أبو إبراهيم الفخاري
في ركن معتم من "مخيم الشاطئ"، بين جدران أنهكها الزمن ورائحة غبار عالقة في الهواء، كان "أبو إبراهيم" جالساً أمام ما تبقى من مشغله الصغير. لم يكن مجرد معمل للفخار، كلا! بل كان عالمه كله، ملاذه الذي يهرب إليه من ضجيج العالم، حيث يجد سكينته في حوار صامت مع الطين.
القصف الإسرائيلي الأخير - آه، كم مرة قلنا "الأخير"؟ - لم يترك الكثير. لكن أبو إبراهيم، ذلك العجوز الذي بدا وكأن التاريخ كله محفور على تجاعيد وجهه، لم يكن من النوع الذي يستسلم. أو ربما كان قد استسلم منذ زمن بعيد، لكنه اكتشف أن الحياة الحقيقية تكمن في مواصلة العمل رغم يقينك بالهزيمة، وأن الاستسلام الحقيقي هو التوقف عن المحاولة.
يداه - تلك اليدان اللتان تشققتا كأرض عطشى- كانتا تغوصان في الطين المجبول بالماء. ولكن هل كان ماءً فقط؟ أم كان هناك شيء آخر، شيء لا تراه العين، يمتزج بذلك الطين؟ دموع؟ دماء؟ ذكريات؟
الحفيد - ذلك الصبي الذي لم تمنحه الحياة فرصة أن يكون طفلاً حقيقياً، بل ألقت به مباشرة في أتون الأسئلة الوجودية - كان يراقب المشهد بذهول. في عينيه كان هناك ذلك المزيج الغريب من البراءة والشيخوخة المبكرة، ذلك المزيج الذي لا تراه إلا في عيون أطفال الحروب، كان ينظر إلى جده بفضول وحيرة.
قال، وفي صوته ارتعاشة خفيفة كانت تخون محاولته الظهور بمظهر الناضج: "يا جدي، الفخار هشّ، يكسره حجرٌ صغير، فكم بالحري القذائف، فلماذا تتعب في تشكيله؟"
آه، يا لها من مأساة! سؤال طفل يحمل كل أسئلة العالم الوجودية. هذا هو السؤال الأزلي نفسه، لماذا نحب إذا كنا سنفقد من نحب؟. لماذا نبني وبيوتنا تُهدم؟ لماذا نزرع وأرضنا تُجرف؟ لماذا نحلم ونحن نعرف أننا قد لا نستيقظ غداً؟
توقف العجوز قليلاً. لم يكن توقفاً عادياً، بل كان توقف إنسان يزن كلماته كما يزن الصائغ الذهب، لأنه يعلم أن الكلمات التي سينطق بها الآن قد تحدد مصير روح هذا الصبي. وضع كفّيه على الطين اللين - ذلك الطين الذي بدا في تلك اللحظة كأنه قلب الإنسانية النابض - وقال:
"إحنا والطين واحد يا ابني."
كانت جملة بسيطة، لكنها حملت في طياتها فلسفة كاملة عن الوجود. كانت بحجم كونٍ كامل. نعم، نحن والطين واحد! خُلقنا منه، وإليه سنعود. لكن في تلك الرحلة القصيرة بين الخلق والعودة، ماذا نفعل؟ هل نستسلم للطغيان، أم نحولها إلى قوة؟
"شوف... هو طري وضعيف قدام المي، بس لما يفوت على النار، بيصير أقسى من الحجر."
النار! دائماً النار! أليست النار هي التي تطهّر وتقسّي في آن واحد؟ أليست معاناتنا هي النار التي إما أن تحرقنا حتى الرماد، أو تحولنا إلى شيء أصلب، أقوى، أجمل؟
ثم أضاف العجوز، وفي صوته ارتعاشة من ثقل العمر والتجربة: "القوة مش إنك ما تنكسر أبداً يا ولدي. القوة هي إنك تعرف كيف تلملم حالك بعد كل كسرة، وتعمل من حالك إشي جديد."
هنا توقف الزمن. أو هكذا بدا للحفيد. كانت تلك اللحظة من تلك اللحظات النادرة التي ينكشف فيها معنى الحياة فجأة، كما ينكشف البرق في ليلة مظلمة. الارادة في القدرة على التشكل من جديد! ليس في عدم السقوط، بل في القيام بعد كل سقطة، وفي ترميم الروح بعد كل عثرة.
لكن الحياة، تلك الساخرة القاسية، لم تكن لتدع هذه اللحظة الفلسفية تمر دون أن تضيف لمستها المأساوية.
في تلك الليلة سقطت قذيفة قريبة. لم تكن الأولى، ولن تكون الأخيرة. اهتزت الجدران المتعبة، تلك الجدران التي بدت وكأنها تتساءل: "إلى متى؟" وسقطت جرة فخارية كانت تجف على الرف، فتهشمت إلى شظايا.
الجرة التي صنعها أبو إبراهيم بيديه، التي عجنها بآماله، التي شكلها بأحلامه، سقطت. ماتت. انتهت. كل ذلك العمل، كل تلك الساعات، ذهبت هباءً في لحظة واحدة.
ركض الحفيد في الصباح - وفي ركضته تلك كان هناك شيء من الجنون، شيء من اليأس - ليجمع الحطام، وكان يبكي. لم تكن دموعه على الجرة المكسورة فقط، بل على كل شيء: على طفولته المسروقة، على تعب جده ، على وطن يتهشم كل يوم ويعاد تشكيله كل يوم.
لكنه وجد جده يبتسم!
يبتسم! وسط كل هذا الدمار، وسط كل هذا الألم، كان العجوز يبتسم. لكنها لم تكن ابتسامة سعادة، كلا! بل كانت ابتسامة من عرف سراً خفياً، سراً لا يعرفه إلا من مر بالنار ونجا.
أخذ الجد قطعة مكسورة، وبأصابعه المرتعشة - تلك الأصابع التي اختبرت أكثر مما ينبغي - حفّ حوافها المدببة بعناية، كأنه يحف جرحاً في قلبه. ثم، وفي حركة بدت كأنها طقس ديني، غرسها في فجوة بالجدار الإسمنتي، وصنع منها عشاً لعصفورٍ دوريٍ قد يضلّ طريقه.
من الموت، خلق حياة. من الانكسار، صنع ملجأ. من اليأس، نسج أملاً.
قال له، وفي صوته ذلك الحنان الممزوج بالحكمة الذي لا تجده إلا عند من دفع ثمن معرفته غالياً: "أرأيت؟ هذا هو جمالنا الرهيب."
الرهيب! نعم، استخدم كلمة "رهيب". لأن جمالنا حقاً رهيب، مخيف، عظيم. إنه جمال لا يفهمه إلا من عاش على حافة الهاوية وتعلم الرقص هناك.
"بالأمس كانت جرة تحمل الماء، واليوم هي كسرٌ يحمل الحياة. "نحن يا ولدي خُلقنا من طين هذه الأرض؛ نضعفُ حتى نظن أننا انتهينا، ثم نبتكرُ من انكسارنا قوةً لم تخطر ببال أحد."
مسح الحفيد دموعه. لكن هذه المرة لم تكن مجرد دموع حزن، بل كانت دموعاً مختلطة: حزن وفخر، ألم وأمل، يأس وتحدٍ. نظر إلى الحطام، ولم يعد يراه خراباً.
لا، لم يعد يراه كذلك! رأى فيه بداية لشيء جديد، رأى فيه إمكانية، رأى فيه قيامة صغيرة من بين الأنقاض.
وفي تلك اللحظة فهم الصبي ما استغرق كثيرين حياتهم كلها ليفهموه: القوة الحقيقية ليست في عدم السقوط، بل في تلك العزيمة القوية التي تجعل من الوجع جسراً، ومن الطين المبلول بالدموع أيقونةً للصمود.
نعم، العزيمة! أن تبقى إنساناً رغم كل شيء، رغم القصف والتهجير والموت. أن تبقى قادراً على الخلق والحب والأمل، حتى عندما يبدو أن كل شيء يدفعك نحو الكراهية واليأس والاستسلام.
هذه هي فلسطين: ليست مجرد أرض، بل حالة وجودية، سؤال أبدي عن معنى أن تكون إنساناً في وجه اللاإنسانية، عن معنى أن تخلق في وجه التدمير، عن معنى أن تأمل في وجه اليأس.
وأبو إبراهيم، ذلك الفخاري العجوز في ركنه المعتم، لم يكن يصنع جراراً فقط، بل كان يصنع فلسفة، كان يكتب بيديه المتشققتين إجابة على السؤال الأبدي: لماذا نستمر؟
لأننا طين. ولأن الطين، حتى عندما ينكسر، يمكن أن يصبح عشاً للحياة.
