السبت ٣١ آذار (مارس) ٢٠١٢
بقلم خالد حربي

أسس التقنية والتكنولوجيا الحديثة في الحضارة الإسلامية

علم الميكانيكا أو ما اسماه علماء الحضارة الاسلامية بعلم «الحيل» يعنى الحصول على الفعل الكبير من الجهد اليسير عن طريق احلال العقل محل العضلات، والآلة محل البدن. ويتفرع من هذا العلم فروع علمية أخرى كعلم هندسة الاشكال، وعلم هندسة المخروطات، وعلم هندسة المساحة، وعلم هندسة البصريات، تلك التى تشكل منظومة مميزة للتقنيية والتكنولوجيا فى التراث، والحضارة الاسلامية.
وتبدأ التقاليد العربية المدونة فى علم الحيل"المكانيكا" بكتاب «الحيل» لبنى موسى بن شاكر (محمد، احمد، الحسن) أبناء موسى بن شاكر، هولاء الاخوة التى اجمعت المصادر التاريخية على أنهم نشأوا فى بيت الحكمة المأمونى فى جو مشبع بالعلم.
بحثت جماعة بنى موسى بن شاكر فى مجالات علمية عدة، أهمها الهندسة والفلك والجغرافيا، الا أن أهم وأشهر عمل جماعى لجماعة بنى موسى، فهو كتاب «الحيل»، «مجلد واحد عجيب نادر يشتمل على كل غريبة» وبهذا الكتاب ارتبط اشتهار بنى موسى حتى يومنا هذا أكثر من أى كتاب آخر لهم. ولعل ذلك يرجع إلى أنه أول كتاب علمى عربى يبحث فى الميكانيكا، وذلك لاحتوائه على مائة تركيب ميكانيكى.

وترجع أهمية هذا الكتاب أيضاً إلى أن علم الميكانيكا العربية يبدأ به، ومن الطبيعى أنه كانت تتوفر لدى جماعة بنى موسى بعض الكتب اليونانية مما خلفه علماء مدرسة الإسكندرية. ولكن تأليف كتاب الحيل لبنى موسى بما يشتمل عليه من إبداع فى تصميم الوسائل الميكانيكية - الهيدروليكية لم يكن ليتم بمجرد الإطلاع على الكتب اليونانية، إذ لابد من توفر المناخ السياسى والإجتماعى والثقافى والمهارة الدقيقة فى الصناعات والفنون حتى تتمكن الجماعة - وخاصة أحمد - من أن تخترع وتصمم بهذا الشكل. ومن المعلوم كذلك أن الآلات المائية ازدهرت فى سوريا طيلة القرون السابقة للإسلام، وكانت هناك تقاليد عريقة ومهارات صناعية وحرفية متوارثة فى هذه البلاد سرعان ما أصبحت جزءاً من الحضارة العربية الإسلامية. ومن هنا فإن المصادر التى مكّنت بنى موسى من تصميم هذه الأدوات والتجهيزات كانت عديدة، وكانت المصادر المكتوبة باليونانية واحداً منها.

وإذا كان بنو موسى قد دونوا فى كتابهم هذا كيفية تركيب مائة عمل ميكانيكى، فإننا نتسائل عن طبيعة النهج الذى انتهجوه فى تصميم آلاتهم تلك ووصفها، فهل قام كل منهم بتركيب عدد من الآلات منفرداً، ثم قاموا "بضم" أعمال الثلاثة فى كتاب واحد كتبوا على غلافه " كتاب الحيل، تصنيف بنى موسى بن شاكر "؟ أم أنهم عملوا كفريق عمل جماعى فى تركيب الآلات، وتصنيف الكتاب؟

الحقيقة أنه على الرغم من أن البعض ينسبون «كتاب الحيل» إلى المهندس أحمد بن موسى بن شاكر إستنادا إلى أنه كان تكنيكياً متحمساً، مهتماً بالميكانيكا أكثر من أخويه، إلا أننا لم نجد تركيباً واحداً من بين تركيبات الكتاب المائة، قام أحمد بوصفه منفرداً، بل الواضح الجلّى أن الكتاب ينطق من أوله إلى آخره بصيغة الجماعة، حيث يبدأ هكذا : قال محمد والحسن والحسين (أحمد) : الشكل الأول، نريد أن نبين كيف نعمل كأساً يصب فيه مقدار من الشراب أو الماء، فإن زيـد عليه زيادة بقدر مثقال من الشراب أو المـاء خرج كل شيىء فيـه. ونريد أن نبين كيف نعمل جرة لها بزال مفتوح، إذ صب فيها الماء لم يخرج من البزال شيىء، فإذا انقطع الصب خرج الماء من البزال، فإذا أُعيد الصب انقطع أيضا، وإن قطع الصب، خرج الماء. وهكذا لايزال. و: نريد أن نبين كيف نعمل جرة لها بزال واحد، إن صُب فيها الشراب يخرج من البزال، وإن صب فيها الماء أو غيره من الرطوبات لم يخرج من البزال شيىء، وهذه حيلة عجيبة وفيها مواربة و: نريد أن نبين كيف نعمل فوارتين يفور من أحدهما شبه القناة ومن الآخر شبه السوسنة مدة من الزمان، ثم يتبدلان فيخرج من التى كانت تفور قناة سوسنة، ومن التى كانت تفور سوسنة قناة مقدار ذلك من الزمان، ثم يتبدلان أيضاً مقدار ذلك من الزمان، ولايزال على هذا مادام الماء ملصقاً فيها.

وهكذا يتضح من النصوص المختارة من "كتاب الحيل" أنها صيغت صياغة جماعية، وهذه الصياغة تنطبق على كل تركيبات الكتاب المائة، فلم يتضمن الكتاب أى تركيب قد صاغ وصفه أحد أفراد الجماعة كأن يقال مثلاً : قال محمد بن موسى، أو قال أحمد بن موسى، أو قال الحسن بن موسى، فمثل هذه الصيغ ليست لها أى مكان فى "كتاب الحيل" تصنيف بنى (جماعة) موسى بن شاكر.
ومع الأهمية الكبيرة التى اكتسبها كتاب"الحيل"على مدار تاريخ العلم وحتى يومنا هذا، فإن هذه الأهمية ربما تسمح لنا بتقرير أهمية وقيمة العمل الجماعى، أو فريق العمل فى المجال العلمى.

يع الزمان ابن الرزاز الجزرى (القرن السادس الهجرى) قد استفاد من "كتاب الحيل" فى وضع "كتاب الجامع بين العلم والعمل النافع فى صناعة الحيل". كما أفاد "كتاب الحيل" أيضاً تقى الدين بن معروف الراصد الدمشقى (القرن العاشر الهجرى) فى تأليف "كتاب الطرق السنية فى الآلات الروحانية". وقد شكلت هذه الكتب مجتمعة حلقة هامة فى سلسلة تاريخ علم الميكانيكا، إذ أنها تكشف عن إنجازات العقلية العربية الإسلامية فى فترة طويلة من فتراتها.

وقد امتدت أهمية كتاب الحيل إلى العصر الحديث، وأفاد منه العلم الغربى، الأمر الذى جعل أساتذة اكسفورد الذين وضعوا كتاب "تراث الإسلام" فى أربعينيات القرن العشرين يصرحون بأن عشرين تركيباً ميكانيكياً من محتويات الكتاب ذو قيمة علمية كبيرة.
ولم يقتصر تأثير جماعة بنى موسى فى الغرب على " كتاب الحيل " فنحن مدينون - على رأى كارا دى فو - بعدد من الكتب لهؤلاء الأشقاء الثلاثة، أحدهم فى مساحة الأُكر وقياس الأسطح "، ترجمة جيرارد الكريمونى إلى اللاتينيـة بعنـوان Frabrum Liber Thiun. وقد أسهم هذا الكتاب فى تطور الهندسة الأوربية مدة طويلة.

لقد قدمت جماعة بنى موسى من خلال مؤلفاتها، إسهامات جليلة فى العلوم التى بحثوا فيها. وقد حصر المشتغلون بتاريخ العلوم تلك الإسهامات، ومنها : وضع نظرية ارتفاع المياه التى لا تزال تستخدم حتى اليوم فى عمل النافورات، اختراع ساعة نحاسية دقيقة، قياس محيط الكرة الأرضية، والذى أخرجوه مقترباً من محيطها المعروف حالياً، اختراع تركيب ميكانيكى يسمح للأوعية بأن تمتلىء ذاتياً كلما فرغت، ابتكار طرق لرسم الدوائر الإهليجية (الدوائر المتداخلة)، تأسيس علم طبقات الجو، تطوير قانون هيرون فى معرفة مساحة المثلث. وفى كتبهم أيضاً وصف لقناديل ترتفع فيها الفتائل تلقائياً، ويُصب فيها الزيت ذاتياً، ولايمكن للرياح اطفاؤها. وآلات صائتة تنطلق منها أصوات معينة كلما ارتفع مستوى الماء فى الحقول ارتفاعاً معيناً، ونافورات تندفع مياهها الفوارة على أشكال مختلفة وصور متباينة. ولهم كذلك وصف للآلات الموسيقية ذات الحركة الذاتية مثل الناى.

ولقد أجمع مؤرخو العلم على أن هذه الأعمال تدل على عبقرية وذهن متوقد مبدع، اتسم به أفراد جماعة بنى موسى بن شاكر، وقدموا كجماعة، منظومة علمية ومعرفية هامة شغلت مكاناً رئيساً فى تاريخ العلم بعامة، وتاريخ التكنولوجيا بخاصة، ومثلت مبادىْ التحكم الآلى التى وضعوها أهم الانجازات التى قامت عليها التقنية و التكنولوجيا الانسانية.

ويرتبط بميكانيكا السوائل(الوزن النوعى) الذى يمثل النسبة بين وزن الجسم فى الهواء الى وزنه فى الماء، وفى هذا المجال ابتكر علماء الحضارة الاسلامية موازين دقيقة لحساب الوزن النوعى والكثافة، فلقد ابتكر واستعمل أبو بكر الرازى(ت 313ه-925م)ميزانا أسماه بالميزان الطبيعى.

واخترع واستعمل علماء الحضارة الاسلامة تبعا للعالم الغربى"بلتن" جهاز "الايرومتر" لقياس لقياس كثافات السوائل وتقدير درجات حرارتها، وتمكنوا من ايجاد الأوزان النوعية لمعادن مخلوطة وتحدد نسبة كل منها، وقد بلغت موازينهم من الدقة الى الدرجة التى تمكنوا معها بأن يزنوا واحدا من ثلاثة أو أربعة آلاف من الجرام، فعلى سبيل المثال نجد العالم العربى المسلم ابا الريحان البيرونى (ت 404ه-1048م) الذى اشتهر فى علم الطبيعة، يلجأ فى بحوثه الى التجربة، ومنها تجربته لحساب الوزن النوعى لثمانية عشر عنصرا ومركبا، وتكاد قياسته لا تختلف عن مثيلتها الحديثة إلا فى بعض النسب العشرية البسيطة كما يتضح من الجدول:

تجربة الوزن النوعي
القياس الحديثقياس البيرونيالمادة
7.79 82. 7 الحديد
26. 19 26. 19 الذهب
35. 11 11.40 الرصاص
56. 13 13.74 الزئبق
75. 2 73. 2 الزمرد
29. 7 22. 7 القصدير
75. 2 73. 2 اللؤلؤ
85. 8 92. 8 النحاس

وفى كتابه"الاسرار فى نتائج الافكار"يبدع ابن خلف المرادى(القرن الخامس
الهجرى/الحادى عشر الميلادى)ويشرح كيفية تركيب ما يقرب من خمسة وثلاثين نوعا من الالات الميكانيكية، ومنها تجهيزه بتقنية عالية لقاعة محركات بجوار مقصورة الخليفة بقصر جبل طارق، تسمح بتحريك جدران المقصورة اليا!

كما وضع المرادى تقنيات عالية لطواحين الهواء والمكابس المائية، وابتكر ساعة شمسية متطورة وغاية فى الدقة. وفى جامع قرطبة ابتكر المرادى تقنية عالية لحامل المصحف الشريف، بفتحه آليا، وتقليب صفحاته بدون أن تمسها يد، حيث توضع المجموعة المكونة من الحامل والمصحف على رف متحرك فى صندوق مغلق موضوع باعلى المسجد، وعندما يدار مفتاح الصندوق، ينفتح باباه آليا نحو الداخل، ويصعد الرف تلقائيا حاملا نسخة المصحف الى مكان محدد، وتتقلب صفحاتة ذاتيا. واذا أدخل المفتاح من جديد فى قفل الصندوق وأدير عكس الاتجاه السابق، تتوالى الحركات السابقة بالترتيب المعاكس، وذلك بفضل الآلات والسيور التى اخفاها المرادى عن الاعين.

أما أبو الفتح عبد الرحمن المنصور الخازن أو الخازني (ت512/1118م)، فقد نبغ فى العلم الطبيعي وفروعه المختلفة، ووضع فيها مؤلفات كثيرة، أهمها وأشهرها كتابه " ميزان الحكمة " الذى يعد من أهم كتب العلم الطبيعي بعامة
وعلم الميكانيكا وعلم الهيدروستاتيكا بخاصة.

بحث الخازن فى هذا الكتاب ظاهرة الضغط الجوي قبل توريتشلي بخمسمائة سنة، فلقد ادرك الخازن أن للهواء وزن، وعلى ذلك فان وجود الجسم فى الهواء لايعنى وزنه الحقيقى، بل ينقصه وزن الهواء بقدر حجم ذلك الجسم، وعلى ذلك لم يكن تورتشيلى أول من اوجد للهواء وزنا، بل العالم العربى المسلم عبد الرحمن الخازن الذى تناول وزن الهواء فى كتابه "ميزان الحكمة"، كما اثبت أن للهواء قوة رافعة كالسوائل، وأن وزن الجسم المغمور فى الهواء يقل عن وزنه الحقيقى، وأن مقدار ما يقل منه يتبع كثافة الهواء.
وبحث الخازن ظاهرة الجاذبية ووصف خواص الجذب، والعلاقة بين سرعة الجسم والمسافة التى يقطعها وما يستغرقه من الزمن، الأمر الذى مهد لصياغة قانون الجاذبية عند نيوتن كذلك أجرى الخازن أبحاثا وتجارب مهمة لإيجاد العلاقة بين وزن الهواء وكثافتة، وأوضح أن وزن المادة يختلف فى الهواء الكثيف عن الهواء الخفيف أو الأقل كثافة، وذلك يرجع لاختلاف الضغط الجوي .

واخترع الخازن ميزانا عجيبا لوزن الأجسام فى الهواء وفى الماء، واخترع آلة لقياس الوزن النوعى للسوائل واستخراج الأوزان النوعية لكثير من السوائل والمعادن ودوّنها كتابه المهم " ميزان الحكمة " الذى ترجم الى اللغات الغربية : اللاتينية، والإيطالية، وشكل ركيزة أساسية فى قيام العلم الطبيعي الحديث .

ان المطلع على كتاب جاليليو"محاورات حول العلمين الجديدين"، وكتاب نيوتن "البرنسيبيا"الكبير، يجد أنهما نقلا حرقيا كثرا من مسلمات الخازن التى ضمّنها كتابه "ميزان الحكمة" وقامت عليها علوم الميكانيكا والديناميكا والاستاتيكة الحديثة ومنها:
 الثقل هو القوة التى يتحرك بها الجسم الثقيل الى مركز العالم، والجسم الثقيل هو الذى له قوة تحركه الى نقطة المركز، وفى الجهة أبدا التى فيها المركز، ولا تحركه تلك القوة من جهة غير تلك الجهة، وتلك القوة هى لذاته وليست مكتسبة من خارج، وليست مفارقة له، ومتحركا بها أبدا ما لم يعقه عائق الى أن يصير الى مركز العالم.

 تختلف الاجسام الثقال فى القوة، فمنها ما قوته أعظم وهى الاجسام الكثيفة، ومنها ما قوته أصغر وهى الاجسام السخيفة، والاجسام المتساوية القوى، متساوية الكثافة والسخافة.

 اذا تحرك جسم ثقيل فى أجسام رطبة، فان حركته فيها على حسب رطوبتها، فتكون أسرع فى الجسم الأرطب.
وفى القرن السادس الهجرى الثاتى عشر الميلادى جمع بديع الزمان أبو العز بن إسماعيل الرزاز الملقب بالجزرى بين العلم والعمل، وصمم ووصف نحو خمسين آلة ميكانيكية فى ست تصنيفات مختلفة ضمنها أهم وأروع كتبه والذى وصفه مؤرخ العلم الشهير جورج سارتون بأنه يمثل الذروة التقنية للمسلمين، وهو كتاب " الجامع بين العلم والعمل النافع فى صناعة الحيل " ففيه : تصميم الجزرى للمضخة ذات الأسطوانتين المتقابلتين، وهى تقابل حاليا المضخات الماصة والكابسة، واخترع العمود المرفقى crank shaft، وبعض أول الساعات الميكانيكية التى تعمل بالماء والأثقال وبنظام تنبيه ذاتي، وآلات رفع الماء، وصب المعادن فى صناديق القوالب المغلقة باستخدام الرمل الأخضر، وتغليف الخشب لمنع التوائه، والموازنة الاستاتيكية للعجلات، واستخدام النماذج الورقية لتمثيل التصميمات الهندسية.

ويرجع دونالد هل اهمية مخة الجزرى الى ثلاثة اسباب، أولها هى أن هذه المضخة تعد أول نموذج معروف لمضخة ذات أنابيب ادخال حقيقية(الانابيب الماصة). وثانيها أنها احدى أفدم الالات التى تجسد مبدأ الفعل المزدوج. وثالثها أنها أحد الأمثلة المبكرة لتحويل الحركة الدورانبة الى حركة ترددية متناوبة، وذلك بواسطة ذراع القشب.

ويعد الجزرى أول مهندس غير مفاهيم الهندسة باستخدامه الترس أو"الدولاب المسنن"، وذراع التدوير "الكرنك" و"المكبس" البستون، وعمود التدوير.

ومن المثير والمدهش أن الجزرى يعد أول من صنع الانسان الآلى فى التاريخ، اذ طلب منه أحد الخلفاء أن يصمم له آلة ميكانيكية يستخدمها فى الوضوء بدلا من الخادم، فصمم له الجزرى آلة على هيئة غلام منتصب القامة يحمل فى يده اليمنى ابريق ماء، وفى اليسرى منشفة، ويقف غلى عمامتة طائرآلى، فاذا حان وقت الصلاة، غرد الطائر، فيتقدم الغلام، ويصب الماء بقدر معين من الابريق، حتى اذا انتهى الخليفة من وضوئه، قدم له الغلام المنشفة، ثم يعود الى مكانه تلقائيا!

ويرجع الفضل للجزرى أنه واضع الاساس الذى تقوم عليه المحركات العصرية، فاخترع نماذج عدة لساعات وروافع آلية، تعتمد على نظام التروس المسننة فى نقل الحركة الخطية الى حركة دائرية، تماما كما هو سائد حاليا. . الى غير ذلك من الأعمال الهندسية والميكانيكية التى تحتل - على رأي دونا لدهيل - أهمية بالغة فى تاريخ الهندسة، حيث تقدم ثروة من مبادئ تصميم وتصنيع وتركيب الالات تلك التى ظهر أثرها فى التصميم الميكانيكي للمحرك البخاري، ومحرك الأحتراق الداخلي والتحكم الآلي، والتى لا تزال آثارها ظاهرة حتى الآن .
ويذهب بعض مؤرخى التقنية الى أن البطىْ فد شاب استغلال المسلمين لطاقة المياة. ولكن هذا الراى يجانب الصواب، وبشهادات غربية وقفت على مدى الشوط الكبير الذى قطعه المسلمون فى تقنية الطاقة المائية، ومنها طواحين المياه التى ابتكروا منها نماذج عدة، أحدها يتركب من دولاب أفقى باحداث قطع بطول انصاف أقطار قرص معدنى، ثم لىّ القظع لتكوين ريش منحنية كتلك التى تتركب منها المراوح الحديثة، ويثبت القرص المعدنى أو العجلة فى الطرف السفلى للمحور الرأسى، وتركب فى اسظوانة ينصب فيها الماء على التتابع من مستوى أعلى، فيؤثر الانسياب المحورى فى ادارة العجلة.

ولزيادة الطاقة الانتاجيةللطواحين، عمل المسلمون على زيادة معدل انسياب المياة التى تديرها، وذلك ببناء السدود والجسور، وانشاء الطواحين بين دعاماته للانتفاع بزيادة انسياب المياة فى ادارتها، مثل السد الذى أقيم على نهر كور بايران فى القرن الثالث الهجرى/التاسع الميلادى، وحتى الان يمكن مشاهدة السد الكبير تحت الجسر الرومانى فى قرطبة باسبانيا، وأمامه ثنتا عشرة طاحونة مائية موزعة على ثلاثة مجموعات.

ومن المؤيدات القوية غلى انجازات المسلمين فى تقنية المياه، ما شهدته البصرة فى القرن الرابع الهجرى/العاشر الميلادى، وسجلت به سبقا على الغرب من ابتكار واستخدام طواحين تعمل بطافة المد والجزر، بالاضافة الى "بواخر الطواحين" أو "الطاحونة- المركب"التى انتشرت بعدد كبير فى نهرى دجلة والفرات، وأنهار مدينة سرقسطة ومدينة مرسيه باسبانيا، ومدينة تبليس بجورجيا، وغيرهم من المدن الاسلامية التى انتشرت فيها بواخر الطواحن، وذلك للاستفادة منها فى مواسم انخفاض منسوب المياة الذى لاتستطيع الطواحين الثابتة أن تعمل معه.

وفى القرن العاشر الهجرى/السادس عشر الميلادى يبدع تقى الدين الدمشقى كتابه "الطرق السنية فى الالات الروحانية"محتويا لاول مرة فى تاريخ العلم على مفهوم الرسم الهندسى الحديث ذى المساقط، ففى عرضه وتوصيفه للالات، تراه يصف ويشرح ويوضح كل شيىْ يتعلق بالآلة عن طريق جمعه بين مفهوم المساقط ومفهوم الرسم المجسم(المنظور) فى رسم واحد.

ولأول مرة فى تاريخ الهندسة والتكنولوجيا يستخدم تقى الدين "كتلة الاسطوانة"بعدد ست اسطوانات على خط واحد، كما ابدع عمل الاسطوانات على التوالى، وذلك باستخدامه "عمود الكامات" المزود بعدد ست نتوءات تتوزع بنظام دقيق على محيط الدائرة. ويعد هذا المفهوم الديناميكى المتقدم لتجنب "التقطع" واتباع "التتابع" هو البنية الاساسية التى قامت علها الضواغط متعددة الاسطوانات وتقنية المحركات الحديثة.

وفى كتابه "الأشم" يصف تقى الدين ويصمم آلات الدوران باستخدام "العنقات" تلك التى تعرف اليوم بالمراوح البخارية، كما وصف وصمم العديد من الالات والاجهزة الميكانيكية مثل الروافع بالبكرات والمسننات (التروس)، والنافورات المائية، علاوة على الآلية والرملة والمائية.

وفى سبق علمى يحسب له وللحضارة الاسلامية، يسبق تقى الدين "مورلاند" الذى ادعى عام1975 أنه أول مصمم للمضخة المكبسية، فكتاب "الطرق السنية فى الالآت الروحانية" يثبت بما لايدع مجالا للشك بأن مؤلفه تقى الدين الدمشقى دوّنه أول تصميم للمضخة المكبسية ذات الاسطوانات الست، وقدم توصيفا لها يتضمن أنه وضع على رأس قضيب كل مكبس ثقلا من الرصاص يزيد وزنه عن وزن عمود الماء داخل الانبوب الصاعد الى أعلى.

من كل ما سبق يتضح أن التقنية والنكنولوجيا فى الحضارة الاسلامية تشغل حيزا مرموقا فى تاريخ العلم، وتشكل العلوم التى قامت عليها منظومة مهمة فى تأسيس وقيام التقنية والتكنولوجيا الحديثة.

دكتور خالد حربى: رئيس قسم المخطوطات وعلوم الحضارة الاسلامية، كلية الاداب-جامعة الاسكندرية


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى