الاثنين ٧ آب (أغسطس) ٢٠٢٣
بقلم تامر عبد العزيز

حفلة عيد الميلاد

لازلت اذكر تلك الليلة، حيث حفلة عيد الميلاد، وقد كنت كعادتي دائما أداوم علي الحضور مبكرا، وذلك حتى يتسنى لي الإستطلاع على المكان. ذلك كان عن رغبة مني في زوال الرخبة عني، وحتى يشع الإطمئنان بداخلي، وبالتالي يتضاءل شعوري بالاغتراب والوحشة. ذلك الشعورالقاسي الذي عادة ما أعاني منه كثيرا خاصة في تلك الاوقات الاحتفالية.

بمجرد وصولي إلي البوابة الرئيسية، ما لبثت أن قطعت الدهليز الطويل ذو الإضاءة الصفراء الباهتة في خطوات سريعة، و ماهي الا بضع ثواني حتى تمكنت من الوصول إلى القاعة الكبري، وكانت تلك القاعة هي المعنية بالاحتفال. كانت ذات باب خشبي كبير، وكان مفتوحا علي مصراعيه، وبمجرد أن دلفت إلى القاعة حتي وجدت طاولة مستطيلة كبيرة علي غرار طاولات الملوك و الأمراء، وقد تراصت عليها شتى أنواع المأكولات مما لذ وطاب، وحلوي من مختلف الأنواع و الأشكال، ومشروبات متنوعة الأطعمة غازية وشتى أنواع العصائر. كانت من تلك الموائد التي فقط مجرد النظر إليها يمكن أن يسير اللعاب ويحرك الشهية، أما بالنسبة للروائح الذكية التي تفوح بها الوليمة. فحدث ولا حرج. كانت أشبه بمائدة من حكايات ألف ليلة و ليلة، وكان الخدم يتحركون كخلية النحل في نظام ونسق ومهارة مثيرة للإعجاب. لم يقتصردورهم فقط هلى تلك المائدة الأسطورية. فقد كانوا كذلك يتناوبون على إعداد الموائد الدائرية الصغيرة، والتي غصت بالكؤؤس الكريستالية البراقة والمناشف وأدوات المائدة من مختلف الأحجام، وما هي سوى بضع دقائق حتي بدأ الحضور يتوافد من كل حدب و صوب إلي القاعة.

في البداية كنت منشغلا بمتابعة الحضور. فكنت أتأمل بعمق أوصافهم وملابسهم المنمقة وطريقة كلامهم، فقد كانت من عادتي مراقبة الناس عن كثب و التمتع بمشاهدتهم، ربما ذلك عن تطفل وفضول مني، وربما لأني كنت كذلك أهوى كشف ذلك الغطاء الكثيف الذي يزين به الإنسان نفسه، فيحاول أن يجعل ذاته علي ابهي صورة حيث يحاول دائما الاقتراب من المثالية، وبذلك يظن أنه قادرا على ستر عيوبه و نواقصه، ولكنها بالنهاية تبقى مثالية جوفاء،لا تخدع إلا من يريد أن يخدع نفسه بالمظاهر الزائفة عن الحقائق الراسخة، فقد كنت كثيرا ما يسنى لي إكتشاف و الرؤية بوضوح لما يعتمل داخل المرء من مختلف السخافات والحماقات، و حتي ذلك الضعف الإنساني الذي ربما يميزناعن الملائكة. الإنسان ذلك الكائن الفريد الذي ربما يتجاوز في تقواه و يسمو حتي إلى عنان السماء حتي يصل في مرتبة قد تفوق مرتبة الملائكة، والذي أوقات أخري قد يتردى إلي اقصي درجات الحضيض ،ويفوق في رذيلته حتى مفستوفليس شرا وإجراما.

فجاءة توقفت عن كل ذلك التفكير عندما خطف ناظري مشهدها، فلم أرى لجمالها مثيلا من قبل. كانت تزدان بالالوان الخلابة في صورة أسطورية ساحرة-انتظرلا تتسرع بالحكم علي - فليست كما تعتقد و ستدرك ما أعنيه لاحقا، فبمجرد أن تتابع حركتها وهي تحوم في القاعة متراقصة، وتجعلك تتوقف مبهورا من رشاقتها وروعة أدائها. لم أستطع ان أغيب نظراتي عنها، و ظللت لدقائق طويلة اتابعها، حتي انني شعرت إنه ليس في الحفلة كلها ما يمكن أن بقارن بجمالها. كنت كالمشدوه بجمالها، حتي أنني لم اكتف بمتابعتها بكلتا عيناي، لكنني كذلك تحركت، سرت في إثرها، بالفعل تحركت تحرك المجذوب خلفها، اتابعها عن كثب، وأنشغلت عن كل الحفلة من ألوان الترف، فلم أعد اشعربمن حوالي، حتي حدث الموقف المحرج.

عندما اصتطدمت اثناء تنقلي مبخور خلفها بأحد الخدم، وفوجئت بأن حلتي قد تلطخت بالمشروب و قطع من الحلوى، وزاد إحراجي قهقهات المدعوين من حولي و هم ينظرون إلي بنوع من السخرية، وأضطررت وسط دوامة الخجل التي سقطت فيها أسفا إلي الذهاب الي دورة المياه لتنظبف الحلة، وتركت خلفي متابعة ذلك المشهد البديع، وتعجبت من أن كل لحظة حالمة جميلة في الحياة غالبا ما يعقبها اوقات سيئة ومواقف مبتذلة، وكأن الدنيا كثيرا ما تعاقبنا علي اللحظات السعيدة المسروقة من فم القدر الجهنمي، فلا تلبث أن تسترد ما منحته لنا في ساعة من سعادة بأيام يملؤها الآسى.
نظفت حلتي سريعا ثم قفلت راجعا، ولكن عندما عدت إلي قاعة الاحتفال، لم تعد تشغلني الموسيقي الراقصة ولا حتى الطعام الشهي، و لا المشروبات اللذيذة، بقدرما شغلني فقدانها. نظرت حولي فلم اهتد إلى مكانها، وبما لن أجدها ثانية،و لكني عزمت علي البحث عنها، فربما تكون بإحدي الأركان. استمربحثي عنها في كل الارجاء ،و كلما مر الوقت تتضاءل الأمل لدي فى إيجادها، و لكن اليأس لم يتملك مني تماما، لذلك أقتربت من النافذة التي تطل علي الحديقة، يحدوني بذلك الأمل أن أجدها بين الزهو، وذلك كان مكانها الطبيعي،و استمررت في البحث و التنقيب عنها ، حتي نسيت كل شىء سواها، فلم أجدها في أي مكان، وقد كنت تحت سلطان سحرها.

وبعد فترة طويلة ،وعندما فتح الباب الغرفة الرئيسة لثواني، وجدتها، ويالهول ما وجدت، لقد صعقت فقد كانت تلك الفاتنة بين أحضان ابشع الكائنات، بلونه الاسود وأرجله الطويلة البشعة. كان ينسج خيوطه الرمادية اللامعة، بينماهي تكافح للتملص من تلك الشبكة الجهنمية، كانت جميلة بشكل لايوصف بينماهو قبيح بشكل مقزز.منتهي الجمال يحتضنه أقصي درجات القبح في مزيج عجيب جميع المتناقضات، بين الحياة بروعتها والموت برهبته، حيث السلام والجمال يمكن ان يمتزج ببشاعة القتل.

كان المشهد الأليم يقشعر له بدني، وقررت أنأبذل جهدي وأن اقلب المعادلة وأن اخلصها من ذلك المصيرالبشع، وبينما أنيابه تبحث عن جسد الفريسة الرقيقة، لتغرس سمها الفتاك، بحثت عن أي سلم، أوأي شئ استطيع التسلق عليه لتخليصها من تلك النهاية، ولكن بسؤال الخدم، تعجبوا مني كثيرا حتي اني لمحت على بعضهم شبح إبتسامات ساخرة و لمز بالعيون و هماسات، عندما أخبرتهم السبب، لم أهتم لنظراتهم لي، كل ما كان يهمني فقط هو تخليص الضحية من يد الجاني، ولكنهم في النهاية بعد هز الأكتاف و بسط الأيدي فى تعجب، لم يعيروا الأمر اهتماما، بل نظروا إلي نظرتهم إلي مجنون، ولذلك كان علي التصرف حتى لوأرتكبت في سبيل تحقيق هدفي مختلف انواع الحماقات، في البداية أخذت عصى كانت معلقة بخزينة الملابس وفوجئ بي رواد الحفلة وسط دهشتهم، بمحاولاتي المستميتة، في أن أصل بها للخيوط فاقطعها وأحررها من بين براثن الموت، ولكني لم أستطع ان اصل إليها، فقد كانت على علو لا يمكن أن يصله العصى، وحتي عندما حاولت فقفزت مرات عديدة ،ولكن بالنهاية دون جدوي ،فكرت ربما لو استطيع ان زفر بكل طاقتي، ان يخيفه تيار الهواء فيبتعد عنها حتي اجد الوصيلة المناسبة، لكن حتي تلك الطريقة لم تجدي نفعا، بل ربما زادت الامر سوءا، فها هو يحاول اخذ فريسته بعيد إلى جحره، و استمر الضحك من الحضورو صيحات التعجب، و نظرات الإستنكار ولكن كل ذلك لم يؤثر بي.

أكثر ما ضايقني هو عجزي عن إنقاذ ذلك الجمال الساحر، و قد استشاط الغضب بي، فقمت مهرولا الي طاولة الطعام، وفي محاولة اخيرة، بحثت عن زجاجة غازية، ولكني قررت في النهاية قمت بأخذ زجاجة ماء، فأنا لا أعمل ماذا سيكون تأثير الصودا المندفعة تحت ضغط هائل، علي ذلك المخلوق الرقيق، اندفعت وألقيت قطرات من المياه في اتجاه الشبكة الجهنمية، وفجاءة أبعد المخلوق البشع نابيه، وكأنه انتبه أخيرا إلى محاولتي لإنقاذها، لكنه لم يلبث أن قفل راجعا وكأنه يتحدني ان أخذ فريسته من بين انيابه، وبينما كنت أحاول تخليصها، سمعت أحد المدعوين يتساءل في مزيج من البساطة و السخرية،ويقول: لماذا كل هذا؟

فاليتركها لمصيرها، إنها غذائه ليعيش اليوم، وهنا تملكني العجب لقسوة ووحشية كثيرا من البشر، التي قد تمتد كثيرا ليس فقط إلى عدم تقديرهم للجمال، لكن كذلك إلى تحطيم و هدم كل شىء ربما يكون جميلا، وذلك دون حتى أن تبدو عليهم أي بادرة من أسف أو رثاء أو ندم. بينما كنت أفكر بذلك كنت استمر فى محاولاتي ثم فجاءة وعقب تدفق جزء من الماء في محاولة اخيرة مني يملاؤها مزيج من اليأس و الغضب، تقطعت الخيوط وهرب العنكبوت البشع، بينما سقطت الفراشة المسكينة وقد امتلأ كلا جناحيها بالمياه، وكانت تصارع من أجل الحياة ولكن يبدو انها لم تعد قادرة علي الطيران، فبينما امتزجت قطرات المياه بجسدها حتي اكتسي باللون الذهبي المغطى بها جسدها الضعيف، وعند ذلك الحد أدركت من نظرات المدعوين الغريبة التي تنظرالي، ادركت حقيقة واحدة، فكم من البشرمن هم اقسي وأكثروحشية من ذلك العنكبوت ومنهم من لا يدرك من الشفقة اوالجمال من شئ، و كل ما يتشدقون به من موسيقى و كلمات و اشعار وملابس براقة و ضحكات مصطنعة ما هي إلا قناع زائق يخفي خلفه من الحقائق البشعة ن طبيعة الأنسان و ماذا مثله و يؤمن به، ومنذ ذلك اليوم لم أعد استغرب أي إجرام أوحماقة يمكن أن يرتكبها البشرفي كل زمان ومكان.

"أنتهت"


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى