس الوقت تُشبع رغباتها المكبوتة منذ عشر سنوات .. وتحت إلحاح رغبة جسدها لا تتورع "أم فتنة" عن مطاردة وإغواء "فرحان" وممارسة الحب معه , وهي تعلم جيداً أن ابنتها تحبه, لتنتصر الغريزة علي عاطفة الأمومة.

أما زوجة إسماعيل ـ كاتب الشكاوى المُغيب دائماً بالحشيش ـ تصرخ مختبئة وتُغطي شعرها كلما رأت رجلاً. لكنها تستسلم لإغتصاب الكهربائي دون أدني مقاومة, وتحمل منه جنينها الأول. ربما كناية عن جيل جديد من المهمشين غير الشرعيين.
في الفيلم نموذج آخر يُدين النساء من خلال فتاة ريفية جاءت إلي القاهرة لتواصل دراستها, وتحضر الفتاة قبل بدء العام الدراسي بحجة العمل سكرتيرة. لكنها تنحرف. في إشارة أن المدينة تُلوث الجميع وتفقدهم براءتهم .. وربما يُدين السيناريست أهل القرية مثلما يُدين أهل المدينة.

"فتنة" ـ بائعة الكُشري ـ هي النموذج الوحيد النقي من نساء الفيلم. لكنها أيضاً متواطئة مع الفساد وصامتة أمام انحلال وانحراف أمها.

"فرحان ملازم آدم" عمل فني غير بريء يسعي لبيع أسطورتة عبر خطاب سينمائي .. لكنه يطرح عدة قضايا دون التعمق في أي منها. يحكي عن معاناة المهمشين, من يعيشون تحت خط الفقر.. الذين تفشى بينهم الفساد واستشري بشكل يشي أنه لا جدوى من إصلاحه إلا بنسف هذا المجتمع من جذوره.

تكشف أحداث الفيلم عن الفساد الذي ينخر في ثنايا المجتمع. كما تُعري وتفضح التواطيء بين السلطة, وبين أهل الحارة, عبر اتفاق ضمني بسرقة المياه والكهرباء وإقامة منازلهم في مقابل عدم الاعتراض علي فساد الحكومة .. وحينما اعترض أهل الحارة تم تحطيم مصادر رزقهم, ونالوا نصيبهم من الضرب والإهانة والجروح المادية, والمعنوية.. في النهاية تتمكن المقاومة الشعبية من الانتصار علي السلطة. لكن عبر وسيلة رخيصة, مبتذلة, وغير شريفة. وسيلة تحمل إدانه للمقاومة الشعبية أكثر ما تنتصر لها.

طرح كاتب السيناريو موضوع شائك هو السلطة وعلاقتها بالشعب المطحون, وحاول نقد النظام الحاكم. لكن عن بعد وعلي استحياء شديد للغاية. وعلي قدر الخوف جاء فشل الفيلم. لأنه في الفن الجيد لا توجد منطقة وسطى. فالفن قرار إما أن تقول أولا تقول .. الفيلم بتبسيطه للموضوع يمكنه أن يخدم ـ أيديولوجيا ـ السلطة القائمة التي يبدو ظاهرياً أنه يهاجمها و يُعريها.

اختلت منظومة فيلم "فرحان ملازم آدم" بسبب عدم طموح صُناعه. فالسيناريو افتقد النسيج المتماسك الصادق والتلقائي .. ورغم أنه لم يعتمد في بنائه علي الحدث, لكنه أيضاً لم يُبحر في أعماق النفوس البشرية للمهمشين.. وظهرت شخصية الصعيدي ساذجة لحد الغباء, وتم تجسيد شخصية شيخ المسجد وتصويرها بشكل كاريكاتيري مبالغ فيه. فبدى العمل وكأنه تجميع لشخصيات سطحية نمطية ظهرت مئات المرات بالسينما المصرية.وجاء الحوار يعاني من ملل التكرار والتطويل.

فترات الصمت المشحونة التي قد تتخلل العمل الفني وتأتي بأثر فريد في قوته, إلا أن "فرحان ملازم آدم" لم يكتفي بفشله في توظيف الصمت أوالسكون. لكنه قام بنفيهما من الفيلم إلا في مرات قليلة أفسدها أداء الممثلين المبالغ فيه, وبقيت الأصوات عالية بشكل مُزعج وفج طوال الفيلم.

فكرة الفيلم هي الآخرى ليست جديدة. فهي مستنسخة بشكل رديء عن القصة القصيرة البديعة "النداهة" للكاتب الكبير "يوسف إدريس". لكن صُناع العمل لم يُشيروا إلي ذلك. ورغم محاولات التغيير العديدة في الشخصيات والأحداث لكن التجربة لم تكلل بالنجاح, وظهرت نقاط تماس عديدة بين الفيلم والقصة الإدريسية, أولها فكرة المدينة التي تبتلع القادم إليها من الريف أو الصعيد. و"فتحية" بطلة "النداهة" تحولت إلي "فرحان" بطل الفيلم. كما أن كلاً منهما يتم إغتصابه في المدينة.

مزج كاتب السيناريو بين صفات عدة شخصيات في شخصية واحدة, وأحيانا آخرى وزع صفات الشخصية الواحدة في القصة علي أكثر من شخصية في الفيلم. فشخصية "فتحية" وزوجها حامد في "النداهة" اجتمعت في شخصية "فرحان" الذي يعود في نهاية الفيلم إلي القرية مثل حامد. في حين تهرب فتحية من زوجها وتعود إلي القاهرة بإرادتها.

أيقنت فتحية بطلة "إدريس" أن حياتها في بلدها محدودة وأنها حتماً ستعيش في مصر أم الدنيا .. وفرحان بطل "زايد" جاء من قريته المحدودة غير المعروفة ليضعها علي الخريطة.
فتحية تشعر أن المدينة بحر لابر له ولا قرار تسير علي حافته وإن هي سهت مرة واحدة وزلت قدمها فقل عليها السلام, وكذلك فرحان .. كما تعلم فتحية أن المدينة مليئة بالفضائح والمخازى. لكن تظل المدينة عظيمة في نظرها وهو نفس موقف فرحان الذي يعترف عند رحيله أن فراق أهل القاهرة صعب عليه.

"حامد" في "النداهة" لم يبكي إلا مرة واحدة جاءت في عظمة يوم القيامة .. صدرت عنه نهنة رجالية منخفضة مكتومة كادت الزوجة علي أثرها أن تُجن وكادت تطلب منه أن يكف عن بكاء النساء, ويعود كما كان رجل القرية. لكن فرحان في الفيلم بكي كثيراً مما جعل البكاء يفقد جلاله ومعناه.

أجمل ما في الفيلم .. أغنية "نازل علي المزار" بصوت فتحي عبد الوهاب الذي نجح في أدائها بعكس تمثيله النمطي للدور, ونظرات الحادة غير المعبرة, وصوته الذي افتقد الدفء الانساني.. أصبح "فتحي" يُكرر نفسه, حركاته وإيماءاته, وعليه أن يخرج من هذه الدائرة قبل أن يكتب نهايته كممثل يمتلك بصمة خاصة.
جميع الممثلين بالفيلم ـ باستثناء لبلبة ـ بحاجة لوقفة مع النفس وتقييم ما يفعلون عبر مرأة صادقة.. لأنهم يُمثلون ليس علي الجمهور لكن علي أنفسهم .
استطاعت لبلبة أن تسرق الكاميرا طوال الوقت بحرفية عالية خاصة في المشاهد الصامتة. أما حسن حسني فلم تُسعفه الإفيهات ولا الدور الفقير علي إظهار قدراته المتميزة في الأداء.
أخرج "عمر عبد العزيز" الفيلم علي الطريقة الشرعية ودون أي إبداع .. كما أنه مسئول عن ضعف وفقر الديكور والاكسسوار في أماكن التصوير. وكذلك المكساج السيء جداً, والموسيقي المبالغ فيها بشكل لا يتناسب مع الفيلم.

تخيل البعض أن الفيلم ربما يكون عودة للسينما الجميلة التي انطفأ بريقها.. لكنه أثبت أنه الفجر السينمائي الكاذب. فهو لا يتعدى سهرة تليفزيونية متواضعة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى