الجمعة ١٣ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم مبارك العباني

أحْلامُ المَدِينةِ وآكلوها

أمامَ برودةِ العالمِ المستعارةِ من صحاري الثلج، كانتِ المدينةُ تتوسَّدُ براعمَ أحلامها الغافية في السكون باكية!
لم تشك قط، أن أحلامها التي تشاكس تربةَ رَحِمِها الآن ستتفتح يوما ما وتصير أشجارَ زيتون مثمرة. كانت براعمُ الأحلام في أرجاءِ المدينة، تترفّـلُ في اليقينِ المحض بنضوجها ذات يوم قادمٍ على ضفافِ الأودية والبراري.

إلا أن مجاهيضَ الأحلام، كانوا يدقون طبولَ إبادة الأحلام غيرَ بعيد! وكانت المدينة الثكلى تعلم بخطِطِ المَجاهيض، تعلم بمِقصلاتهم المسنّة على رقابٍ كثيرة، تعلم بمقابر الأحلام المقبورة من قبلُ في قلوبِ المدائن الثكالى القديمة.

ظلتْ بلابلُ المدينة الثكلى تتمدد السكينةُ فوق أغنياتِها في البكور الندية، تترقب الشَّمسَ كلَّ صباح على أي وتيرةٍ ستمطرها بقبلاتِها الشهية. إلى ذلك اليوم الذي اقْتحمَ فيه الشّرُّ أبوابَها، اقتحمها مرتديا أجسادا بشرية، كان الشّرُّ جيشا من المجاهيض، يتأبطون أسلحتهم الفتاكة، يمشون في الشوارع فيشمئزّ منهم صمتُ الأرصفة وهمسُها، يفِّرُ منهم هدوءُ الزيتون العجوز وسلامه المسافرُ في العصور، تتلاشى من تحت خطاهم ظلالُ الكروم مخبِّئةً نفْسَها لصِبْية الأحياء وهم يلعبون، للشيوخ الذين خضّبت التجاعيدُ أرواحَهم ووجوهَهم.

أشجار المدينة تعرف المجاهيضَ أيضا؛ لإنهم يحملون الفؤوس نحو جذورها دائما، لم ترَهم قط يحملون دِلاء من البئر، أو يتوسلون الله أن تذوب غيمةٌ تائهةٌ في السماء على الحقول. لكنهم يرون في جذع الشجرة مائدةً لزجاجات خمرهم، يرون أغصانَها على ألسنة النار وهم مستدفِئِون بأنينها الذي يُسَوِّدُ أسقفَ أفئدتهم.

–«أيها المجاهيض، إن الأحلام التي تذبحونها بمناجِلكم، وتتغذون عليها، لَهي أكبر من أن تفنى بكم، وأوسع من طموحاتِكم. إن إجهاضَكم إيّاها لهو الموت الزؤومُ الذي سيلاحِقُكم ويلتهمكم وأنتم تنظرون!»

قالت المدينة ذلك، وعادت تمسحُ عن قلوب أبنائها اليأسَ بهبات نسائمها العليلة.

كان كل شيء يَحُثُّ المجاهيضَ على الرحيل: الشوارعُ، ضوءُ المصابيحِ الخافتُ في الطرقات، حكمةُ الجدات المتناثرةُ في الحاراتِ والمنازل القديمةِ، المآذنُ المتلحّفة بالسكينة، شيخوخةُ البحر.. كلُّ شيء كان يرفض وجودَهم واستمرارَهم في السير نحوَ حتفهم الذي يرونه غنائمَ.

فجأةً، أمامَ برودةِ العالمِ المستعارةِ من صحاري الثلج، بدأ المجاهيضُ يخرِجُونَ مناجلَهم من أفواههم المفتوحةِ كفَجَواتِ الكهوفِ المنسيَّةِ في الجبال، يسيرون وهم يُخرجونها بعَرْضٍ بطيء، بَدَوا كأنهم يتلذذون بما يحدِثُهُ إخراجُها من جروح في شفاههم وألسنتهم، كأنهم غير معنيين بخوف أجنّة الأحلام في رحم المدينة من صورهم البشعة، غير معنيين بخوف عيون النوافذ التي تراقبهم خلسة، كأنهم غير معنيين بجسارة أبطال الحجارة، العارية صدورهم أمام رصاصِ حقدهم وقاذفاتِ غلِّهم!

تفرّق المجاهيضُ في أحشاءِ المدينة الثكلى يبحثون عن أحلامها، هم الآن في ذروة جوعِهم.

ثمة مُجهضانِ يتجهان إلى بستان قديم في المدينة وهما يتهامسان:

–«لا بد من حلم لذيذ هناك خلف تلك الأجمة».

قالها مجهض لرفيقه وهو يلعَقُ ما حولَ شفتيه من دم مُتلبِّدٍ سالَ من حلم أُجْهِضَ وأُكِل حديثا.

–«بلا شك سيكون وجبة دسمة. سمعت أن الأحلام تُحبُّ الأجمات، تهوى أن تَفيءَ إلى ظلالها وتتأمل ما تشابك منها»
رد عليه رفيقُه المجهضُ وهو يمرر على أسنان مِنجلِهِ يدَه المقطوعة أناملُها.

اقتربا من الأجمة معا، أخذا يتسللان ببطء، رفع أحدهما غصونَ الأجمة الصغيرة، فوجدا حلمين معانقين يرتعشان وأنفاسهما تتقطع!

قهقه المُجْهِضانِ حتى سمعُ دوِيّ قهقهتهما من بعيد، ثم جرَّ كل واحد منهما وجبته. لم يترفقا بالحُلمين ولم يمنحاهما لحظةَ أن يودعَ واحدُهما الآخرَ، كان الحلمان الصغيران يرتعدان متشبثين ببعضهما إلى انتزُعَ الحلمُ من أخيه. كان واحدٌ من المجهِضَينِ، وهو في الجهة الأخرى من الأجمة، يقطّع وجبتَه إلى أشلاء! بينما الآخر في الجهة الأخرى ما زال يلعق ملوحة صيده أمامَ برودة العالم المستعارةِ من صحاري الثلج!

–«ألم تقطِّعْ بعد صغيرك ذاك؟ إنك تؤخرُنا عن وجباتٍ إضافيةٍ في الجوارِ!»

–«لا، لم أقطعه بعد.. أنا الآن مكتفٍ بملوحة عينيه البريئتين؛ لإن ملوحةَ أعين الأحلام لذيذة جدا! هل تذوقتَها من قبل؟»

–«لقد مللت من ملوحة أعين الأحلام! ولكن هذا الحلمَ الذي تحت رحمة مِنْجلي لا يبكي ولا يئنّ، فما رأيت له دمعة! ترى ما الذي جعله يتماسك ليبدوَ بهذه الصلابة؟ أشتهي أن أتذوق ملوحة عينه!»

كان المجهضان يتحدثان بأريحية، بينما كان الحلمانِ مدركَين، بغير أدنى درجات الشك، أن دمَهما شربةُ يجهل كل أهل الأرض أثرها على آكلي الأحلام!

في شمال المدينة الثكلى، ثمة مجاهيضُ آخرون يركضون خلف الأحلام القادرة على الركض، إنهم يستمتعون بأقدامها الحافية على التراب، يستمتعون برؤية دمها على أثر خُطُواتها. تطاردها المجاهيض، تتعثر الأحلام في برودة العالم المستعارةِ من صحاري الثلج،، تسقط، تحاولُ النهوضَ والاختباءَ من خبث المجاهيض، لكن مناجل الشر تكون حينها قد انغرست في ظهورها! يقهقه المجاهيض وهم يجُرّون المناجلَ المغروسةَ في ظهور فرائسهم الأحلام.

–«أيها المجاهيض، يا جنودي الأشاوس، لا تتركوا حلما واحدا يطمح إلى الحياة. اقتلوا الجميعَ، مزقوا كل ما يدب في رحم المدينة، ومن يمشي على ظهرها، واشربوا ما تدفق من دمائها اللذيذة؛ إن صغار أحلام اليوم أحلام الغد، فقطعوها ولا تتركوا منها آهة حية في الهواء، ولا تنهيدةً تتسلق رياح الأمل!»

كانت هذه خطبة قائد المجاهيض الذي علمهم فنون الإجهاض القديمة والحديثة، والساهر على إتقانهم إياها على أكمل سوءٍ ممكن. كان واقفا على قدم وساق، مفرطَ الهمة في أن يجعل العالم أقبحَ مما هو عليه، واقفا يهش على الذباب المتجمّع حولَ ما في فمه من دماء صغار الأحلام. كان يبدو على رقبته دمٌ لأحلام قديمةِ الموتِ والإبادة؛ دم لشعوبٍ ومدنٍ أخرى، وقبائلَ منسية في مقابر القرون الغابرة!

في وسط المدينة الثكلى، ثمة مجاهيضُ يُجرِّدُون الأحلام من نضارتها، يمتصون منها رونقَها، ثم يفرِغُون براميلَ من عناكبِ الخوفِ والتجاعيد، يروّضونها على أن تزحف بمخالبها الحادة فوق خدود المدينة الذابلة. لكنّ بضعةَ أحلام في المدينة قد أتقنت الهرب والتخفي من قبضة المجاهيض، فكانت ترتدي من الليل أحلكَ ما فيه، وتمشي في الشوارع أمام شر المناجل. تسير كأنها هَـبّـةُ ريح في صباحات آذار، يشعر بها المجاهيض ولا قدرة لهم على الإمساك بها أو رؤيتها.

 هل تسمع أنفاسها؟ قال مجهض لأحد رفاقه.

 أسمعها.. لكننا لا نعلم أكثر من كونها موجودةً وغيرَ مرئية!

كانت الأحلام المنفلتة من قبضتهم تراقب كل شيء ولا شيء يشي بها، ولا الأرصفة الحمراءُ تُـفْـشي سرها.. إنها أحلام متواطئة مع كل الأشياء في أمها المدينة الثكلى.

بينما استفرد مجاهيضُ آخرون، في خارج المدينة، بأحلام ظاهرة الهروب.. كان كل ما تطمح إليه: أن تجد صقيعَ خيمةٍ، أو وحشةَ نزوحٍ، أو دمعةَ ترحيب! لكنّ المجاهيض جائعون جد، لم يتركوا حلما في طريق النزوح، بل ألقوا بصغار الأحلام في سجون بطونهم، وعادوا يتغنون (بانتصاراتهم) في الحرب!

ذات مساء، وقد اجتمع المجاهيض محتفلين بما حققوه من إبادة أحلام المدينة الثكلى، وكانوا في قمة نشواتهم على موائد الخمور والمجون؛ بدأ قائدهم يتقيأ دما أسودَ، كان يصرخ وأحشاؤه تتقطع من الألم! اجتمع حوله من جنوده المجاهيض كثيرٌ، لكنّ مُجهِضًا آخرَ بدأ يتقيأ الدمَ باللون نفسه قرب قائده، ثُمَّ آخر فآخر فكلهم!

–«أيها المجاهيض، إننا آكلون ما ليس لنا، وسارقون ما لا حق لنا فيه. يا جنودي الضالين، لقد شربنا دما مقدسا ونحن خَبَثٌ، لا بد أنه ينقي نفسه منا. إننا الآن، وأنا أعترف بهذا، أود أن يبقى هذا الاعتراف سرا بيننا نحن الـ....»

وبتر التّقيُّؤُ خُطبتَه. يتقيأ، يسعل، تسعل الأفواه من حوله بوتيرة أكثر حدة منه، يصرخون، يتكلمون، تختلط الكلمات العرجاء بالدم المتناثر من أفواههم المفتوحة بغير إراداتهم، تهربُ الحروفُ من ألسنتهم مشمئزةً من نتانتهم. ثم في خِضمِّ هذه المعركةِ التي يخوضونه بين الموت والحياة بما تجرعوه، أتاهم صوت حلم صغير من أولئك الأحلام غير المرئيين:

 «يبدو أنكم لمْ تتعلموا من الحِقَبِ المنصرمةِ! بطونكم الآن، أيها المجاهيضُ الأشرارُ، ممتلئة بأحلام أمِّنا المدينة الثكلى، ممتلئة ببقاياها غيرِ المهضومة، ببعض أنينها الذي لم يتلاشَ وإن فتكتم بأجسادِها كاملةً، فعلتم ذلك أمام برودة العالم المستعارةِ من صحاري الثلج.. لكنّ ما لا تعرفون أن أحلام المدائن البريئة قِـطَـعُ زجاجٍ وسمٌّ زُعافٌ في بطونِ آكليها!»


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى