الأحد ١٥ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم فوزية عثمان

آخر يوم في الزمان

في كل مرة أعود فيها من عملي عند الساعة الواحدة ظهرًا كنت اعيش نفس المشهد في الحي الذي اقطن فيه، مرارًا وتكرارًا؛ أتأمل مشهد الحي الذي يصور بيئة عملي بدقة.

يأتي جاري الذي ينزل من سيارته برفقة طفليه، ويسعى جاهدًا حتى يظهر لي مدى إخلاصه وحبه لهما في كل مرة أصادفه فيها؛ إذ لا يكف عن قول: «إن الأطفال نعمة عظيمة، يجدر بنا جميعًا تقدير تلك النعمة.»

إنه يذكرني بموظف في شركتنا اسمه رؤوف، الذي يتخذ من شخصية الموظف المثالي سترًا ويمسك بزمام الأمور حتى يعلو بسلم الترقية.

أما ذلك المنزل على الجهة المقابلة لمنزلي، تسكنه تلك الجدة التي تنتظر حفيدها كل يوم حتى دون ان تتخذ لها سترًا من أشعة الشمس الساطعة، وعندما تراني عليها أن تدعوني إلى تناول الطعام برفقة حفيدها طالب الثانوية الذي وصل لتوه، هذان الثنائيان يذكرانني بالموظف المخضرم أحمد ذو التسع سنوات من الخبرة، والموظف بلال المستجد والمتخرج حديثًا، وكيف يقضي احمد معظم وقته بالاعتناء بالموظف الجديد بلال وتعليمه مهام عمله.

ليس الأمر وكأنني أفضل مشاهدة التلفاز بعد عودتي من العمل قاصدًا، ولكني شغلته بعد أن انهالت على هاتفي كومة من الرسائل تحثني على الرد على الهاتف أو أن افتح التلفاز في الحال. وصلت لمحطات الأخبار التي تزامنت بنقل نفس البيان الطارئ: «نشر اتحاد سفن الفضاء عن بَدْء إجلاء سكان الأرض من كارثة نيزك سيضرب الأرض خلال ثمانية وأربعين ساعة، وبناء على ذلك سيتم اختيار فرد واحد فقط من كل عائلة على وجه الأرض..."»

ذلك النبأ يذكرني بالأوقات التي نحظى فيها بمهمة فجائية في العمل، ويتعين علينا فيها أن نعمل عملًا إضافيًا لمصلحة الشركة، في وقت قصير ومع قدرات محدودة من أجل نِقَاط بسيطة يتم منحها للموظفين، مما يشكل حالة استنفار بين الموظفين شأنها شأن هذا البيان الكارثي.

لم أستطع الاستماع إلى باقي تفاصيل ذلك الهراء الذي لم يكن منطقيًا لي البتة، وجُلّ ما فعلته هو انني أغلقت التلفاز بكبسة زر وتمددت على الأريكة شدة الانهاك الذي أنا فيه.

كل شيء كان هادئًا وساكنًا حتى استيقظت فزعًا مضطربًا كما لو راودني كابوس بعد النوم على وجبة عشاء دسمة، لكنني وجدت مراهقان يحاولان حمل ذلك التلفاز وسرقته من منزلي. صحت فيهما قائلًا: «أنتما!! ماذا تظنان نفسكما فاعلان؟!»

يذكرانني بالموظفان اللذان يصغرانني سنًا، عندما اقضي معظم الوقت بالعمل على مهمة تستلزم وقتًا وجهدًا كبيرًا، ويأتيان هذين أخيرًا للاستيلاء على جهدي وتعبي بطرق ملتوية.

ولكن شتت انتباهي عنهما علو صوت الصراخ والضجيج في الخارج، وفي تلك اللحظة استغل اللصان الفرصة وتمكنا من الهرب. والآن، يبدو أن ذلك الخبر صحيح؛ الأرض سيضربها نيزك عملاق وسنتحول إلى فتات نحن وكل شيء على سطح الأرض! لحظة واحدة، ولكنهم اعلنوا سابقًا عن سفن الإجلاء من الكارثة إلى الفضاء، علي أن التحق بتلك السفن بصفتي الفرد الوحيد من عائلتي.

في اللحظة التي خرجت فيها من منزلي مسحت على وجهي بيدي في محاولة لتمالك نفسي؛ إذ كان المشهد قاسٍ وشديد البأس، ووسط تلك الآفة والفاجعة وانتشار الشغب بين الجميع أن لاحظت طفلان يقفان في منتصف السكة ويبكيان؛ يبدو ان الخوف قد تملكهما، والأبشع من ذاك هو أن والدهما كان يسير مبتعدًا عنهما وهو يهجرهما، وذلك الوالد لم يكن أي واحد، بل جاري المحب لأطفاله!

ها هو ذا موظفنا رؤوف يخلع ثوب الجلال والوقار ويتخلى عن مبادئه وتنافسه النزيه من أجل نيل تلك الترقية باستماتة.
لم أستطع أن اقطع دهشتي من ذلك الموقف المتناه في الشَّرّ، شديد الشَّناعة، الذي يُثير الاشْمئزاز والألم والغَيْظ بقساوته إلا عندما اصطدم بي أحدهم؛ لقد كان جاري المراهق حفيد تلك الجدة، ولكن أين جدته؟ عندها بوضوح رأيت جدته من شرفة منزلهما، وجسدها مثبت إلى كرسيها المفضل ومكبل بسلاسل حديدية، وترمقني بنظرات مذعورة! هو من فعل ذلك بجدته وفر من أمامي هاربًا حتى اختفى واضمحل! أدركت أن في الأوقات العسيرة فقط تنكشف معادن الناس، فإما أن يشع جوهر صلاحهم أو أن يبور بفعل أنانيتهم اللانهائية.

لقد كسب الموظف الجديد بلال الوظيفة وتم التخلي عن الموظف أحمد ذو التسع سنوات من الخبرة.

بقيت أجول الشوارع مدة ربع ساعة ابحث عن سيارة أجرة تقلني إلى المطار حتى بدأت الشمس تغرب فعلًا، ولكن اخيرًا، توقفت أمامي سيارة أجرة وافق سائقها على اصطحابي إلى المطار. وبعد عدة دقائق، وفي محاولة لكسر ذلك الصمت المهيب وخلق محادثة لطيفة تساءلت بفضول إلى سائق السيارة إن كان سيذهب إلى المطار لصعود تلك السفن هو أيضًا، فأجابني نافيًا، وكشف عن السبب قائلًا: «نحن لا نقاتل القدر، إن كان قدرنا الموت على هذه الأرض فليكن ذلك.»

تملكني الذعر والخوف وصرخت فيه أن يوقف السيارة وينزلني منها في الحال، لكن ذلك لم يشعل فيه سوى مزيد من الجنون حتى زاد من سرعة السيارة إلى سرعة خيالية! وبدأت أصارعه على مقود السيارة حتى اصطدمنا ببرميل للنفايات، وتمكنت من الخروج من السيارة وأنا أعرج وأسعل، أما سائق الأجرة فلا أعرف عنه شيئًا سوى انه قد فقد وعيه أو فقد حياته إن صح القول.

بعدها ظهر أمامي أشخاص من العدم وحاوطوني بأسلحتهم الفتاكة من كل صوب، أمروني أن انبطح على وجهي أرضًا دون حَراك، ووجدوا كنزًا ثمينًا داخل حقيبتي، وبذلك يستطيعون انتحال هويتي وكسب مَقْعَد في سفن الاجلاء من الكارثة، وذلك ما حدث فعلًا عندما تركوني لأهيم على وجهي دون هدى وهمَّوا راحلين عن المكان.

هذا الموقف ذكرني بموظف في شركتنا ما استطيع ذكر اسمه لأسباب تخص سلامتي، ذلك الموظف لديه العديد من المعارف وسلطة لا يستطيع أحد منا مجابهتها، دائمًا ما ينتزع اللقمة الهانئة من أفواهنا في اللحظة الأخيرة.

من جانب آخر، وقفت على قدماي، اهتديت إلى دربي وبدأت بالركض دون توقف، حتى تمكنت من الوصول إلى بوابة المطار، لأكتشف أن هذا المكان قد أحاطته قوات عسكرية كبيرة. تقدمت ببسالة أمام مسؤول المرور الذي سرعان ما سألني عن أوراقي الثبوتية التي نفيت امتلاكها ببساطة، ليخبرني أن أغادر في الحال، وبطبيعة الحال توسلتهم بأن يتحققوا من هويتي بطريقة أخرى، ليرفع الضابط العسكري السلاح في وجهي، فيتابع ذلك حضور ضابط ثاني ذو منصب أكبر من الأول، أمره أن يتفحصني بواسطة بصمة العين وحينها سيعرفون هويتي. نفَّذ الضابط ألأوامر مرغمًا ووضع جهازًا ما على عيني لتتدفق إليه كل معلوماتي وبياناتي إلى شاشته، وبذلك تمكنت من الدخول إلى بهو المطار بنجاح.

يذكرني هذا الموقف بتخرجي من الجامعة وبحثي عن عمل، عندما قررت التقدم لوظيفة في شركة مرموقة دون خبرة تذكر، وعند تقديم أوراقي للموظف المسؤول لم يكلف نفسه عناء النظر إلى أوراقي عندما أخبرته أنني حديث تخرج دون خبرة، مما صاعد الجدال بيننا حتى أتى مرؤوسه وانقذ الموقف، وقرر منحي فرصة بالتدريب لمدة.

وصلت إلى بهو المطار، إلى مكان يعج بكثير من الناس، وكانت هناك بوابة أخرى تفصل بين بَهْو الانتظار ومهبط الطائرات، لكن لحظة وصولي كنت أرى المسؤولين يقفلون تلك البوابة للأبد وهم يرددون في مكبرات الصوت انهم قد اكتفوا بهذا القدر من الناس، وبدأ المسؤولون بإطلاق النار في الهواء حتى يتراجع الجميع من فورهم خوفًا على حيواتهم الثمينة، وبذلك يتمكنوا من إغلاق البوابة بنجاح. ونقف جميعنا مذعورين بوجوه شاحبة وحشية؛ لقد تم التخلي عنا للأبد!

كانت تلك الخيبة شبيه بخيبتي عندما ظننت أنني قد حصلت على فرصة للتدريب ونيل تلك الوظيفة، لكني عندما وصلت لمقر التدريب وجدت عشرات الموظفين أمثالي ممن تشبثوا بأمل زائف أعطاه إياهم أحدهم لإسكاتهم.

وعلى بضعة خطوات بجانبي وجدتُ من حلت عليه سكينة وطمأنينة عجيبة؛ كانت امرأة بدت وأنها قد عهد إليها تولي بعض المهام، ولكن عند انقضاء مهمتها تم التخلي عنها وهجرها.

أما أولئك الذين تم اختيارهم ليكونوا أمل هذه البشرية وهم يصطفون لصعود الطائرات، في حين بغتة، انقلب كل شيء وحدث النقيض؛ إذ كان أولئك الناس يحاولون الانضمام إلينا لا صعود تلك الطائرات، يطرقون البوابة بكل ما أوتوا من قوة وكأن حياتهم على المحك، وهي قد كانت كذلك فعلًا! حيث كان يتم ابادتهم بغاز سام حتى بدأوا يسقطون الواحد تلو الآخر وهم يختنقون حتى الموت.

كنا نتراجع إلى الخلف بخوف، إلا تلك المرأة التي خرجت عن صمتها أخيرا وعلَّقت قائلة: «انهم يعلمون أن معظمنا قد ارتكب جرائم مروعة في سبيل إنقاذ حياته من الهلاك، ثَمّ من المحال أن يدعوا أشخاص مثلنا أن يكونوا أمل الأجيال القادمة.»
لقد أرادوا إعماء بصيرتنا بالأمل الزائف، وكان عليهم إيجاد طرق للتخلص من أكبر قدر ممكن من اعداد البشر الهائلة وعديمة الفائدة، فجعلونا نقوم بالعمل القذر ونتقاتل فيمَا بيننا. وأن السفن ممتلئة مسبقًا بأشخاص اختاروهم منذ سنوات عدة؛ أشخاص ذو جنيات نادرة ومناعة هائلة تجاه العديد من الأمراض. وأن الأمر لم يكن يتعلق باصطدام ذلك النيزك بالأرض، بل في الحقيقة أن الأرض بعيدة عن أي نيزك قد يصطدم بها مسافة أربعمائة سنة.

وفجأة فقط، تراجعت من فوري عن محاولة الحديث أو التفكير وفعل أي شيء؛ إذ بدأ تأثير الغاز السام يفرض تأثيره علي وبت غير قادر على الحركة، وكان الغاز قد بدأ بالتسرب إلينا من فتحات التكييف فعلًا. نظرت بطرف عيني لما حولي، وجدت حفنة من البشر يتقاتلون على بضعة اقنعه، ظنًا منهم أنها ستقيهم من الغاز المميت، وإلى ذلك الرجل الذي يرأس عصابة ما ويبدأ بسلب الناس ممتلكاتهم الثمينة.

في اللحظة الأخيرة، اضطررت أن اقطع غفوتي التي اختطفتني في الساعات الأخيرة من عملي، لكن كفاحي ونضالي في العمل لم ينتهيا بعد، إنه صراع يشبه القتال على أنفاس الدنيا الأخيرة، صراع آخر يوم في الزمان


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى