الخميس ٢٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨
أكرم هنية
بقلم عادل الأسطة

بعد الحصار... قبل الشمس بقليل

اختارت سلمى الخضراء الجيوسي في موسوعة الأدب الفلسطيني المعاصر هذه القصة لتمثل أكرم هنية.

ويلحظ من يتتبع المختارات القصصية التي صدرت أن قصص القاص التي اختيرت لتمثل نتاجه هي "القرار" و "مؤتمر فعاليات القرية يصدر قراراً هاماً"، وقد صدرتا في مختارات عنوانها " قصص قصيرة من الوطن المحتل (القدس، 1981 )، و"أبو القاسم يشارك في النهوض الجماهيري " وقد ظهرت في " انطولوجيا القصة القصيرة الفلسطينية " (عمان، 1991 ). ولم تخل المختارات التي أصدرها فخري صالح عام 1982، في بيروت، من اسم أكرم هنية، والشيء نفسه يمكن قوله عن كتاب خيري منصور " الكف والمخرز ".

أصدر أكرم هنية ثلاث مجموعات قصصية في ثلاث سنوات متتالية هي " السفينة الأخيرة... الميناء الاخير " (1979) و" هزيمة الشاطر حسن " (1980)، و" وقائع التغريبة الثانية للهلالي " (1981)، وقد صدرت هذه معا مع مجموعة رابعة تحت عنوان " طقوس ليوم آخر". وأصدر، فيما بعد، "أسرار الدوري" (2001) و "دروب جميلة" (2007)

وزمن كتابتها هو نهاية السبعينات، وفي هذه الفترة عاد أكرم هنية الذي غادر الضفة الغربية، عام 1971، ليدرس، في القاهرة، الأدب الانجليزي، عاد ليصيح محررا في جريدة " الشعب " المقدسية، وليغدو رئيس تحريرها، وانفق فترة طويلة في مدينة القدس التي كان لها، في قصصه اللاحقة، حضور بارز أيضا، وبخاصة في قصة "طقوس... في المرحلة السادسة " وقصته " طقوس ليوم أخر ".

وقد لفتت قصص هنية أنظار النقاد والدارسين، فكتبوا عنها عشرات المقالات التي ظهرت، في كتاب " الدخول الى حبر الروح "، كما درست في رسائل جامعية، في اثناء دراسة الحركة القصصية في الضفة الغربية وقطاع غزة ما بين 1967 و 1981 وأنجزت عنه، في جامعة النجاح الوطنية رسالة ما جستير، ويعد الكاتب في قصصه، في تلك المرحلة، من ابرز المجددين في القصة القصيرة، إذ جنح، في بناء قصصه، الى التجريب والمخيلة، وإذا كان التجريب ذا حضور، قبل إصداره مجموعاته، كما في قصص محمود شقير " الولد الفلسطيني" (1977) وقصص محمد علي طه " عائد الميعاري يبيع المناقيش في تل الزعتر" (1978)، فإن إعمال المخيلة، يكاد يكون ميزته الخاصة، هذا إلى جانب ميزة أخرى عرفت في القصة العربية، ولكنها لم تحضر في القصة في الضفة وقطاع غزة، وهي ميزة توظيف التراث الشعبي والتراث الأدبي العربي الرسمي في بناء قصصه، وهو ما نلحظه في قصة " هزيمة الشاطر حسن " وقصته " وقائع التغريبة الثانية للهلالي " وقصة " النابغة الذبياني يهجو النعمان بن المنذر"، وقد أتيت على هذه كله، بالتفصيل، في كتابي" القصة القصيرة في الضفة الغربية وقطاع غزة " (1982(

وحين تدرس القصة القصيرة تحت الاحتلال الإسرائيلي، وبخاصة في مناطق الاحتلال الثاني - أي الضفة الغربية والقطاع – فإن هنية يعد نموذجا جيدا للدراسة. حقا انه ليس الكاتب الوحيد، فقد أنجز قبله كل من خليل السواحري ومحمود شقير قصصا مميزة على صعيد الشكل والمضمون، وأنجز قبل عودته إلى الضفة في العام 1979 قصاصون آخرون قصصا لابأس بها، مثل غريب عسقلاني وزكي العيلة وآخرون، ولكنه، فيما رأى، الأبرز بين جيل السبعينات والثمانينات، وذلك لتنوع موضوعات قصصه/ ولثراء أشكالها، ولكتابته القصة الواقعية والقصة ذات البعد الرمزي والقصة التي تنزع نحو الحداثة، القصة التي يفيد في بنائها من معطيات عصره كالسينما والصحافة.

الواقع هو الخيالي الأكيد:

يتخذ أكرم هنية، وهو يكتب " بعد الحصار... قبل الشمس بقليل"، يتخذ من مدينة القدس مكانا لبناء قصته، وإذا كان الحصار يفرض على المدن غالبا، وهذا ما تذهب إليه المخيلة البشرية غالبا، فأنه يفرض أيضا على الأشخاص، وتعزز قراءة القصة ما تذهب إليه المخيلة، للوهلة الأولى، إذ القدس هي المحاصرة.

يصحو أهل المدينة ليجدوا الصخرة وقد اختفت، والأشخاص الأربعة الذين كانوا أول من انتبه إلى اختفاء الصخرة هم البائعة آمنة وموزع الجرائد أبو مازن وسليمان الخباز والحاج أبو فؤاد الذي تعود منذ أربعين عاما على أن يخرج، في الصباح، من بيته ليصلي في الحرم.

ويرصد السارد – تقص القصة من خلال الضمير الثالث – ردود أفعال هؤلاء وغيرهم إزاء الحدث: يتدفق الناس إلى الشوارع، وتبدو الحيرة في نظراتهم، ولا يصدقون ما جرى، ويشرع بعض الرجال والناس بالبكاء، وتختلط الأصوات التي يكون بعضها ساخراً من الرئيس أنور السادات الذي زار المدينة ليعقد صلحا مع دولة إسرائيل.

وإذا كان القاص أبرز ردود أفعال الناس، بشكل عام، فإنه يعود ليبرز أثر الحدث على الشخصيات الأربعة التي لاحظت، ابتداء، وقبل غيرها، ما حدث.

تجلس آمنة على الدرجات المؤدية لباب العامود ساهمة تحدق في لاشيء، وتتذكر علاقتها بالمدينة وزيارتها الأولى لها، كما تتذكر زيارتها الثانية، تتذكر أباها الذي اصطحبها وهي طفلة، وتتذكر زوجها الذي اصطحبها يوم غدت عروسا، وترى القدس الآن غير ما كانت عليه " أصبحت المدينة مرتبطة بذهنها بزوجها السجين وطفليها اللذين ينتظرانها في البيت، وفي مضايقة بعض الرجال ومساومات الزبائن " وتتساءل، وهي تنظر حولها،: "هل يحبون القدس مثل زوجي".

أما أبو فؤاد الذي انفق أربعين عاما وهو يزور الحرم فيحزن، وحين يتذكر أن صلاة الفجر فاتته بسبب اختفاء الصخرة يتمتم: " ولكن أشياء كثيرة ضاعت، وإن أضاف، بعد أن استرد شيئا من صلابته،: " الحمد لله" مازلنا نحن هنا".
وأما أبو مازن الذي اغرورقت عيناه بالدموع، دون أن يعرض شيئا من المجلات والجرائد والكتب، ودون أن يذهب لإحصاء كميته ويمارس الطقوس التي اعتاد ممارستها، فإنه يتساءل: " ولكن ألم تتغير الطقوس منذ سنوات؟ " ويتذكر ابنه الصغير الذي يرمي الجنود بالحجارة، وهنا يهمس: " آه.. هؤلاء الصغار... إنهم يحبون القدس أكثر منا؟".

ويظن سلمان الخباز أن لا رغبة لأحد بأن يأكل أي شيء صباح اختفاء الصخرة، ويشعر بأن جزءاً أساسيا من ماضيه قد اندثر، وهو منذ سنوات، يشعر بالغربة، وأن القدس هذه ليست القدس التي يعرفها، ويتوصل إلى أنه لم يكن ايجابيا بما فيه الكفاية.

تنتهي القصة بالأسطر التالية:

" عندما هبط الظلام... بدأ سكان المدينة القديمة يتحركون من أماكنهم... اتجه كثيرون للنوم في رحاب الحرم... وعاد الباقون وخاصة النساء والأطفال إلى بيوتهم... كان الجنود ما يزالون فوق الأسوار... ولكن كان يمكن مشاهدة النجوم بوضوح في السماء... وكانت أزقة المدينة القديمة ترجع وقع خطوات ثابتة واثقة ".

وكما يلحظ فان القاص بنى قصته على حدث متخيل هو اختفاء قبة الصخرة، ولكن هذا الحدث المتخيل له أساسه في الواقع. لقد احتلت القدس عام 1967، وأحرق الأقصى في عام 1968، وما تزال الحفريات حول الحرم جارية، ولا يدري المرء إلام ستؤول الأمور إذا ما واصل الإسرائيليون إصرارهم على أن القدس هي عاصمة دولة إسرائيل إلى الأبد. وهناك، على ارض الواقع، ما يعزز مقولة" الواقعي هو الخيالي الأكيد". تحاط القدس بالمباني الإسرائيلية، ويستولى على البيوت القديمة فيها، بالتهديد وبالترغيب وبالتزوير وبالادعاء، وكل من يزور القدس ويرى ما آلت إليه، ويقارن بين ما هي عليه الآن، وما كانت عليه قبل عام 1967، يقرأ الفاتحة على المدينة. ولا أعتقد أن فكرة اختفاء الصخرة، في القصة، جاءت من فراغ. إن ما هو خيالي له نصيبه من الواقع. ويمكن قول العكس أيضا.

على الرغم من أن القصة تحفل بما يبعث على التشاؤم، وعلى الرغم من أن ما يصدر من عبارات عن شخوصها الأربعة يعبر عن التشاؤم والتفاؤل معا، إذ يتحسر الشخوص على ما جرى ولكنهم في الوقت نفسه يعلنون عن حبهم للمدينة، وأنهم ما زالوا فيها، وأنهم لم يعملوا لها بما فيه الكفاية، إلا أن القاص ينهي قصته بما يبعث على التفاؤل "كان الجنود ما يزالون فوق الأسوار.. ولكن كان يمكن مشاهدة النجوم بوضوح السماء.. وكانت أزقة المدينة القديمة ترجع وقع خطوات ثابتة واثقة".

وغالبا ما كانت قصص أكرم هنية تحفل بنهايات كهذه، وإن كان بعضها يبدو مفتعلا، وإن كان الواقع، أحيانا، لا يبعث على مثل هذا التفاؤل. وعلينا، ونحن نلحظ ظاهرة النهايات هذه، ألا ننسى أن أكرم هنية كان يرمي، وهو يكتب قصصه، إلى بث روح التفاؤل بين الناس، حتى يصمدوا في أماكنهم، باعتبار الصمود الفضيلة الأولى، وهو ما كان يراه أيضا إميل حبيبي وغيره من كتاب الأرض المحتلة عام 1948. كان يرمي إلى ذلك، ويبدو أن نشاطه السياسي الذي أبعد عام 1986 بسببه كان وراء إنجاز قصص ذات نهايات متفائلة، إذ أن السياسي المتشائم لا يجد ربه أن يظل في موقع يقود فيه الآخرين.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى