الخميس ١٠ شباط (فبراير) ٢٠٢٢
بقلم رامز محيي الدين علي

2- ذكرياتُ عشِّنا القديمِ

جمالٌ أخّاذٌ

لا بدّ من رسمِ معالمِ الغابةِ الكبيرةِ الّتي تحتضِنُ قريتَنا الغارقةَ في أحلامِ القيلولةِ وأحلامِ غسقِ الدُّجَى، حيثُ أشجارُ التّينِ والزَّيتونِ وكرومُ الدَّوالي وحقولُ القمحِ، وأوديةٌ غارقةٌ في أحلامِها معَ عبقِ النَّرجسِ والخُزامَى وبَوحِ الزَّيزفونِ، وشموخُ أشجارِ الحَورِ والصَّفصافِ والدِّلبِ الّتي تتمايلُ طرباً معَ خريرِ العينِ الّتي يتدفَّقُ منْها ماءُ الحياةِ الصَّافي؛ ليرويَ ظمأَ المُقيمينَ في تلكَ البيوتِ التُّرابيَّةِ الّتي ترنُو إلى الوادي رنُوَّ خُدورِ النَّعيمِ على نهرِ الكوثرِ، كمَا يَروي هُيامَ المارّينَ والعابرينَ في أفياءِ تلكَ الأشجارِ فوقَ جسرٍ حجريٍّ قديمٍ يَحبلُ في أحشاءِ قناطرِه بقصصٍ وحكاياتٍ تُغنّي أمجادَ الماضِي في سمفونيَّةٍ رائعةِ الأداءِ تُحاكي في جمالِ ألحانِها ألحانَ أغنيةِ جسرِ اللّوزيَّة لفيروزَ الّتي ستظلُّ تصدحُ في وجدانِنا ما دامتِ الأرواحُ هائمةً في فردوسِ الحياةِ..

ولا ننسَى سحرَ أغاريدِ البلابلِ وغناءِ السّنُونو وسمفونيَّةِ الحسُّونِ وهديلِ الحمامِ وغناءِ الجداولِ وهي تتراقصُ طرباً بهلالِ الرَّبيعِ وولادةِ الدِّفءِ من رحمِ الشَّمسِ وهيَ تبثُّ خيوطَ النُّورِ، وكأنَّها قدْ وُلدَت لتَوِّها من كبدِ السَّماءِ..
حينَما تمرُّ فوقَ هذا الجسرِ تحتَ أفياءِ تلكَ الأشجارِ الّتي تتعانقُ أغصانُها معَ هبوبِ النَّسيمِ، وتقبِّلُ أوراقُ الصَّفصافِ أوراقَ الدِّلبِ، وهذهِ تعانقُ أوراقَ الحَورِ.. والماءُ يترقرقُ عذباً تحتَ الجسرِ عاكساً تلكَ الأفياءَ، ويتخلَّلُها نورُ الشَّمسِ فترتسِمُ على صفحةِ الماءِ خرائطُ لو تأمَّلتَها لمَا استطعْتَ أنْ تفكَّ لغزاً واحداً من ألغازِها، إذ تتزاوجُ الظِّلالُ والنُّورُ في لوحةٍ أشبهَ بتزاوُجِ الأسرارِ في لوحةِ ليوناردو دافنشي الموناليزا (الجيوكندا).. وتتَّئدُ بكَ الخُطا لتشاهدَ عيناكَ لوحةً من عبقِ التَّاريخِ لن تتكرَّرَ؛ لأنَّ التَّاريخَ هُنا يأبَى أنْ يعودَ القَهْقرى.. إذ يقعُ ناظراكَ على نساءٍ يحمِلْنَ على رؤوسِهنَّ جرارَ الماءِ أو القواديسَ، وأمامَهنَّ حميرٌ تمشي مشيةَ القادةِ العظماءِ في نظراتِها وتناسقِ حركةِ أرجلِها، وهي تحملُ على ظهورِها القِرَبَ الجلديَّةَ، والماءُ يتدفَّقُ منْها رويداً رويداً راسماً خلفَ كلِّ حمارٍ خطَّينِ على التُّرابِ المبلَّلِ، كما ترسمُ الطَّائرةُ النَّفَّاثةُ خلفَها في السَّماءِ خطَّينِ من الدُّخانِ يمتدَّانِ متوازيينِ ولا يلتقيانِ إلّا أنْ يشاءَ اللهُ، فلا تشعرُ حينَها إلّا أنَّكَ أمامَ (جنكيز خان.. ومعنَى الاسمِ بالتُّركيَّةِ البحرُ العظيمُ -دنكيز) يقودُ الغزوَ في بلادِ العُربِ، بعدَ أنْ أنهكَتْهم عبادةُ العروشِ، فتهافتُوا عليْها، وأضاعُوا رايةَ المجدِ والجهادِ، فتسلَّطَ عليهِم جنكيزُ وهولاكُو وأتباعُهم ممَّن دمَّروا البلادَ كمَا يعلمُ الحميرُ قبلَ غيرِهم ممَّنْ لا يجرُّونَ وراءَهم أذيالاً، فالعِبرةُ ليسَت في جلودِ الأسودِ، وإنَّما في شموخِ الحميرِ، وهيَ تحملُ القِربَ، وخلفَها نساءٌ من شقائقِ الرِّجالِ يحملْنَ أسرارَ التَّاريخِ في جِرارٍ تحكِي لكَ ألفَ قصَّةٍ وقصَّةٍ، وتَروي لكَ ألفَ روايةٍ وروايةٍ.. وفجأةً تجدُ أمامَك التَّاريخَ يَنبعُ فيّاضاً من بينِ فخِذَيّ الوادي، فتتدفَّقُ المياهُ عذبةً رقراقةً صافيةً من عينِ القريةِ (بيار بالتُّركمانيَّة) عبرَ حجرٍ يُشبهُ اللِّسانَ وقدْ التفَّ نصفَ التفافٍ كمَن يَنوي الصَّفيرَ.. وتسيلُ المياهُ منهُ على حوضِ جُرْنٍ حجريٍّ بازلتيٍّ نقشَتْه ونحتَتْهُ أزاميلُ الأجدادِ، وفي مقدِّمتِه فتحةٌ منَ الأعْلى يتدفَّقُ الماءُ منْها شلَّالاً، وأمامَ ذلكَ الجُرنِ نساءٌ يجلِسنَ على جرنٍ آخرَ أُعدَّ لغسيلِ الملابسِ بالماءِ والصَّابونِ، ثمَّ يعصِرنَ الملابسَ فوقَ حجرٍ آخرَ يُشبهُ السِّندانَ، فتتوالَى طرقاتُ المِخباطِ الخشبيِّ على الملابسِ، وقد اشتُهِرَ في صناعةِ المخابيطِ الأخُ الأصغرُ لجدِّي -رحمَهم اللهُ جميعاً- إنّه يوسفُ عثمانَ (باصيل) الّذي ضرَبَ مثلاً رائعاً في التَّرهُّبِ، فعزفَ عن النِّساءِ؛ ليتزوَّجَ حرفةَ صناعةِ المخابيطِ.. وبعدَ أنْ تلفظَ الملابسُ آخرَ قطراتِ الماءِ من نسيجِها، تحملُها تلكَ الأيادي النَّسويَّةُ الصَّلبةُ لتنشرَها على أعوادِ السِّياجِ المجاورِ للعينِ، وتنتظرُ النِّسوةُ أدوارَهُنَّ في الغسيلِ والنَّشرِ إلى أن تنشَفَ الملابسُ تحتَ أشعّةِ الشَّمسِ، وهكَذا تتوالَى حكاياتُ النِّساءِ معَ الغسيلِ ونقلِ الماءِ بالجِرارِ والقِربِ على ظهورِ الحميرِ.. فلا تأفُّفَ ولا ضجرَ ولا صحونَ تبُّولةٍ، ولا فناجينَ قهوةٍ.. ولا كؤوسَ متَّةٍ معَ مِيلٍ أحمرَ منَ المُحمَّصاتِ..ولا.. ولا.. ولا..!!

أسماءٌ ومعانٍ

اشتُهرَتْ قريتُنا الجميلةُ بكرومِ العنبِ الّتي تنهضُ على قامتِها فروعاً، أو تمتدُّ مُستلْقيةً على الأرضِ، أو تتسلَّقُ أشجارَ التّينِ والبلُّوطِ والسِّنديانِ وغيرَها، وكانتْ كرومُ التّينِ والعنبِ المصدرَ الرّئيسَ للرّزقِ، حيثُ يقطفُ السُّكّانُ ثمارَها فيبيعونَها في صناديقَ إمّا من خلالِ الباعةِ المتجوِّلينَ أو بشَحنِها إلى المدينةِ، أو بصناعةِ الدِّبسِ من العنبِ وتجفيفِه زبيباً، وتجفيفِ التّينِ للشِّتاءِ على أشكالٍ عديدةٍ، إمّا بكبسِها بالسُّكَّرِ أو بخلطِها بالبرغلِ النَّاعمِ على شكلِ كُبَّةِ الغزلِ، وإمّا على شكلِ حبَّاتٍ تسمَّى (الطَّبْع)، أو مربَّياتٍ في قطرميزٍ زجاجيٍّ تشتَهيهِ العينُ، فتهفو إليهِ النَّفسُ، ولا سيّما حينَما يعُضُّ الشِّتاءُ على نواجذِه، فيقْسُو على الطَّبيعةِ والكائناتِ بثلوجِه وجليدِه..

تتكوَّنُ قريتُنا من عائلاتٍ أشبهَ بالقبائلِ، منْها: قطريبُ، جنينُ، سلّيكُ، عليجةُ، يَحيى، بدُّورُ، حمامةُ، ولكلِّ عائلةٍ منطقةٌ من الأرضِ تحملُ اسمَها، مثلَ: أرضِ القطريبِ، السَّليكليَّةِ.. وقدْ تتداخلُ الأراضي الزّراعيَّةُ بينَ الأسرِ فيتَجاورُ الجميعُ ضمنَ المنطقةِ الواحدةِ، وهذهِ الحالةُ تشبهُ حالَ العالمِ العربيِّ.. لغةٌ واحدةٌ، عاداتٌ مشتركةٌ، تاريخٌ مشتركٌ، جغرافيا مقسَّمةٌ، وكان منَ المفترضُ التَّعاونُ والتَّآلفُ فيما بينَها، لكنَّ الحالةَ العربيَّةَ الكُبرى ألقَت بظلالِ فلسفتِها في التَّقسيمِ والتَّناحرِ والحروبِ، فشبرٌ واحدٌ من الأرضِ قد يُسبِّبُ خلافاتٍ ونزاعاتٍ لا تنتَهي بينَ فلَّاحٍ وآخرَ، وهذا ما يُؤدّي في الغالبِ إلى اشتباكِ الأسرِ قاطبةً، وليسَ ذلكَ بغريبٍ على ريفِنا العربيِّ عامَّةً، كما هيَ الحالُ في الحدودِ بين الأقطارِ العربيَّة المصطنعةِ الّتي خرجَ منْها المستعمِرُ منتصراً باتّفاقيَّاتٍ دوليَّةٍ، وخلّفَ وراءَه أذيالاً ترعَى مصالحَه، وتستمرُّ سياسةُ (فرِّق تسُدْ) من خلالِ تداخُلِ الحدودِ والصِّراعِ على المناطقِ، ونقيضُه ما يحدثُ اليومَ من صراعاتٍ واحتلالاتٍ لدولٍ متخلِّفةٍ ضعيفةٍ باتّفاقيَّاتٍ دوليَّةٍ أيضاً، أمّا في حالِ الرّيفِ العربيِّ، فقدْ خرجَ منها الإقطاعُ مهزوماً، مورِّثاً مرابعِيهِ حدوداً للتَّنازعِ والقتالِ بين القبائلِ والأسرِ لا تَنتَهي ما بقيَ في الحياةِ أنفاسٌ، وما ظلَّ على العروشِ أذيالٌ تتعبَّدُ في محاريبِ عروشِها، ولم تسعَ يوماً لنهوضِ شعوبِها إلّا بالبهرجةِ والخداعِ والشَّيطنةِ، لا همَّ لهم إلّا ذلكَ العرشُ وامتلاكُ الأمَّةِ من ماضيْها إلى حاضرِها، ومن أرضِها إلى سمائِها، ومن دنْياها إلى آخرتِها، حتّى باتتِ الحميرُ قبلَ الشُّعوب تعِي وتفهمُ ما يدورُ حولَها، فتثورُ ثائرتُها، فتَنهقُ غضباً، وتتَعنفَصُ معَ طلقاتٍ ناريّةٍ من تحتِ أذيالِها في الهواءِ احتجاجاً على الأوضاعِ المأساويَّةِ لأصحابِها.

لكنَّ بعضَ الأراضِي تمرَّدَت على نواميسِ الأسرِ، فحملَتْ أسماءَ تضاريسِها (بابُ الهَوى، عينُ الكلبِ، الجبلُ (دابة)، عينُ اللهِ (الله كوز)، أرضُ الأشجارِ (جمقليه)، السَّهْلةُ (يزلق)، النّاصوبُ (ناصبلق)، المدرَّجاتُ (حيرلك)، البُورتينيّة (بور فيه أشجارُ التّين)، أرضُ الكرومِ (بغلق)، القامشليّةُ (نسبة إلى القصَب)، البياضُ (أرضٌ تربتُها وحجارتُها بيضاءُ)، أرضُ الرِّيِّ (سقلك)، العينُ النَّجِسةُ (بيس بيّار)، أرضُ العُلّيق (ديسْلك)، أرضُ الحِراجِ أو الغابةُ (أورمانلق)... وبعضُها حملَ أسماءَ أشخاصٍ أو ديانةٍ (أبو يَحيى)، (سَمْعان)، (زنّوب حمَد- والدةُ جدَّتي لأبي)، أرضُ الموارِنةِ- أرضٌ تعودُ ملكيَّتُها لأهالي ناحيةِ عينِ حَلاقيم)، (وادي حنَّا).. وغيرُها العديدُ.. فلربَّما تخونُني الذَّاكرةُ في استحضارِ أسمائِها ومعانيْها!

وكان لكلِّ أسرةٍ في قريتِنا معصرةٌ للدِّبسِ تتوزَّعُ هُنا وهناكَ، وكان عددُها بعددِ الأسرِ، لكنَّني أكتفِي بوصفٍ سريعٍ لتلكَ المعاصرِ حسْبَ ما تتخيَّلُه ذاكرتِي اليومَ، وربَّما تأخذُني ذاكرتي شطَطاً، لكنَّ قلَمي يرسمُ تلكَ الصُّورَ قدْرَ ما أستطيعُ من رسمِ تلكَ الحقائقِ الّتي لم تُصوِّرْها آلةُ تصويرٍ، ولم تحتفِظْ بذكرياتِها غيرُ عقولِ شيوخٍ رحلُوا دونَ أن يدوِّنُوا صفحةً واحدةً في كتابٍ أو قصَّةً من قصصِها في وريقاتٍ، فماتَتْ طيَّ النِّسيانِ، ولهَذا آثرتُ أن أخلِّدَ تلكَ اللَّحظاتِ التَّاريخيَّةَ لأناسٍ بنَوا هُنا حضارةً مهْما بلغَت من شأوٍ حقيرٍ في سلَّمِ الحضاراتِ؛ لأنَّ المؤرِّخَ أو الأديبَ مطالبٌ في كلِّ سُويعةٍ بتدوينِ مآثرِ شعبِه أو انكساراتِه حتّى تظلَّ هذهِ الكتاباتُ نبراساً تَهتدي بهَا الأجيالُ القادمةُ، بعيداً عنِ الزَّيفِ أو التَّطبيلِ والتَّزميرِ والرَّقصِ الرَّخيصِ!

كانتِ المعصرةُ تتكوَّنُ من سورٍ حجريٍّ يحيطُ بها، وفي زاويةٍ ثمَّةَ جِرنٌ حجريٌّ تُفرغُ فيهِ حمُولةُ العنبِ، فيقومُ الرّجالُ بعصرِها بأرجلِهم وهم يرتدونَ خُفّاً بلاستيكيَّاً طويلاً (الجَزْمة) وإلى جانبِ الجرنِ ينهضُ عمودانِ خشبيَّانِ يحملانِ عارضةً متحرِّكةً تُدارُ بشدِّ الحبالِ عليْها لرفعِ العنبِ المعصورِ بالأرجلِ، فتُصفَّى في أكياسٍ على وعاءٍ كبيرٍ يُسمَّى (الحَلّة)، ثمَّ تُوقدُ النَّارُ تحتَها، ويُغلى عصيرُ العنبِ، إلى أن يتحوَّلَ إلى مادّةٍ شبهِ جامدةٍ بُنّيَّةِ اللَّونِ، ثمَّ تُفرَّغُ في جرارٍ أو خَوابي أو عُلبٍ من التُّوتياءِ (التَّنَك)؛ ليتمَّ نقلُها بعدَ تبريدِها إلى المنازلِ!
ذكرياتٌ مدرسيّةٌ

عانَت قريتِي كغيرِها من القُرى مرارةَ التَّهميشِ منذُ قدومِ أبطالِ الصُّمودِ العربيِّ إلى سُدّةِ الحكمِ، فكانَ جلُّ الاهتمامِ منصبَّاً على تأسيسِ فلسفةِ المقاومةِ والتّصدّي والتَّوازنِ الاستراتيجيِّ معَ العدوِّ، أمَّا التّعليمُ فحدِّثْ ولا حرجَ، مدارسُ هيَ منازلُ الإقطاعيِّ من الحجرِ والإسمنتِ وسقفٍ مُقنطرٍ، تعشِّشُ في زواياهُ طيورُ السّنُونو والعنكبوتُ، فهيَ لا تليقُ أنْ تكونَ زريبةً للدَّوابِّ، فقد كانَ الظَّلامُ يخيِّمُ عليها، ولا تكادُ تَرى النُّورَ إلّا منْ نافذةٍ صغيرةٍ وبابٍ خشبيٍّ، لا كهرباءَ ولا ماءَ، ولا طرقاتٍ، ولا خدماتٍ اجتماعيَّةٍ، ولا بنيةٍ تحتيَّةٍ، كلُّ شيءٍ ينطقُ عن مأساةِ تخلُّفٍ ورثَها سكّانُ القُرى من عهدِ الإقطاعِ والأنظمةِ المتخلِّفةِ الّتي ابتلانَا بِها المستعمرونَ ، إضافةً إلى غرفٍ منفردةٍ تمَّ استئجارُها لتلَبِّي حاجاتِ التَّعليمِ في أبسطِ مظاهرِها، فكانَ في كلِّ غرفةٍ صفَّانِ مختلفانِ في المُستَوى، يُوزِّعُ المعلِّمُ الحصَّةَ بينَ الصّفَّينِ.

لكنَّ المعلِّمَ كانَ جبلاً شامخاً يهابُه ويحترمُه الجميعُ، إذ كانَ معظمُ المعلِّمينَ غرباءَ من بلداتٍ نائيةٍ أخْرى، ممّا يضطرُّهُ إلى الاستئجارِ في القريةِ، فكانَ لوجودِه رهبةٌ، نخشَى أن يرانَا في الأزقَّةِ أو في ساحةِ القريةِ، لم يعِشْ ذلكَ المعلِّمُ غريباً، بل كانَ ضيفاً عزيزاً أو واحداً من أهلِ القريةِ، يقْضي سهراتِه كلَّ يومٍ في بيتٍ من بيوتِ القريةِ، وحينَما يسامرُنا باستضافتِه، كنّا نشعرُ بالطُّمأنينةِ ونأنسُ إليهِ، لكنَّ ذلكَ لم يكنْ ليقلِّلَ من هيبتِه في أذهانِنا.
في غرفةِ الحاجِّ عارفٍ المستأجرةِ كصفٍّ للتَّعليمِ، كانتْ تضمُّ الصّفَّ الأوّلَ والثّالثَ، كنتُ أرتديْ بنطالاً مرقَّعاً عندَ ركبتَيَّ، وكانَ طالبٌ آخرُ من الصَّفِّ الثّالثِ يرتَدي بنطالاً جديداً، لكنَّ رائحةَ البولِ كانَت تعبقُ منهُ، ممّا أثارَ حفيظةَ المعلِّمِ صقر لبّاد، فأخرجَنا إلى أمامِ السُّبُّورةِ، وراحَ ينبِّهُ الطَّلبةَ إلى أهمّيَّةِ النَّظافةِ، مُشيراً إلى بِنطاليَ النَّظيفَ المرقَّعَ وبنطالِ زميلي الجديدِ المُتَّشحِ ببقعِ البولِ، مؤكِّداً على الفارقِ الحقيقيِّ بينَ قديمٍ طاهرٍ وبينَ حديثٍ ملوَّثٍ!
وذاتَ يومٍ أعرْتُ كتابي (القراءةَ) لأحدِ الزُّملاءِ؛ كي ينقلَ بعضَ المعلوماتِ، فاكتشفَ المعلِّمُ الأمرَ، واعتبرهُ نوعاً من الغشِّ والخداعِ، فأخرجَنا نحنُ الاثنينِ لننالَ جزاءَنا، ولم يكُنِ الجزاءُ نزهةً في عالمِ الأدبِ، وإنَّما كان رحلةً في زنزانةِ الفلَقِ، إذ أخرجَ قدميَّ وأنا جالسٌ القرفصاءَ على كرسيِّ الخيزرانِ نحوَ الخلفِ وتمَّ تثبيتُهما، وما هيَ إلّا هنيهةٌ حتّى انهالَتْ مسطرةُ المعلِّمِ الخشبيَّةُ على قدميَّ الحافيتينِ، واحدةٌ.. اثنتانِ.. ثلاثٌ.. هل ستكرِّرُ هذا التَّصرَّفَ يا.. ومعَ كلِّ فلقةٍ يقشعرُّ بدَني ويحمرُّ وجهِي وأصرخُ: توبةٌ يا أستاذُ.. واللهِ آخرَ مرّةٍ.. وحينَما اقتنعَ المعلِّمُ بتمامِ العقوبةِ فكَّ وثاقِي من الكرسيِّ.. وانتهَتِ الفلقةُ، لكنّ آثارَها لم تُفارقْ كيانِي طوالَ العامِ، وكذا الأمرُ مع كلِّ طالبٍ يقصِّرُ في أداءِ واجباتِه أو يُخلُّ بالنَّظافةِ أو النِّظامِ أو يتأخَّرِ عنِ الدُّروسِ أو يُعيرُ كتبَه للآخرينَ!

وفي أحدِ دروسِ التَّربيةِ الإسلاميَّةِ كانَ يدرِّسُنا المعلِّمُ الكبيرُ بديعُ عبدِ اللهِ (وكانَ مسيحيَّاً) سورةَ الكوثرِ، فطرحَ عليْنا سؤالاً حولَ معْنى كلمةِ الكوثرِ، سكتَ جميعُ التّلاميذِ، لكنَّ الطَّالبَ محمّدَ عثمانَ راحَ يرفعُ يدَه: نعمْ أستاذ.. نعمْ أستاذ.. وكادَت أصابعُه تصلُ إلى وجهِ المعلِّمِ.. فأرادَ المعلِّمُ أن يسمعَ إجابتَه.. وكانتْ إجابةُ الطَّالبِ: تحتَ إبطِكَ أُستاذ (تحت باطك)! ففُوجِئَ المعلِّمُ بالإجابةِ، وراحَ يفتِّشُ عمّا تحتَ إبطِه.. مُستغرباً.. ما الّذي تحتَ إبْطي يا محمَّدُ! فيُجيبُ: معْناها تحتَ إبطِك! ويضحكُ المعلِّمُ ويضحكُ الطلَّابُ جميعاً.. فيُجيبُه المعلِّم: تعالَ إلى كرسيِّ الفلقةِ لأريكَ أينَ هوَ نهرُ الكوثرِ!

وكانتْ كتبُ القراءةِ والعلومِ والحسابِ جميلةً مدعَّمةً بالصُّورِ، كلماتُها سهلةٌ على النُّطقِ، لكنَّ تلكَ السُّهولةَ لم تمنعْ من اقتحامِ كلمةٍ قد تُربكُ التَّلاميذَ في لفظِها، وما زلْتُ أذكرُ تلكَ الكلمةَ الّتي صعُبتْ على جميعِ التّلاميذِ، ورحْنا نردِّدُها عشراتِ المرَّاتِ، عسَاها تستقيمُ ألسنتُنا في نطقِها، إنّها في جملةٍ من ثلاثِ كلماتٍ تنسابُ الأولى والثّانيةُ على ألسنتِنا انسيابَ المطرِ، لكنَّ الثّالثةَ تتأرجحُ كذرَّاتِ الثَّلجِ، وكانتِ الجملةُ (اجلسُوا في أماكِنِكُم).. ورحْنا نتلعثمُ في الثّالثةِ (أماكِكِكُم.. أمامِمِكُم.. أمَا.. كِيكُوكُم!)، لكنَّ ذلكَ لم يمنعْ من تحويلِ الدَّرسِ إلى رياضةٍ لسانيَّةٍ ومسابقةٍ لمنحِ المكافأةِ لمَن يُجيدُ لفظَها!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى