الأربعاء ٢٤ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٧
بقلم عادل الأسطة

محمود شقير وقصة "صورة شاكيرا"

"صورة شاكيرا" عنوان إحدى المجموعات القصصية للقاص محمود شقير، وقد صدرت في العام (2003). ومنذ بداية القرن الجديد، القرن الحادي والعشرين، أصدر شقير أربع مجموعات قصصية هي على التوالي "مرور خاطف" (2002) و"صورة شاكيرا" (2003) و"ابنة خالتي كوندوليزا" (2004) و"احتمالات طفيفة" (2006).

وتتقارب "مرور خاطف" من "طقوس للمرأة الشقية" (1986) و"صمت النوافذ" (1991) من نواح عديدة أبرزها أنها قصص قصيرة جدا، وأنها قصص يغلب عليها طابع مشترك من السرد، هو السارد كلي المعرفة الذي يقص ويقص، ولا يترك المجال لشخوصه لأن يعبروا عن أنفسهم، فهو الذي يتكلم عنهم، كأنه خبير بكل خفاياهم، وكأنه أب متسلط أو معلم كلاسيكي متسلط أيضا يتكلم ولا يترك غيره يتكلم، ويعرف كأنما غيره لا يعرف، بل إنه يعرف عن الشخوص أكثر مما يعرفون عن ذواتهم، لسان حاله لسان حال المعلم يقول لتلميذه: أنا أعرف عنك أكثر مما تعرف عن نفسك. ويقر شقير نفسه بهذا حين يكتب عن تجربته وقصصه التي أنجزها بعد هذه المجموعات الثلاثة. (الكرمل، ربيع 2005، عدد 83).
أما "صورة شاكيرا" و"ابنة خالتي كوندوليزا" فتتَقاربان من "خبز الآخرين" (1975) و"الولد الفلسطيني" (1977) من نواح وتختلفان من نواح أخرى. تتقاربان من حيث العودة إلى الكتابة عن البيئة التي نشأ فيها القاص، وهي مدينة القدس وقراها المحيطة، ومن حيث كسر هيمنة السارد كلي المعرفة الوحيد في القصة، إذ هنا يترك شقير لشخوصه أن يعبروا عن أنفسهم، وأحيانا بلغتهم لا بلغته هو، وهنا نلحظ اختلافا آخر عن مجموعات "طقوس" و"صمت" و"مرور"، وتطابقا مع "خبز" و"الولد"، فلم يعد هناك مستوى لغوي واحد يسيطر على القصة وعلى المجموعة كلها، هو العربية الفصيحة المكثفة، بل يبرز مستويان: الفصيحة التي هي لغة السارد، والعامية التي هي لغة الشخصيات. وقد أقر شقير أيضا بهذا. (الكرمل، ربيع 2005، ع83).

وتختلف مجموعتا "صورة" و"ابنة خالتي" عن مجموعات شقير السابقة كلها في جانب جديد برز فيهما، لم يبرز من قبل في كتاباته، وهو جانب السخرية والتهكم، إذ لأول مرة نقرأ له قصصا على قدر كبير من هذا، قصصا يضعها المرء إلى جانب قصص كتابنا الساخرين وأبرزهم إميل حبيبي ومحمد علي طه في بعض مجموعاته وكتاباته. ويعترف شقير أيضا في المقابلة نفسها بهذا.

ثمة جانب آخر أيضا يميز قصص هاتين المجموعتين عن بقية قصص شقير، وهو أنهما تضمان، إلى جانب الشخصيات المنتزعة من البيئة المحلية، شخصيات عالمية معروفة، سياسية ورياضية وفنية، مثل (شاكيرا) و(كوندوليزا) و(رونالدو). والقصد من وراء ذلك كما يقول الكاتب:
"أن ظاهرة شاكيرا، ورونالدو، ومايكل جاكسون، ورامبو وآخرين على شاكلتهم، تشير إلى إعلام العولمة الذي يصنع النجم الفرد، ويعلي من شأنه، ويجعله مثلا يتعلق به الجمهور حد العبادة، والوله المنفلت من كل حساب للمشاعر، وذلك على حساب قضايا أخرى حساسة تحتاج إلى العقلانية والنظر العميق الجاد" (الكرمل، 2005، ع83، ص202).

وهنا، ربما، يختلف شقير عن غيره من كتاب قصتنا القصيرة، فإذا كان هؤلاء استحضروا شخصيات تاريخية مثل النابغة الذبياني والزير سالم والهلالي وعروة بن الورد والمتنبي وأبي حيان التوحيدي وطرفة بن العبد، وهو ما نلاحظه في قصص أكرم هنيه وقصصي وقصص رياض بيدس، فإن شقير لم يفعل هذا- أي لم يستحضر شخصيات من الماضي ليكتب عنها- وإنما جعل قصصه تضم شخصيات عالمية معاصرة معروفة. وربما أكون فعلت ذلك، وإن على استحياء، في نصي "خربشات ضمير المخاطب" (1997)، وتحديدا في المقطع الأخير منه "هو وزوجته وعلامة الاستفهام" حيث استحضرت (كلينتون) و(ناتنياهو).

أصل الفكرة:

يذهب شقير إلى أن فكرة قصصه الجديدة تعود إلى العام 1982، وتحديدا في حينه حيث كانت مدينة بيروت تحاصر من الإسرائيليين، وتدك برا وبحرا وجوا، وتدمر، فيما كان أكثر المواطنين العرب، في العالم العربي، يتابعون مباريات كأس العالم، ويتظاهرون ضد حكم لم يكن منصفا، فيما لم تتظاهر إلا قلة قليلة لما يجري في بيروت. لقد رأى في الأمر مفارقة تدعو إلى التأمل، وتبعث الحزن، وتثير السخرية، فقرر أن يكتب قصصا تقوم على عنصر المفارقة:


"آنذاك، خطر ببالي أن أكتب قصصا قصيرة، تنبني على المفارقة الصارخة التي أنتجتها الوقائع: فثمة حصار، ودم، ودمار من جهة، وركض حر في الملاعب، وجماهير هائجة مشدودة إلى الكرة من جهة أخرى". (الكرمل، 2005، ع83، ص

199).

ومرت الأيام، ولم يكتب، حتى التمعت الفكرة في ذهنه من جديد، في بدايات 2002 تقريبا:

"ذات ليلة، قبل سنتين، التمعت في ذهني شخصية شاب يريد أن يعبر عن ذاته ولو من خلال الوهم، بعيدا عن سطوة الجماعة وهيمنتها على حريته الشخصية، ورأيته يختار لوهمه شخصية رونالدو، لاعب كرة القدم البرازيلي الشهير، الذي راح يحجز له المقعد الأمامي في سيارة الأجرة التي يقودها على اعتبار أن رونالدو قادم لا محالة إلى الحي الذي يقيم فيه!" (الكرمل، 2005، ع83، ص199)
وهكذا أخذ شقير يكتب قصصا يختلط فيها الواقعي بالخيالي، والطريف أن (رونالدو) زار، بعد كتابة القصة، فلسطين، وما كان خيالا غدا واقعا، واحتفل به أهل فلسطين.

شقير وكسر النمط:

يختار شقير لمقالته التي نشرها في الكرمل (2005) "(ع83) عنوانا هو "الكتابة حين تكسر النمط"، وكان قد أورد أكثر ما قاله فيها في مقابلة أجراها معه معن سمارة، ونشرت في جريدة "الأيام" (رام الله) بتاريخ 8/6/2004. ويفصح شقير في المقابلة وفي المقالة عن مشروعه القصصي، ويسلمنا مفاتيحه كاملة لقراءة قصصه، وهكذا يصلح لأن يدرس ضمن مقولات نقدية يعتبرها البعض قديمة، هي مقولات قصد المؤلف، أو المعنى في بطن الكاتب. وربما تساءل المرء، بعد قراءة المقالة والمقابلة: هل من ضرورة للكتابة عن قصص شقير؟ ومن المؤكد أنه- أي القارئ- لن يتساءل إن كان ثمة ضرورة لقراءتها، فالكاتب يكتب إنه يكتبها لتحقيق متعة القراءة- أي علينا أن نقرأها لنستمتع. ولم يعد قصد شقير، من وراء كتابة قصصه الجديدة، مثل قصده من وراء كتابة قصصه القديمة. كان يكتب قصصه القديمة التي تحفل بالشعارات والأيديولوجيا للتوعية والتحريض والتغيير، وقد تخلى عن هذا، إلى حد كبير، في قصصه الجديدة التي إن برز فيها جانب سياسي، وهذا يبرز، فإنما يكون للفت الانتباه، لأنه لو أراد أن يعلن موقفا سياسيا لأعلنه في مقال، لا في قصة، وفي الأخيرة يريد أن يحقق متعة القراءة. هكذا أخذ يكتب قصصه الأخيرة، لإبراز المفارقة في حياتنا، ولتحقيق متعة القراءة، وليكسر نمط الكتابة:

"لم أعد معنيا بتكريس القصة القصيرة لأداء مهمة سياسية مباشرة، استجابة لذلك الفهم السطحي لوظيفة الأدب، باعتباره عنصرا فاعلا في المعركة، ولم أعد معنيا بسرد معضلات الواقع المباشرة التي يمكن أن ينهض بها تقرير صحافي، أو جولة لكاميرا التلفزيون.

أصبحت أكثر اهتماما برصد الأثر الداخلي الذي تتركه مشكلات الواقع على النفس البشرية، دون أن أحرم القارئ من إشارات غير ثقيلة وغير مملة لبعض جوانب هذه المشكلات، وفي الوقت نفسه تحقيق قدر عال من متعة القراءة التي يوفرها عنصر السخرية". (الكرمل، 2005، ع83، ص202).

لا يختلف محمود شقير هنا كثيراً عن محمود درويش. إن ما ألم بالأخير من تغيرات في الشعر وفهمه وموقفه منه، يتطابق معه تغير فهم شقير لوظيفة الكتابة. لكأن الأخير في باب القصة القصيرة مواز لدرويش في باب الشعر. وكنت قد التفت إلى درويش في غير دراسة ومقالة وكتاب (أرض القصيدة: جدارية محمود درويش وصلتها بأشعاره، 2001) و"الشاعر، من خلال شعره، منظرا" للشعر، الأسوار، عكا، 2003، عدد 25).

شقير والسخرية:

لجأ كتاب فلسطينيون إلى السخرية في بعض ما كتبوا وتجاوزها بعضهم إلى التهكم، وكما ذكرت يعتبر إميل حبيبي أبرز هؤلاء في الأدب النثري. وكان طوقان، في الشعر، أول أديب فلسطيني يلجأ إلى أسلوب السخرية، وقد تبع خطاه فيما بعد محمود درويش في بعض قصائده، بخاصة خطب الدكتاتور الموزونة التي لم يجمعها في كتاب، ومريد البرغوثي الذي أنجز قصائد تقوم على المفارقة، وقبل هذين معين بسيسو، في بعض قصائده، وبعض مسرحياته.

ويواصل محمود شقير هنا ما بدأه إميل حبيبي وتوفيق زياد في مجموعته "حال الدنيا"، وقد بدا فيها التهكم أوضح ما يكون. يلجأ إلى السخرية من الآخر والسخرية من الذات، ويقول عن سبب لجوئه إلى هذا ما كان قاله إميل حبيبي من قبل.
لقد توقف فاروق واي أمام جانب السخرية في أعمال إميل حبيبي الأولى، وذلك في كتابه "ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية" (1981) واقتبس من إميل المقولة التالية حول دلالة السخرية في أدبه:

"كان لي هدف معين وهو فضح سخف الاضطهاد القومي في إسرائيل، وأن أكشف عن ضعف الظالمين، وأن أقول للمظلومين إنكم أقوى منهم لو تعلمون، وكان علي في نفس الوقت أن أوجه انتقادات إلى مجتمعي المظلوم وأن أكشف عن نقاط ضعفه" (وادي، ص137 وما بعدها).
هل يختلف تفسير شقير للجوئه إلى السخرية عما قاله إميل. لنقرأ: "إن النزعة التهكمية الساخرة التي تظهر في قصصي هي نتاج الواقع المر الذي يعيشه الفلسطينيون تحت الاحتلال، وهي أسلوب في الكتابة التي تتعالى على جراح الواقع، ليس لجهة الهروب من مواجهته، وإنما لجهة تركيز الانتباه على ما يشتمل عليه هذا الواقع من انحراف عن أبسط معايير حقوق الإنسان والكرامة البشرية، ولتحقيق هذا التركيز، لا بد من وضع الآخر- الجلاد- تحت مجهر الفن وفضحه، ولتبيان خطر تصرفاته، وللسخرية منه في الوقت نفسه، والاستهانة به وبكل إجراءاته القمعية" (الكرمل، 2005، ع83، ص202).

وأيضا:

"وفي ذلك تعزيز للروح المعنوية للناس الذين يتصدون للاحتلال. ويستلزم هذا الأمر، كما أعتقد، ليس السخرية من الآخر والتهوين من شأنه وحسب، بل السخرية من الذات كذلك، السخرية من نواقص الذات وأخطائها، وذلك لجهة التخلص من هذه النواقص والأخطاء، ولخلق حالة جديدة وروح معنوية تمكننا من الصمود فوق أرضنا" (السابق).

القدس مكانا للقصص:

كانت القدس حاضرة حضورا لافتا في "خبز الآخرين" وبدا المكان، منذ أبعد شقير، لا يحضر في قصص المنفى حضورا لافتا. بدا المكان محددا وغير محدد: عمان، براغ، المقهى،.... الخ. ولم يكن هم الكاتب أن يكتب عن المكان ويبرز ما فيه من صراع وتناقضات. وسيعود شقير في "صورة شاكيرا" و"ابنة خالتي كوندوليزا" ليكتب عن القدس، وكان أنجز كتابه "ظل آخر للمدينة" عن القدس والتغيرات التي طرأت عليها في أثناء عشرين سنة من غيابه عنها. (1975- 1993).

تنطلق قصصه من القدس وتعود إليها، وهو لا يحاول التوثيق، يعنيه أن ينزل القدس من عليائها باعتبارها مثالا مجردا يتغنى به الفلسطينيون والعرب والمسلمون والمسيحيون، وباعتبارها أرض المحبة والسلام والتسامح والوئام، ومدينة التعددية والتاريخ العريق. إن ما يعنيه أن يكتب عنها باعتبارها مدينة واقعية، قد تغدو، مما تتعرض له من عملية تهويد منطقية، بعد سنوات قليلة، مدينة أخرى غير المدينة التي في الأذهان.
صورة شاكيرا نموذجا:

لو أخذنا قصة "صورة شاكيرا" من مجموعة "صورة شاكيرا" نموذجا للاحظنا فيها كل ما أوردناه سابقا: عدم سيطرة السارد كلي المعرفة، واللجوء إلى السخرية والتهكم، واستحضار شخصيات عالمية (شاكيرا) لتكون جنباً إلى جنب مع الشخصيات المحلية (طلحة شكيرات) و(روني)....الخ، وبروز القدس مكانا في القصة، واستخدام مفردات عامية، عربية وعبرية أيضا.

دال العنوان:

التفت دارسو قصص شقير، وهم يحللون نماذج منها، إلى دال العنوان ومكوناته، وقد فعلت هذا شخصيا وأنا أدرس قصة "أهل البلد" من "خبز الآخرين"، تماما كما التفت هؤلاء التفاتا كبيرا، في السنوات العشر الأخيرة، إلى العنوان ودلالاته في القصائد والقصص والروايات. ويبدو أن هذا لفت أنظار القاص إلى هذا الدال ومن هنا نجده في مقالته يتوقف أمامه ويبدي رأيه فيه، يكتب شقير عن عودته إلى القدس والحصار الذي يعيشه فيها، وعدم خروجه منه إلا عبر قراءة الكتب أو متابعة ما يعرض على الانترنت من مواد ثقافية مختلفة أو مشاهدة التلفاز وهكذا يجتمع ما هو محلي مع ما هو عالمي. وهذا بدوره يبرز في قصصه وعناوينها:

"من هنا يصبح مفهوما لماذا اخترت عناوين لقصصي، تحمل أسماء الشخصيات الشهيرة في ميادين الغناء وكرة القدم والسياسة وغيرها، وحينما أطلقت على مجموعتي ما قبل الأخيرة "صورة شاكيرا" فقد رأيت في هذا العنوان اشتباكا من نوع ما، مع ما تطرحه العولمة الأمريكية من إشارات لثقافة استهلاكية مسطحة تتخذ من بعض رموز الغناء والرقص والتمثيل والرياضة والإعلام وبرامج التسلية والترفيه، وسيلة لصرف أجيال الشباب عن الاهتمام بالمشكلات الحقيقية لهؤلاء الشباب أنفسهم، وللوطن، والناس، وإحاطتهم، من ثم، بأجواء زائفة مصطنعة، تفقر وعيهم، وتسلبهم القدرة على رفض الواقع السائد والتمرد على قوانينه الجائرة. (الكرمل، 2005، ص201).

وشاكيرا في قصة "صورة شاكيرا" تغدو هي المدخل كل مشكلة طلحة شكيرات ووالده مع الجندي الإسرائيلي (روني). يربط هذا بين اسم (شاكيرا) واسم (شكيرات)، ما يجعله يسأل على صلة القرابة بينهما، ويؤكد طلحة عليها، ويعد (روني) بإحضار أشرطة أغاني (شاكيرا) إليه، علّ الجندي الإسرائيلي يساعده ، ويخلصه من ساعات الانتظار الطويلة أمام مبنى الداخلية.

ويعلق طلحة صورة (شاكيرا) في بيته، ويعترض والده على ذلك، فالصورة عارية، ولا يجوز للأسرة المحافظة أن تعلقها في الصالون، بل وفي البيت. ولكن الأب يغض الطرف عن تعليقها في غرفة طلحة، طالما تحقق له مصالحه، بل ونجده- أي- الأب يقر بقرابة (شاكيرا) له، طالما أن (روني) معجب بها، وأنه، بناء على ذلك، سيسهل له المعاملات.

و(شاكيرا) ليس لها في القصة صوت. هي صورة، وهذه الصورة تجد احتراما لها واعتبارا من طلحة. إنها تبدو معبودته. ولأن (شاكيرا) كانت ذات تأثير على الجندي، ولأنها يمكن أن تسهل لطلحة ووالده معاملاتهما، فقد احتفظ طلحة بصورتها.
مكان القصة:

تجري القصة في مدينة القدس، وتصور معاناة مواطني المدينة العرب فيها، وهي بذلك تنضاف إلى قصص أخرى اتخذت من المدينة مكانا لها، أبرزها قصص "مقهى الباشورة" لخليل السواحري، وقصة "أبو جابر الخليلي" من مجموعة "البهلول" لتوفيق فياض، وقصص أكرم هنيه "عندما أضيء ليل القدس" و"صلاة في المرحلة السادسة" و"بعد الحصار.. قبل الشمس بقليل".

وما يجب أن يُقال هو أن هذه القصة لا تركز على المكان، بل تأتي على ما يعانيه مواطنوه ليس إلا، فهي لا تصف الشوارع أو أماكن دور العبادة، ولا تأتي على التغيرات المعمارية التي تطاله. ولعل شقير يلتفت في قصص لاحقة إلى هذا، بخاصة أنه، الآن، معني بهذا الجانب. وإن كان أتى عليه في كتاب غير قصصي هو "ظل آخر للمدينة".

الفلسطيني في القصة:

يأتي شقير، أيضا في مقالته في الكرمل، على طريقة إبرازه للفلسطيني في قصصه، فيكتب:
"وفي هذا الصدد أشير إلى أنني أحاول الذهاب إلى كتابة حديثة، تلقي الضوء على مناطق جديدة في التجربة الفلسطينية المعاصرة، وعلى الحياة اليومية بكل ما فيها من سيء وحسن، كتابة تنأى عن البلاغة الزائدة، وعن إثارة عواطف الشفقة والرثاء واستمطار شآبيب الرحمة على الفلسطينيين،... كتابة تعبر بصدق عن جوهر الواقع الفلسطيني، وتكشف دون تردد عيوبنا، باعتبارنا بشرا لا ملائكة. إن الإشفاق على الفلسطيني بحجة أنه منشغل بمقاومة المحتلين، وبذلك لا تجوز تعريته، ولا كشف نواقصه، إنما يسهم في تزييف صورة الفلسطيني، وفي تحويله إلى سوبر ستار أو مثال محنط بلا روح". (الكرمل، 2005، ص203).

وطلحة شكيرات في القصة فلسطيني يحاور (روني) ويهديه أشرطة، ويحب (شاكيرا) ويعلق صورها على جدران منزله. إنه مشغول بها أكثر من انشغاله بمقاومة الاحتلال. ومثله والده الذي يبدو رجلا نفعيا، فهو لا يحب أن تكون شاكيرا من العائلة لعريها، ولكنه يغض النظر عن بعض سلوكاتها، مما يتحدث عنه الناس، إذا كان في قرابتها ما يقدم له خدمات. لنقرأ الفقرات التالية من القصة، كما يرويها السارد، وهو ابن عم طلحة:
"لابن عمي علاقات كثيرة من هذا الطراز، وهو مقتنع بأنها ستعود عليه ذات يوم بالنفع العميم. مثلا، حينما راج الخبر حول علاقة الحب التي تربط شاكيرا بابن رئيس الأرجنتين، لم يعلق هذا الخبر بذهني سوى لحظة واحدة. أما ابن عمي فقد راح يوظفه في شبكة استعداداته للمستقبل" (ص53).
وعن عمه:-أي عم الراوي:

"اعتاد عمي الكبير أن يتفشخر أمام الناس، فيقول على نحو مثير للفضول: سأذهب إلى إسبانيا إلى زيارة ابنتنا!"
وكان هذا العم، حين يصغي إلى أقوال تشكك في سلوك شاكيرا، كان يشتمها:

"حينما يخلو عمي الكبير إلى نفسه، يميل إلى تصديق كلام أهل الحي: لولا أنهم شاهدوها ترقص عارية لما تحدثوا عن ذلك. كان يفاتح ابنه بهواجسه هذه، وفي بعض الأحيان كان يشتم شاكيرا بألفاظ نابية...." (ص51، ص52).
هذا الموقف المتناقض يبعث، لا شك، على السخرية التي هي لبنة أساسية من لبنات قصص "صورة شاكيرا" أكثرها. وأقول أكثرها، لأن بعض قصص المجموعة أنجز قبل العام 2002، وينتمي إلى قصص "مرور خاطف" ومرحلتها، لا إلى المرحلة الجديدة وقد أقر شقير بهذا.
اليهودي في القصة:

تأتي القصة على ما يقوم به المحتل من ممارسات قاهرة نحو الموطنين العرب، ممارسات فيها ضرب من الإذلال والسادية، حيث يعاني مواطنو القدس في حياتهم، وهم يلجأون إلى المؤسسات الإسرائيلية الرسمية لاستصدار تصاريح أو جوازات سفر. روني هنا لا نعرف عنه الكثير، لا نعرف عن طفولته وأسرته ونشأته. إنه جندي يحرس مؤسسة إسرائيلية ويكون تعامله مع العرب عابرا. قد يحادثهم أحيانا، وقد يهملهم أحياناً كثيرة، متلذذا بعذاباتهم. وهذه الصورة لمثل هذا الجندي تكثر في قصص كتاب الضفة والقطاع، ممن لم يروا اليهود إلا على الحواجز أو في المطارات. وعموما فإن محمود الشقير الكاتب الذي كان شيوعيا لم يبرز في قصصه صورا متنوعة متعددة لليهودي، علما بأنه عرف يهودا يساريين. لقد كتب عن (شلومو) في "صمت النوافذ"، يوم كان شقير، يقيم في المنفى، وأبرز له صورة اليهودي الجندي المرتبط بأمه القاسي مع المواطنين العرب.
الرواي الثاني داخل القصة:

هذا أسلوب جديد لم يكن شقير يلجأ إليه من قبل. وقد قال عنه في المقابلة التي أجراها معه معن سمارة:
"لعله أن يشير إلى الرغبة في إنهاء، هيمنة الراوي كلي المعرفة الذي عودنا على احتكاره للسرد وللحقائق التي يفصح عنها للمتلقي. الراوي الآخر الذي يحقق تدخله في النص من خلال الأقواس، يدحض آراء الراوي الرئيس حيناً، ويقوم بالإفصاح عن معلومات وحقائق لا يعرفها الراوي الرئيس حيناً آخر. إن في ذلك تأكيدا على تعددية المواقف التي يحتملها النص، وعلى أن للحقيقة أوجها مختلفة، وفي ذلك تنبيه للمتلقي بألا يأخذ كل شيء على اعتبار أنه حقيقة مسلم بها...." (الأيام، 8/6/2004).

وقد برز هذا في قصة "صورة شاكيرا" في غير موضع. بعضها يعزز ما يذهب إليه القاص، وبعضها لا يقدم ولا يؤخر، فلو حذفه لما تأثرت القصة في شيء، من ذلك مثلا ما ورد في السطر الأخير من ص53، وهو:

"سيروي له، إن سمح وقته، وقت (روني) نوادر كثيرة...".
وأما الراوي الثاني الذي يبدو له أهمية وقيمة، فيبرز في المثال التالي:

"مرة عمل عمي الكبير في التجارة. كان يذهب إلى إحدى القرى في موسم الزيت، يشتري خمسين تنكة من زيت الزيتون، يدخلها إلى مخزن أعدّه خصيصا لهذا الغرض ثم يخرجها منه لكي يبيعها وقد أصبح عددها مائة تنكة، (كانت لعمي طريقة بارعة في الغش) كان يدهن رقبته بزيت الزيتون خفية، متوقعا أن يستحلفه الناس إن كان الزيت الذي يبيعه لهم زيتا أصليا، يتظاهر عمي الكبير بأنه يحلف وهو يقول: على رقبتي زيت زيتون أصلي! فيصدقون". (ص54).

وقد يقول قائل أيضا إن ما بين قوسين- أي ما ورد على لسان الراوي الثاني من وجهة نظر شقير، لم يقدم ولم يؤخر، لأن القارئ بنفسه يدرك أن الخمسين تنكة، حين غدت مائة، إنما غدت بفضل الغش، إلا إذا كان القارئ غبيا جدا، وبالتالي يمكن حذف العبارة دون أن تتأثر القصة، هذا عدا أن الصوت هنا ليس صوت راو ثان./ إنه صوت الراوي نفسه.

طبعا يقر شقير، في المقابلة نفسها، أن هذا الأسلوب في السرد ليس من ابتكاره هو، فقد سبقه قصاصون عرب إليه.

كلمة أخيرة:

كما ذكرت يقول لنا شقير في المقابلة التي أجراها معه معن سمارة، وفي المقالة التي نشرها في الكرمل، يقول لنا كل شيء عن قصصه الجديدة:
"صورة شاكيرا" و"ابنة خالتي كوندوليزا". وربما نختلف معه بعض الشيء، ولكن ما من شك في أن هذه القصص هي أجمل ما كتبه شقير، وهي بذلك تحقق للقارئ متعة كبيرة لا أظن أن قصصه السابقة واللاحقة "احتمالات طفيفة" قد حققتها بالمقدار نفسه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى