الجمعة ١٢ نيسان (أبريل) ٢٠٢٤
بقلم يسري عبد السلام صبري

ما لا يطلعكم عليه صناع الدراما

لا أعرف أحدا قام من قبل بتجربة هذا الاختبار، وإن حدث فلا يعني ذلك إلا شيئا واحدا: أن اختباري صحيحٌ، أو -مبدئياعلى الأقل- يحوز قدرا معقولا من الصحة. وألفت الانتباه قبل الولوج معكم إلى نموذج تطبيقي له إلى أشياء ثلاثة: أولهم، أن اختباري هذا يشبه اختبارات الفحص في الكيمياء العضوية، تلك التي يفرق بها الكيميائيون بين شيئين كالحامضية والقاعدية، وثانيهم، أن الأصل فيه أنه يعمل كمعادلة يمكنها أن تسير في اتجاهين متضادين؛ يؤدي الطرف الأول فيها -مع وجود عامل مساعد- إلى الطرف الثاني، والعكس صحيح أيضا، وثالثهم، أن اختباري هذا يسعى للربط بين العمل الدرامي وبين الواقع، أو لأكون أكثر دقة بين النموذج التخيلي المخدوم في العمل الدرامي وبين النموذج الواقعي الذي يقابله في عالمنا الحقيقي؛ ولهذا فهو اختبار سابر لما لم يقله العمل بشكل مباشر، وسابر أيضا للخلاصة التي يريدها العمل أن تترسب في رأس الجمهور، دون أن يشعر أيٌ منهم بذلك. ولشرح الأمر بشكل أكثر سهولة سأستعين كمثال تجريبي بمسلسل "جزيرة غمام"، ذلك الذي عُرض في شهر رمضان/2023م. ولا داعي للقلق أيها القارئ إذا كنت واحدا من أولئك الذين لم يشاهدوا المسلسل؛ فسأضع احتمالا كهذا في اعتباري بكل تأكيد. وأبدأ فأقول بأن العمل الدرامي، سواء أكان فيلما أو مسلسلا أو أيا كان نوعه، ينحاز إلى بطل أو أكثر على حساب شخصية أخرى في العمل أو أكثر، وقد لا ينطبق هذا الشرط على بعض الأعمال الدرامية، لكنني -لتطبيق اختباري- سأستعين فقط ومبدئيا بهذه النوعية من الأعمال؛ لأن العمل في هذه الحالة يقوم بصنع نموذج تخيلي مثالي، يصلح تماما أن أضعه تحت مجهري لأفحصه، والهدف من ذلك هو السعي لاكتشاف طريقة يستطيع بها قارئ العمل أو مشاهده كشفَ الأفكار المخبأة فيه، ومن ثم ردها إلى ما يقابلها في الواقع؛ إي إلى النموذج الواقعي، وبذلك تحدث قابلية تحول أي من النموذجين إلى الآخر: التخيلي للواقعي، أو الواقعي للتخيلي، مع مراعاة أن النموذج الواقعي قد يكون شخصا بعينه، أو مجموعة من الأشخاص تجمعهم صلة ما: جغرافية، أو دينية، أو مهنية.

والنموذج التخيلي الأهم في مسلسل "جزيزة غمام" هو شخصية عرفات، تلك التي جسدها المثل البارع أحمد أمين، وألفها الكاتب عبد الرحيم كمال. والخطوة الأولى في اختباري ستكون قص زاوئد هذه الشخصية، حتي لا يتبقى منها إلا هيكلها الأساسي فقط، والزوائد التي أعنيها هنا كثيرة وتشمل: الاسم، والسن، والمهنة، والمظهر، والمكان، والزمان، والذي يتبقى بعد ذلك هو ما يعنينا في النموذج التخيلي، الذي كان واحدا من مجموعة مختارة، تصادف في المسلسل أن عددهم ثلاثة، وليس للعدد في اختباري أي ميزة، بل هو كغيره من الزوائد التي سنقوم بقصها، هذه المجموعة المختارة مات كبيرهم؛ فورث أولهم مكانته العلمية، وورث ثانيهم بيته، فيما ورث ثالثهم –وهو النموذج المركزي في المسلسل- شيئين بسيطين: مسبحة سيقوم اختباري بقصها لأنها من الزوائد، وكتابا -وهذا هو الأهم- يضم بين صفحاته أسرار الناس وخباياهم، والناس هنا هم أهل الجزيرة، ثم تتطور الأحداث، ويسعي نموذجنا جاهدا لتحذير الناس من خطر زوبعة قادمة، وهو الوحيد –وفق ما تمليه عليَّ ذاكرتي- الذي يعرف بأمرها، أما الآخرون فلا يملكون أسبابا منطقية لتصديقه؛ ولهذا أسبغ صناع المسلسل عليه صفات الولي، حيث الكرامات التي لا تحتاح إلى أسباب علمية لتأكيدها؛ لما للأولياء من قدرات خاصة، لا يشاركهم فيها عامة الناس، ولهذا أيضا -كما أتصور- أورثه صناع العمل المسبحة. وللولي في التراث الشعبي المصري مكانته الكبيرة وحضوره القوي في القلوب. النموذخ التخليلي أيضا في مسلسلنا تربطه بالعايقة علاقة عاطفية بريئة، لا مطمع من ورائها أو مكسب، ويتماشى هذا الحب العذري تماما مع شخصية الولي. والعايقة لمن لم يتابع المسلسل شخصية فاقدة لهويتها منذ فارقت أبويها؛ ولهذا يعمل عرفات جاهدا -طوال الحلقات- على أن يساعدها في حل هذه الإشكالية، ورغم انشغالاته الكثيرة هذه لا ينسى الأطفال، إنه يحبهم، ويبذل لهم من وقته وعاطفته ما يعوضهم به عن قسوة الآخرين، ولقد تمثلت هذه القسوة -رغم تحفظي- في شخص المدرس الشرير ببراعة. وللنموذج التخيلي في المسلسل صدامه مع وريث المكانة الدينية الجديد، ومع ذراعه الأيمن وارث البيت، إلا أنه سينتصر عليهما، وسيظهر انتصاره بجلاء في مشهد المحاكمة، لكن التمهيد له سيبدأ مع الحلقات الأولى، تلك التي سنرى فيها الطمع والغلظة في شخصية وريث المكانة الدينية، والتفكير الخرافي والشهوانية في شخصية وارث البيت. وللنموذج التخيلي في المسلسل قوى الشر التي تعاديه، تتمثل هذه القوى في شخصية الشيطان خلدون، وبهذه العداوة يضمن العمل منذ اللحظات الأولى تأييدنا المطلق للنموذج التخيلي المختار. أكتفي بهذا القدر من صفات النموذج التخيلي، ولنذهب الآن إلى ما يقابل هذه النموذج في عالمنا الحقيقي، لكنني، قبل أن أفعل ذلك، سأقوم أولا بقص زوائد الزوائد، ليتضح لنا أكثر وأكثر الهيكل الأساسي للنوذج التخيلي، الذي تتلخص صفاته في التالي: عارف بالأسرار، يقوم بمساعدة البطلة وتربطة بهاعلاقة عاطفية بريئة، له آراؤه وأفكاره التي تتسبب في صدام مع وريث المكانة الدينية، تعاديه قوى الشر، ويؤمن بوجود خطر قادم؛ لذا لا يتواني عن تحذير الناس منه، أما النموذج الذي يقابله في الواقع فسأترك لكم أنتم مهمة استنتاجه. وأختتم فأقول بأن عملية تحول النموذج من الواقعي للتخيلي لن يستعان فيها بعملية قص الزوائد التي ذكرتها، بل بعملية مضادة لها تماما؛ يناسبها تماما تسمية اللصق الإبداعي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى