

أحلامٌ بلا سقوف
ذات مرة.. ومثلها مرات.. وأكثر.. حتى اعتدنا على الموت، أو النهايات التي تشبه الموت، أو الموت الذي يلجم التعاسة، والعروج على الجنات.
على بُعد نسمة من بحر غزة ونحن نهلك بالظمأ، ورائحة الموت تزكم الأنوف.. إذ تنهال علينا السماء بوابل من الصواريخ زنة الطن وأكثر، وفي رأس كل صاروخ أسماؤنا منحوتة.
لطالما قال أبي: قدرنا أن نعيش مع طغمة من الأوباش، فلنمتْ جميعاً، أو نحيا جميعاً؛ أخوة في الموت والحياة ما بقينا.
ولأن الحياة والموت في فلسطين قرار خارجي.. ما كان علينا إلا التشبث بالحياة الكريمة وأخذها عنوة أو الشهادة؛ فما جدوى الحياة بلا وطن، أو في وطن مسلوب الإرادة.. كانوا أصدقاء أبي رفاق دربه والسلاح على رأي واحد وكلمة واحدة: (ubuntu)*.. كأنها كلمة سر، أو إشارة لساعة صفر. فحاولتُ جاهدةً معرفة مغزاها وفكُّ طلاسمها، لكنها كانت عصية على فهمي وقصر إدراكي؛ كأي كلمة خارج القواميس. فما أزال طفلة أبيها المدللة.. الكل يناديني باسمي إلا أبي ما أن يذكر اسمي حافٍ إلا بإضافة، يتغنج باسمي بلهجته القروية الجميلة المثخنة بنكهة الزيتون: زينب البطلة.. الدكتورة الصغيرة.. وحيدتي الجميلة.. زنوبتي.. أطير من الفرحة، حتى كأن الأرض لم تعد تسعني، وأكبر ساعتها، تتورد وجنتي، عيني تلمعان، مهووسة بلذيذ قبلاته والحنان.
ذهب ذات مرة، كما هو المعتاد في سابق المرات، إلا أن هذه المرة أشك أن تكون ثمة رجعة، خاصة وأن أمي قد سبقته رُقياً في أول سلالم الشهادة. كأن قناصة العدو يتسلى بالقتل، كأنهم يمارسون كشف النقاب بالرصاص - رحمها الله - عادت كالحور لموطنها العلى حيث الجنان كان المنزل.
ما أزال أسمع أصوات العابرين، شباب الدفاع المدني والمسعفين وبعض المتطوعين، وتصايح صبيان تتسلى برفع الحجارة أو تقديم العون ما أمكن، تنبش ما تحت الأنقاض كأنهم يبحثون عن كنز مفقود، وهل هناك أثمن من جثامينا.؟ انهمك الكل برفع بقايا الكتل الكونكريتية وما تناثر من الخرسانات والهياكل الأسمنتية، والسقوف التي خرّت للأرض ساجدة.. وثمة عارض كبير ما يعيق عملهم طائرات الموت والقصف والقناصة مع تشابك قطع شيش التسليح المحلزن، الذي تحول إلى أكوام من الخردة، وتراكم الأنقاض بعضها فوق بعض.
لم تكن عمارة (آل أبو عيشة) الأولى والأخيرة، فأكثر من عمارة ومبنىً في حي الشجاعية دُكّت بالكامل وسوّيت بالأرض.. لم يبق مسجداً أو مشفىً إلا وطالها العدوان، ولا مدرسة أو ملعباً بمنجى من ذلك، حتى رياض الأطفال مشمولة بالعقاب بتهمة صناعة الأجيال.. كانت مقتلة الأطفال سادية جداً، لجرمهم الكبير في حب الأرض، تمزقت حقائبهم مثلما تمزقت أجسادهم وتناثرت لحومهم وشحومهم كالقراطيس، حتى الدمى ما سلمت من الاستهداف والتصويب. كإن القتلة مفتونون حد الهوس بألعاب الرماية.. يستهدفون كل شيء حيّ في القطّاع بما فيها الحيوات والحيوان والطير؛ حتى الكلاب لم تأمن أن ترفع رأسها والقطط.
كنت أذكر أنني أسكن في الطابق الثالث، أما الساعة فلا أدري في أية طبقة أرزح تحت الأرض، أو تحت أي جدار منهار يقبع جسدي المنكمش، مع أن أحد أضلاع الغرفة قد مال عليّ ميلة حب، فصار كقوس لحد على الطريقة التركية.. أتنفس ما بقي من رماد وتراب، واشرب هول الفاجعة وروع الظلام.
كان أخي في الغرفة المجاورة لغرفتي نشترك بحائط واحد، وثمة نافذة صغيرة مشتركة ككوة في زنزانة مفتوحة على الدوام لأستيحاشي من الوحدة، فما كان ليشعرني بمدى خوفي من الظلمة، ووحشتي دون أمي، كنت كلما أسمع صوت الرعد أعانقها فكيف بي والصواريخ تعانقني وتقلب الجدران على رأسي.؟ لطالما شدَّ على يدي بيد بيضاء مشفقة وقلب عطوف، يلاطفني بقوله: أشم مسك أنفاسك واستمد قوتي منك. على الرغم من صغر سنِّه؛ كان سندي.
انصبّ جل تفكيري واهتمامي وهمي به، ناديت عليه مراراً وتكراراً، فما كان ليتركني وحيدة أبداً، فكيف بي وأنا في موقف لا أُحسد عليه، إلا أن يكون قد تعلّق بأذيال أمي ورحل، فهو لا زال ذاك الصبي (الشفيق) متعلقاً بها أيما تعلق. نفضت عن نفسي غبرة الأفكار السوداء، ودعوت ربي بوحدتي ووحشتي وثقل أطنان من الأنقاض فوقي أن يكون فاقداً للوعي، ولعله في غيبوبة صغرى، سرعان ما يؤوب لرشده ويأخذ بيدي؛ لا أطيق الحياة دونه.
ما جدوى أن تعيش فتاة للتو بلغت شوطها العشرين ـ هكذا أرى العمر في ظل العدو مجرد أشواط ـ في نزال مسعور ممتد من قبل حكمٍ متحيز مرتش.. لا أسمح لأحد أن يقول لي: إنك في مقتبل العمر، وربيعه وريعان الشباب؛ أكره المجاملات المشروخة المتنصلة عن الواقع. بل من شاء مواساتي وتعزيتي فليسمعني كلمة: (اوبونتو).. كلنا معاً ـ ويرفع الأنقاض عن جسد أخوتي ـ الكلمة التي أراها أكثر معاضدة ونصرة ووحدة للصف.
لا أملك الساعة إلا أن أطرق الأرض بقدم ملتوية ويد جذاء معكوفة. وأصيح بكل ما ألمَّ بي من جراح ورضوض: محمود أين أنت يا أخي.. أرجوك لو تمهلت قليلاً، فبعد أوان الرحيل لم يحن. ماذا لو أخذت بيدي معك، ألم تسمع هتاف أبينا: لنمت جميعاً أو نحيا جميعاً. ها أنذا أناشدك بالأخوة، وبروح أمنا التي لم تفارقنا أن تنهض وتعانقني؛ أنا جد خائفة ووحيدة.. ما أظن أن يحول الجدار الحائل بيني وبينك، وإن كان سور الصين لتجاوزته، فكيف وهو جدار شقة واطئة الكلفة؛ الذي تعرفه. آه لو أنك ترى العمارة اللحظة مهدمة من كل جانب، ممزقة بعربدة القنابل، وطائرات الدمار، إنها صواريخ الغرب رُسل الموت وآلهة الفساد؛ كلهم قتلة.
ألم يقل أبي: إن أمريكا أحقر من أن تتورع في قتل الأبرياء، وغير بعيد أن تستخدم كل الأسلحة المتاحة والمحظورة دولياً لتحقيق مآربها.. بلدٌ كبر على عمى فكل أبناء أنابيبه في عَشْوٍ وضلال.. ما أغباهم يخوفون شعباً الموت نفسه يخشاه.
محمود الشهيد الحي الغائب الحاضر، مجندلاً في زاوية ضيقة تحت حشد من الركام شديد الانزلاق عصي الانزياح، خرّت غرفته بسقفها إذا لم يكن بسقوف الشقق العلوية وربما السفلية فمن شأن هذه الصواريخ الحاقدة أن تقلب عاليها سافلها، مثل أحلامنا النازفة العارية كأحلام بلا سقوف.. انقّضت العمارة كلها على ساكنيها (عائلة آل أبو عيشة)، حتى لم يبق منها سوى رسم أطلال وذكرى حبيب ومنزل.
لم يرق للعدو إلا أن يرى الركام على الركام، عدو قذر يشهر سلاحه جهاراً أمام الكاميرات ليتبجح بالتمثيل بأجسادنا وعلى المباشر، في مرأى ومسمع من العالم الأعور.
ألم أخبركِ يا أختي العزيزة إنني لم أكن وحيداً، فقد كانت أمي تلازمني وتشد منازف الجرح، فثمة ألم في عظمة أذني، ما كنت أسمع غير صوت مدو.. وهاهي قد عصّبت رأسي بقطعة من خمارها الأبيض، ذلك الذي كانت ترتديه مع جلباب الصلاة.. سألتها عنك أول ما سألت. أجابتني بروح ملؤها العزاء والمواساة: لأختك بعثٌ جديد وقدرٌ أكبر، شاءت السماء أن تحرسها.
ـ حبذا لو ترفعين صوتك أماه، وتكلميني بلغة افهمها.. فما عدت أسمع غير طنين وأزيز.
دنت مني وبحماسة قالت: لم تزل أوراقها خضراء بعد، فأوصها عني وعنك بـ (أبينا) خيراً، وشعبنا والمحبين.. وقل لها ألا تحيد عن درسها ولتكمل الطبية، فنزفُنا غائر لم ينكأ، وجرحنا لم يندمل.. ولتبلّغ أبانا ألا يستوحش إذا ما ضاقت واشتدت حلقات النوائب عليه قلةَ السالكين فطريق الحق يُسلك فُرادى، وليمضي بما عاهد عليه الأولين.. ولتذكّره ألا يركن للظالم أبداً ويستسلم، ولينهج بذلك سيرة المجاهدين: أنا أكون، لأننا نكون ـ كما علّمنا ذلك ـ فالركب مستمر ما استمر الاحتلال، وقدرنا أن نكون في مقدمة الفداء، فكلما أفل نجم منا تداعت له سائر النجوم بالصدور والجسوم؛ أخوة في القضية والمصير.
ما تزال زينب تسمع أصوات في الخارج، وحركات غير منتظمة تشي بحركة بحث مستمر، ونبش ما تحت الحجر في حذر.. كما لو أنها لم تكترث للنجاة أن حظيت به الساعة، فأكثر ما تتمناه نجاة أخيها. ولم تنقطع البتة من النداء عليه كلما وآتتها القوة بالصياح: محمود.. محم…ود.. مح....ود..
كان محمود يعرف مدى فوبيا أخته من الظلمة والأماكن الضيقة، ظل يبحث في الأرض وينحت الجدار بإبرة لعله يفتق الستار ويطلُّ عليها، مع أنه مخضب بدمائه.
وسط كم هائل من الجثث والأشلاء كانت جثتي تتنفس، ربما جثة أخرى ستنهض كطائر العنقاء من الرماد وتأخذ بأيدينا، ربما أنت هو ذاك يا أخي المؤمّل، لا أظنك ستستسلم بهذه السهولة، وأنت ذلك النَزِق المتمرد. القائل: أنا أنتم، كلنا واحد. كأنك استقيت مقولة أبي وابتلت عروقك الصائمة ببسالته..
ركز العدو كل قذارته في خياراته المتشابهة بين الموت وأخواته من جوع وتشريد وهجرة دائمة بلا رجعة؛ كلها ضرب وبالصميم.. ماتت أجسادنا ولم تزل قلوبنا تنبض كعلم فلسطين يرفرف عالياً في العالمين.. وصوت غريد ينادي: لن نبرح الأرض، لن نبرح غزة، في أرضنا الحب، في أرضنا العِزَّة.
تظاهروا إخواننا في الجامعات الغربية وفي سوح التحرير العربية، وفي أماكن لم نسمع بها، أنها غيرة الإنسان على الإنسان.. دائماً ما تنبض الحياة بالحلول، إلا مع إسرائيل فلا حلول ولا أنصاف حلول، ولا وعود ذات قيمة، كونهم أنصاف رجال أو أشباه رجال؛ إذا لم يكونوا مسوخاً في الغالب.
بعد ما ينوف عن أكثر من سنة قتل وتشريد، رُفع الركام عن عمارة (آل أبو عيشة) مجموعة من المتطوعين ترأسهم زينب أبو زيد العطاطرة (الأخت)، فعثرت على جثة أخيها، وبين عظام أصابعه جهازه النقال.، كأنه يسجل موقفاً ما.. فأنكبت عليه صارخة لاطمة الوجه، رفعوها بقوة عنه.. بينما كان كادر التوثيق يصور المكان من كل جانب، قامت زينب بتصوير أخيها من عدة زوايا، وفي قلبها رغبة أكبر من التوثيق والرسميات، إنه ألبوم حياة، مسيرة أخوة حبٍّ وجهاد، طفولة تأمل عناق الحياة بسلام..
ووري جثمانه الثرى مع ثلة من الشهداء وسط تشييع صامت إلا من دموع، في مقبرة جماعية كتب في مستهلها بالدماء والرماد: هنا يخلد ضحايا حرب الإبادة والتطهير العرقي.
انكفأتْ زينب في عزلة مريرة تستذكر تراجيديا الأحداث أولاً بأول، قفزت بلا شعور تفتش جهازه النقال بعد شحنه، وجدت أن ثمة رسالة صوتية محفوظة بملف الصوتيات كانا يتشاركانه في تلاوة القرآن والأدعية الشريفة بصوتيهما.. بينما تستمع لرسالته الواردة من تحت الأنقاض وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة. وهي تقلب الصور الفوتوغرافية، لفتَّ انتباهها أن رأت رأسه مضمداً بخمار أمها الأبيض.
*اصطلاح في الحضارات القديمة يشير إلى أن نكون أو لا نكون