الجمعة ١٠ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٨
بقلم هشام آدم

أرض الميّت

فصل من رواية

كنتُ منتبهاً لصوت الجدة مِسكة المتشائم ومتأثراً به وهي تحكي لنا عن وفاة أحد أعظم الأساطير التي مرّت على قريتنا والقرى النوبية على الإطلاق، وظلت سيرة هذه الشخصية الأسطورية التي تسببت في تسمية الأراضي التي تسكنها بعض القبائل الأحمسية السمراء تتردد على ألسنة عجائز القرية وشيوخها جيلاً بعد جيل؛ إلى الحد الذي جعل الرواية تخضع إلى عمليات تحريف شعبية واعية، فأضاف إليها البعض من مخيّلته الخاصة؛ بينما اعتمد البعض الآخر على ذاكرته التي كانت قد أصابها العطب والصدأ بفعل تقدّم السن، ولم يبق من معاصري هذه الشخصية أحد على قيد الحياة. ولكنني تأثرت برواية الجدة مِسكة التي روتها لنا على حلقات متسلسلة، فكنا ننتظر الظلام وهو قادم يتهادى على مهل فوق سفوح جبال ميمن توّو الجنوبية كغريب يدخل القرية على خجل فنجلس في نصف دائرة: أنا وأبناء عمومتي وبعض الفتيات لنستمع إلى ما تبقى من حكايات جلال التمتام.

ومازلت إلى الآن قادراً على تصوّر مشهد وفاته الذي لم يشهده أحد وخضع لتكّهنات الرواة من هيئته التي رأوه عليها عندما عثروا عليه ميتاً على سريره ممسكاً بصورة فتاة لم تتجاوز الثامنة من العمر. والضوء الذي كان يمر متسللاً من خلال النافذة المتهالكة على تجاعيد وجهه الذي كجلد تمساح أمازوني، عرّى تواريخها. ذلك الضوء الذي كنهر هادر من آلاف اليرقات الضوئية، كان يعبر بين ثقوب النافذة الخشبية المطليّة بطلاء أزرق، ناشراً رذاذ أشعةِ الساعة الثامنة صباحاً على طول المجرى الضوئي المستقيم، مجنونة كإحدى لوحات سلفادور دالي السريالية. كل الذين رووا قصته أجمعوا على أن الحزن كان أكثر الملامح إضاءة في قسماته المُتعَبة، وأنفاسهُ المتصاعدة كأنها صوت سفينة بخارية غادرت مرساها من ميناء حلفا النهري للتو. الهواء الصباحي البارد يصفع الباب الخشبي بصفائح الألمنيوم المتآكلة، كأنه جسد كركدن أفريقي معتدٍ بنفسه.

كان له قنٌ يُربي فيه ثلاث دجاجات، وديكاً أعرجاً لا يُلقّح ولا يُؤذن، وكلبٌ أسود بذيل مقطوع، يُذاع عنه أشياء مُريبة ويُشكّ في أمره. عندما عضّ الكلب صابرين ابنة العمدة ليلة عيد أضحى، لم يجرؤ –حتى إمام القرية– على إمساكه وحقنه بالسُّم. العمدة نفسه كان يقرأ المعوذتين وينفث عن شماله ثلاثاً كلما رآه، ويردّد بصوت عال ليسمعه الكلب: "أعوذ بكلمات الله التامات من شرّ ما خلق!" وظنّ أن ذلك ما كان يبقيه في حرز منه، وآمن أنّ تلك الكلمات كانت سرّ نجاته من هجمات الكلب العدوانية. ولا أحد يعرف على وجه الدقة من اكتسب الشهرة من الآخر الكلب الأسود أم ابنة العمدة. إذ كانت مجالس الرجال لا تخلو من ذكر تلك الحادثة وأصبح الأمر فاكهة الليالي الخمرية التي اعتاد عليها الشباب في القرية. جاء الناس راجلين وراكبين من كل الأصقاع البعيدة والقريبة ليحمدوا للعمدة سلامة ابنته. وجاء حكيم القرية ليحقن الفتاة المسكينة بإحدى وعشرين حقنة في سرّتها أمام دعوات الجميع لها بالشفاء والسلامة من داء الكَلَب.

بعد وفاة الشيخ العجوز، قرر بعض الفتيان -من بينهم هارون عزيزة- مطاردة الكلب الأسود العجوز وقتله، واعتبروا ذلك واجباً مدنياً ودينياً مقدساً، وشرفاً سوف يستحقون عليه الثناء والمجد من أهالي القرية. هارون عزيزة وجدها فرصة مناسبة لكسب احترام الأهالي الذين نبذوه بعدما وشت به مجموعة من الأطفال عندما كان يختلس النظر إلى فتاة بالغة وهي تستحم في مياه النيل، فكان أكثرهم حرصاً وحماسة لمطاردة الكلب، بل وأكثرهم شراسة في الفتك به. كانت دماء الكلب الأسود خلاصهُ من العار الأبدي ولا شك. وبموت الكلب الأسود وصاحبه التمتام، انقلبت أحوال القرية رأساً على عقب، ولم تعد تهنأ بالراحة منذ ذاك.

أوصى الشيخ عبد الصبور إسماعيل دهب إمام الزاوية اليتيمة في القرية آنذاك بتعليق الكلب الأسود -بعد قتله- على سارية كانت فيما مضى جزءاً من ساقية أنشأها أبوه طيّبُ الذكر الشيخ إسماعيل دهب قال: "يمكننا استخدام جيفته طُعماً للتماسيح والضباع التي تهدد أبناء القرية وأطفالها ومواشيها، أو فلتكن طعاماً للجوارح التي تحمل في حويصلاتها أرواح الأطفال الميّتين." وأصبح ذلك فيما بعد سُنّة جارية، فكانت تُعلّق الحيوانات الأليفة المريضة، بعد قتلها، والضباع والبهائم النافقة، والكلاب السوداء على السارية؛ وكان ذلك سبباً في تسمية القرية بأرض الميّت. ومازال يُشاع حتى الآن في أرض الميّت أنّ الأطفال عندما يموتون تتخطّف الجوارح أرواحهم في طريقها إلى السماء، فتسكن حويصلاتها لأنهم لا حساب لهم أمام الله، أو يغدون ملائكة صغيرة لا يُوكل الله إليهم تلك الأعمال الشاقة التي يُوكلها للملائكة، فقط يحوّمون في الأرجاء

قيل أنّ الشيطان يتشكّل في أجساد كلاب سوداء، فيدخل البيوت ويبث فيها الشرور والأحقاد، وأوعز البعض حوادث غرق المراكب النهرية إلى أنّ بعض الكلاب السوداء السائبة كانت تتسلّل إلى النهر وتستحم وتشرب منه؛ فأطلق شبان القرية وشيبانها حملة للقضاء عليها، كانت الأشرس في تاريخ القرية كلها، ثم عمّت الحملة كل الحيوانات السوداء: قطط، عقارب، أفاعي، غِربان وأُصيبت القرية كلها بلوثة اللون الأسود. كلّ ذلك كان بعد خطبة الجمعة التي ألقاها الشيخ عبد الصبور دهب (إمام القرية آنذاك) وحذر فيها أهالي القرية من الكلاب السوداء التي تسكنها الشياطين، ولذا فإن قتل كلب التمتام الأسود كان واجباً دينياً مقدساً كذلك. كل ذلك ساعد على إقناع الأهالي بأن قريتهم تعج بالملائكة والشياطين، وأغلب الظن أن ذلك هو فهرس الحياة السرّي.

قالت الجدة مِسكة فيما يُشبه العتاب المؤدّب: "إنّ العجوز التمتام دُفن دون مناحة تليق بسنوات عمره السبعين، أو بمآثره التي تعترف بها النساء فقط. ولم يترك ورائه ما يجعل الآخرين يتذكرونه به غير كلبه المعلّق على السارية، وثلاث عشرة حفرة متفرقة في جسد القرية الحجرية، وبعض الخردوات التي كان يحتفظ بها في حقيبته القماشية". ولم يدعي أحد الرواة معرفته باسم جلال التمتام ولكنهم ذكروا أن (التمتام) لقب أُطلق عليه لكثرة تأتأته. جاء إلى القرية قبل ثلاث سنوات من وفاته، ولم يكن يحمل معه –وقتها- غير حقيبة قماشية يجعلها على ظهره، وتميمة معدنية يضعها في يده اليسرى، وكلبٍ أسود يتبعه لاهثاً بلسان طويل وردي اللون متدل ورطب. سكن أطراف القرية، وأقام بيته الذي من شعر الماعز على تلة كان يستخدمها كَلَس كمئذنة يرفع منها آذان المغرب في المواسم الرمضانية، ورغم أنّ جلال التمتام جاء في غير مواعيد رمضان؛ إلاّ أن بعض أهالي القرية اعتبروا ذلك مساساً بمقدساتهم، وقرروا طرده وحرق خيمته، وكادوا أن يفعلوا لولا تدخل العمدة. وبفتوى من الشيخ عبد الصبور دهب تم منع النساء من النياحة عليه بعد موته رغم أنهن كنّ الوحيدات اللواتي أحزنهن رحيله فعلاً، فلم يبكين عليه إلا سراً. وعادت للتلة قداستها حيث تتنزّل الملائكة بعد غروب شمس كل يوم. وأكدّ البعض أنهم رأوا خيالات ضوئية تلّف التلّة بعد وفاة التمتام بيومين وظلّت سيرة الضوء التي لم يشهدها إلا أموات القرية حجّة على قداسة التلّة التي أصبحت اليوم في مقام جبل عرفة من الحجاز؛ لذا فإن عمدة القرية أمر –بإيعاز من شيخها- أن يُسوّر التلّة بسياج له باب، وتولت عائلة كَلَس حراسة التلّة واحتفظوا بمفتاح بابها الزنكي المتين.

وحسب رواية الجدة مِسكة فإن رجال القرية وأطفالها تجمهروا على باب خيمة الغريب حاملين العصي والحجارة، في انتظار أن يخرج إليهم الغريب، ولكنه خرج راسماً ابتسامة ترحيبية حذرة على وجهه، وهو يستقبل العمدة وضيوفه: "يمكنني أن أجيب عن أيّ سؤال تشاءون؛ إلاّ فيما يتعلّق بجهة قدومي. أنا بينكم الآن لأن العالم انتهى بي هنا، وهذه التلّة طيّة العالم الكبيرة. أحببتُ أن أموت في هذا المكان الجميل. فماذا يضيركم إذا بقي بينكم رجل عجوز مثلي؟!" أخرج التمتام بعض الأدوات المعدنية من جُراب جلدي قديم معلّق على عارضة الخيمةِ، ونثرها أمام الجميع: "هذا كلّ ما أحمله." نظر الناس بدهشة إلى الخردوات التي يحملها، وكتموا ضحكاتهم، بينما قال العجوز الغريب: "هذه آخر أسرار الفيزياء الحديثة. الإنسان ينوي أن يطوي العالم في كفّه، وهو في طريقه إلى خلق معجزاته الخاصة، البعض يتحدث عن عصور قادمة لن يحتاج فيها الإنسان إلى الحركة، حيث سيكون كل شيء بضغطة زر واحدة؛ وسيكون للأسلاك المهملة شأن عظيم في تواصل البعيدين وتقريبهم من بعضهم، وسوف تعود الخيول والجمال إلى البريّة فلن يكون الإنسان بحاجة إليها في تنقلاته، ربما تصبح أداة لتسلية إنسان ذلك العصر، وسوف يتوقف الناس عن كتابة الخطابات والزيارات سوف يكون كل ذلك تراثاً لا يتبعه إلا الفقراء والجهلاء فقط. سوف تنهار الأسرة ويتبادل الجميع الأدوار. من كان له ابنة أو ابن فليسعد برؤيته الآن وليتمتع بحسّه الأبوي؛ فربما لن يعود هنالك أبناء. سيكف الإنسان عن مغازلة القمر في أغانيه وأشعاره، ويصعد إليه في زيارة سياحية كل عام! الراكضون وراء الإبل والأغنام سيجدون ذلك مضحكاً، ولكن تلك هي الحقيقة." كلماته المتعجرفة تلك جاءت موافقةً لبريق ماكر لمع في عينيه. رفع حاجبه الأيمن الكث حتى ظنّ الناس أنه سيقع، كانوا يستغربون كيف يكون شعر حاجب أكثر كثافةً من الآخر. ملامحه تلك كانت تشعرهم بالخوف منه، إضافةً إلى طريقة كلامه المليء بالطلاسم المخيفة، والعبارات المبهمة. مدّ التمتام يده داخل جُرابه وأخرج قطعةً معدنيةً غريبةَ الشكل، وضعها بشكل عمودي على الأرض وبدأ يضغط على طرفها العلوي بسبابته فأخذت تتراقص بمرونة، ثم أفلتها فجأةً؛ فقفزت كجرادة مذعورة في حقل يحترق. تعجّب الأهالي للمعدن الطيّار، وكانت تلك هي المرّة الأولى التي يتعرفون فيها إلى النوابض المعدنية.

ثم مدّ يده -مرة أخرى- وأخرج أداة أخرى، وأبدى –هذه المرة- اهتماماً بالغاً بما يفعل. تجمهر الناس حوله وهو لا يفعل شيئاً غير الإمساك بتلك الأداة غريبة الشكل. بدت لهم كقرص زجاجي تافه لا جدوى منه. وانتفضوا مذعورين عندما بدأ اللهب يشتعل في الأوراق اليابسة تحتها. سبحلَ البعض بصوتٍ عالٍ: "سبحان الله.. سبحان الله"، ونظروا إلى بعضهم البعض وهم يضحكون. قال أحدهم: "لقد عاد عصر المعجزات!" الوحيد الذي لم يعجبه الأمر هو الشيخ عبد الصبور دهب؛ الذي نهض مفزوعاً من مكانه كالملدوغ وهو يقول: "هذا سحرً، هذا أمر شيطاني، لا يجوز.. حرام!" وغادر المكان وهو يكرر: "استغفر الله العظيم.. استغفر الله العظيم!"

عمدة القرية لم يكترث كثيراً لفزع الشيخ عبد الصبور، وشغله اندهاشه عن ذلك. تقدّم التمتام منه، وهو يمسك أداة أخرى غريبة الشكل، قال: "أمّا هذه فتسمى (عين الشيطان). خذ أمسكها يا عمدة وانظر من خلالها". لبعض الوقت؛ تردد العمدة؛ وخاف أن يؤدي ذلك إلى فقدانه بصره، خاف أن يخرج منها مارد شيطاني ويتمكن من الدخول إلى جسده عبر عينيه فتحرقهما: "ماذا تريدني أن أرى بهذا الشيء؟ فأنا لا أؤمن بالسحر." ضحك التمتام وأخذ ينظر من خلالها ناحية القرية: "سترى القرية -كلّ القرية- بين يديك، لا يحق لغيركَ أن يراها كذلك." قفز العمدة مدفوعاً بشغف السلطة والفضول، نظر إلى القرية، فرأى البيوت وكأنها أمام عينيه تماماً. رأى الشيخ عبد الصبور راكباً حماره وقد تعلّقت ثمرة نبتة شوكية بعباءته، كان قريباً لدرجة أنّه مدّ يديه لينتزع الثمرة الشوكية عن عباءة الشيخ عبد الصبور، ولكنه لم يتمكن من ذلك، أزاح الآلة عن عينيه فرآه بعيداً جداً عنه، فصرخ مجدداً: "سبحان الله!" وتهافت البقية على العمدة يريدون أن ينظروا من خلال الآلة العجيبة، فنهرهم: "لا أحد يحق له النظر من هذه العين الشيطانية إلاّي؛ وإلا ستحتقرون." ابتسم التمتام في سخرية وقال: "حضرة العمدة، هذه الآلة تسمى (المنظار)، وهي إحدى منجزات الفيزياء الحديثة". مسح العمدة أنفه وسأل: "وما الفيزياء؟"

هذا الغريب الأسطوري كان دائماً محاطاً بهالة من الغموض؛ فكان البعض يخشونه ويعتبرونه ساحراً، بينما اعتبره آخرون من أولياء الله الصالحين، ومن أصحاب الكرامات. وبأمر من العمدة اجتهد شباب القرية -بهمة غير متوقعة- في بناء منزل من الطين والحجر ليقيم فيه التمتام؛ عِوضاً عن بيت الشعر الذي كان يسكنه. النساء كنّ يزرنه سراً، ويحكين له قصصهن السريّة، والأحاديث التي تجري وراء الجدران الجالوصية، حتى أنّ زوجة العمدة كانت إحدى زائراته السريّات. النساء أكثر إيماناً بالخرافة، لأنهن الأقل حظاً من التعليم في أرض الميّت التي تنتشر فيها نباتات العُشَر كالوباء، حتى خطب الجمعة التي كان الشيخ عبد الصبور يلقيها على أهالي القرية لم تكن تخلو من ذكر النساء ومكائدهن. ومازالت إحدى المخطوطات القديمة التي احتفظت بها عائلة كَلَس الدينية تحوي خطبه التي كان يلقيها في صلاة الجمعة، وجاء في بعضها: "النساء إحدى الآفات التي خلقها الله لامتحان قلوب الرجال، هنّ الامتحان والابتلاء الحقيقي والأشد في حياة المؤمن. النساء كالفيضانات والطواعين وكافة الابتلاءات التي تواجه أحدنا في طريقه إلى الجنّة. من أرخى لهن أذنيه فكأنما أسلم إلى الشيطان زمامه. ألم يكنّ آخر ما حذر منه الرسول وهو على فراش الموت (ما تركت فتنةً أضرّ على الرجال من النساء)؟ أولم يحذرنا ربنا منهن (إنّ كيدهن عظيم)؟ فكيف بنا نراهن على متاع الدنيا وهي زائلة لا محالة؟ فاتقوا الله في أنفسهم وفي دينكم، ولتتق النساء الله في أنفسهن وفينا، فلا يخرجننا من الجنّة مرتين."

فصل من رواية

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى