عِبرة ...أين السابقون؟ وأين سنكون؟
كنت كتبت قصيدة عن البحر، وأتيت فيها على ما شهد البحر من ذهاب الأمم، وانتهاء صولتهم، وضياع مراكبهم، فقلت:
ويقارع التاريخ في غُلَوائهويظل يصرخ من عميق قرارِيونانُ أينَ، وأين روما بطشُهاضاعت مراكبُهم بذات نهار
نظرت في هذا المعنى إلى قصيدة للشاعر الإنجليزي بيرون (ت. 1824) The Ocean ، حيث يقول فيها:
Thy shores are empires, changed in all save thee-Assyria, Greece, Rome, Carthage, what are they?
النهاية أو الفناء محور أو موتيف (motif- ترجمته اللفظة: متردِّدَة) وجدناه في أدبنا العربي، ففي خطبة قُسّ بن ساعدة يسأل معتبرًا، وواثقًا بالمآل:
يا معشر إياد، أين الآباء والأجداد؟ وأين ثمود وعاد؟ وأين الفراعنة الشداد؟
[...]
في الذاهبين الأولين من القرون لنا بصائرْلما رأيت مواردًاللموت ليس لها مصادرورأيت قومي نحوهاتمضي الأصاغر والأكابرلا يرجع الماضي إليّ ولا من الباقين غابرأيقنت أني لا مَحالةَ حيث صار القوم صائر.
إذن هكذا، فالنهاية آتية لا ريب فيها، وصدق يقينك يا ابن ساعدة؛ فأين أنت اليوم؟
في الشعر الجاهلي قرأنا للَبيد بن ربيعة:
أوَ لم ترَيْ أن الحوادث أهلكتْإرَمًا ورامت حِمْيرًا بعظيموالحارثان كلاهما ومحرِّقٌوالتُّـبَّعان وفارسُ اليَحْمومِ
(فارس اليحموم- النعمان بن المنذر، وكانت له فرس سوداء مشهورة- اليحموم)
لنصحب أبا العتاهية في هذا المعنى، خاصة وهو الزاهد الذي أكثر من وصف العزوف عن الدنيا:
ما لنا لا نتفكّرْأين كسرى؟ أين قيصرْ؟قد رأيت الدهرَ يُفنيمعشرًا من بعد معشر
ويسأل أبو العتاهية في قصيدة أخرى:
أين القرونُ وأين المبتنونَ لناهذي المدائنَ فيها الماء والشجرُوأين كسرى أنو شِروانَ مالَ بهصِرْفُ الزمان وأفنى ملكَه الغِيَرُ؟
وقبله كان عَديّ بن زيد العِبادي قال:
أين كسرى كسرى الملوك أنو شِروانَ أم أين قبله سابورُ
وبنو الأصفرِ الكرامُ ملوكُ الروم لم يبقَ منهمُ مذكور
وابن الوَردي في لاميته المشهورة:
أين نُمرودٌ وكنعانُ ومنمَلكَ الأرض وولّى وعزلْأين من سادوا وشادوا وبنَواهلك الكل ولم تُغنِ الحِيَـلْ
ثمة أشعار كثيرة حول هذا الموضوع ذكرها البحتري في حماسته،
لكني سأكتفي بأن أقتطف من قصيدة الرُّنْدي الأندلسي الأسيانة التي يرثي فيها الأندلس، فيقول معتبرًا ومعبّرًا، ومطلعها:
لكل شيء إذا ما تمَّ نقصانُفلا يُغَـرَّ بطيب العيش إنسانُ
[...]
أين الملوك ذوو التيجان من يمنٍوأين منهم أكاليلٌ وتيجانُوأين ما شاده شدَّادُ في إرمٍوأين ما ساسه في الفرس ساسانُوأين ما حازه قارون من ذهبوأين عادٌ وشدادٌ وقحطانُأتى على الكل أمرٌ لا مردَّ لهحتى قضَوا فكأن القوم ما كانواوصار ما كان من مُلك ومن مَلككما حكى عن خيال الطيفِ وسنانُدار الزمان على دارا وقاتلهوأمَّ كسرى فما آواه إيوانُ
نعرف أن الموت لا مفر منه ولو كنا في بروج مشيدة، ومع ذلك، يظل بيت النابغة الجعدي وصفًا دقيقًا لما نحن فيه:
والموت يأتي بعد ذلك كلِّهوكأنه يُعْـنَى بذاك سوانا