السبت ٢٠ أيار (مايو) ٢٠٠٦
الفيلم العراقي «غير صالح» مغامرة داخل المغامرة
بقلم أمل الجمل

تحية لقوة الحياة في مواجهة الموت والدمار

الفيلم العراقي «Underexposure « أو «غير صالح للعرض» إنتاج عام 2004، والذي عُرض في مهرجان القاهرة السينمائي الأخير هو أول فيلم عراقي روائي طويل يصوّر بالكامل في بغداد عقب الحرب الأميركية على نظام صدام حسين وإطاحته، ويأتي بعد سنوات طويلة من توقف إنتاج السينما العراقية الروائية منذ أوائل التسعينات. وهو ثمرة جهد مجموعة من السينمائيين العراقيين أطلقوا على أنفسهم مجموعة «الناجين»، أي الناجين من الحرب.. الفيلم يُثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن الفن الجيد لا يحتاج إلى مؤسسات ضخمة أو إلى تمويل أو نجوم، وأنه يخرج على رغم أنف الظروف القاسية، والأوقات العصيبة، بل ربما كانت هذه الظروف دافعاً قوياً لميلاده القيصري.

يمزج الفيلم بين الأسلوب الروائي والتسجيلي. فهو فيلم داخل فيلم، فيه يدفع المخرج بدفتر يومياته المملوء بآلام الحرب، يُحاول أن يبث الحياة في الذاكرة، ويُترجمها إلى سينما. إنه فيلم يشبه العزف على القيثارة، له نسيج خاص يُشبه أهل العراق، يسرد حكايات مشبعة بالقهر والموت والحب، حكايات ينتابها التردد بين موجات اليأس والأمل. فيها يُحاول المخرج أن يمزج الفرح بالحزن بالغضب. فرح بسقوط نظام «صدام حسين»، وحزن على النفس والأهل والوطن، وغضب مما يفعله الأميركان في بلاده. الفيلم وثيقة ترصد الحياة في العراق، وتعكس الواقع الجديد، وتسجل ما أصبح عليه العراق عقب الغزو الأميركي.

يطرح الفيلم آثار الحرب والدمار على المستويين النفسي والإقتصادي على مختلف فئات الشعب العراقي، ويرصد الخراب الذي عم المنشآت العراقية، والآلام التي يُعاني منها المدنيون الأبرياء. «ميسون» موضوع فيلم أخيها وحبيبها حسن، هى مُدرسة توقفت عن الذهاب إلى المدرسة خوفاً من القصف، فأصابها الحزن والإكتئاب من جراء حبسها لشهور طويلة. تجد عزاءها في جسدها. لكن الغياب المستمر لحبيبها، ووحدتها القاتلة تجعلها تُقرر العودة الى عملها بلا خوف. حسن يجد سلواه في إيمانه بأن أفلامه ستحيا وتُخلد، لكن عازف الموسيقى المُقعد يجد الموسيقى عاجزة عن وصف حالة الحرب والدمار التي شملت المدينة، فينتهي إلى الموت. ناصر شاب مشرد أو مُصاب بالجنون يهيم في الشوارع أثناء القصف ليجمع الأكياس النايلون ذات الألوان المشرقة ليُزين بها جدران مأواه، عندما يجد جندياً عراقياً مصاباً يحمله على أكتافه ويحاول إنقاذه. يستشعر في وجوده دفء الصحبة المفقود، لكنه في منتصف الأحداث يلقي به في النهر فيقتله، مثلما يفعل مع نفسه. يُقدم الفيلم العديد من ضحايا الحرب ومنهم بائع الصحف بحذائه الممزق وخفة دمه، الأب الذي فقد ولده في الحرب لكنه يستمر في الحياة الخ، يكشف عن وجود الحياة والموت جنباً إلى جنب، وقوة الحياة في مواجهة الموت.

تحقق الأسطورة

كانت فكرة الفيلم ورحلة خروجه الى النور وإنتاجه أشبه بحرب شرسة اكتنفها جنون التحدي، وأكدت صدق مقولة الروائي باولو كويلهو في روايته «ساحر الصحراء»: «أن الطبيعة حينما تتحقق من صدق أسطورة الإنسان تتآمر ضد كل الظروف حتى تُحقق له هذه الأسطورة».

يحكي عُدي رشيد مخرج الفيلم عن الفكرة التي طرحها زياد التركي مدير تصوير الفيلم، بأن يُصورا فيلماً بالأبيض والأسود عما يحدث في العراق، حينذاك كان يصل إلى العراق لفات شريط نيجاتف قياس 35 ملم أبيض وأسود، بطول 1000 قدم للفة الواحدة ليتسلمه التجار ويقطعوه ثم يلفوّه في بكرات الفوتوغراف 36 كادراً للبكرة الواحدة. فكر زياد وعُدي في شراء هذه اللفات قبل التقطيع ووضعها في الكاميرا السينمائية، واتفقا على أن يُصور زياد ثم يقوم بالتحميض بنفسه في معمله الخاص الصغير. بدأ عُدي في كتابة السيناريو، لكن المشروع أُجهض لعدم قدرتهما على الحصول على كمية الفيلم الموجب لطبع الفيلم، حيث كان من المستحيل وضع النيجاتف داخل ماكينة المونتاج لأنه سيتلف مع بداية عمله.

عادت الفكرة الى «الحياة» من جديد حينما فتح زياد إحدى علب الفيلم الخام الذي توقفت «كوداك» عن إنتاجه منذ عام 1982.. كان الفيلم الخام قديماً جداً، أصابته حالة تيبس، وكان الشريط قابلاً للكسر عند لمسه... الخوف من تلف الفيلم الخام جعلهم يُجرون اختباراً «تست» في غرفة مظلمة: اقتطع زياد جزءاً من الشريط ولفه في كاميرته الفوتوغرافية، وأخذ يصور تدريجاً لونياً لثلاث درجات لونية الأبيض ثم الأسود فالرمادي. اكتشف بعد تحميض الفيلم إمكانية التصوير على تلك الخامة، فواصل عُدي كتابة السيناريو، واستخدما كاميرا سينمائية قديمة نسبياً هى «أريفلكس بي ألـ 3»، كانت من نوع «كارل ساي»، لم يستعملها أحد منذ ما يقارب الـ 20 سنة.

استطاع عُدي من خلال مساعدي مدير التصوير الوصول إلى بيتر بويس المسؤول عن مبيعات «كوداك» في الشرق الأوسط، والذي أقنع «كوداك» بأن تُحمض الفيلم مجاناً. كان زياد يجرب كل شيء: صور أول تجربة نهارية، وجاءت النتائج جيدة، أعقبها بتجربة أخرى ليلة داخلية. قاموا بتحميض الفيلم في بيروت. لكن تصحيح الألوان والمكساج والمونتاج تم في برلين. لجأ المصور إلى استخدام ضوء أكثر مما في ظروف التصوير العادية وذلك لتلافي عيوب التصوير، كما نفّذت معالجات كيميائية بمعامل كوداك. بعض الممثلين كان يقف للمرة الأولى أمام الكاميرا. لكن الكمية المتاحة من الفيلم الخام كانت قليلة جداً، لذلك لم يتمكن الممثلون من إعادة تصوير أي مشهد، كانوا يقومون بعمل بروفة على المشهد من دون تصوير حتى إتقانه ثم تدور الكاميرا للتصوير.

الفيلم يُذكرنا بما حدث في الإتحاد السوفياتي «سابقاً» بعد ثورة 1917 عندما عُزل عن بقية دول أوروبا من الناحيتين الاقتصادية والثقافية. لكن مع أوائل العشرينات جرت تجارب فنية جريئة في روسيا، فظهرت في الموسيقى أصوات جديدة غريبة تُقلد خلاطات الأسمنت والجرارات والشواكيش، وفي المسرح امتزجت المسرحيات الكلاسيكية على خشبة المسرح مع البهلوانات، وأخذت السينما نصيبها من هذا التطور فبدأت سلسلة عظيمة من الأفلام الروسية منها: المدرعة بوتمكين ـ الأم ـ عشرة أيام هزت العالم ـ نهاية سانت بيترسبرج ـ عاصفة فوق آسيا ـ الأرض.
«غير صالح للعرض» هو الفيلم رقم 100 في تاريخ السينما العراقية الذي بدأ فعلياً على أيدي مصريين عام 1946 بفيلمي «ابن الشرق « والقاهرة بغداد»، والذي شابه كثير من الضعف بسبب الظروف السياسية وحالة الحرب شبه المستمرة والحظر الدولي المفروض على العراق لفترات طويلة.

في النهاية فيلم «غير صالح للعرض» تجربة تنبض بالحياة، ومليئة بالتحدي، تحدي الموت والقهر وفقرالإمكانات، تجربة تُثبت أن السينما العراقية تُبعث من جديد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى