السبت ٢٠ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٢
بقلم خالد حربي

أسس طب الباطنة الحديث فى الحضارة الإسلامية

من الاختصاصات الطبية التى لاقت اهتماماً وتطوراً فى الحضارة الإسلامية، طب الباطنة، حيث درس العلماء والأطباء البطن بكل ما تحويه من أعضاء، وعرفوا ما يعتريها من أمراض، فشخصوها وأبانوا أعراضها وقدموا لها ما يناسبها من العلاجات، كالتى تعرض فى المرئ والمعدة من أمراض سوء المزاج، وضعف المعدة وهو اسم حال المعدة إذ لم تهضم هضما جيداً لسبب فى نفسها وقواها. وفساد الهضم وهو أن يستحيل الطعام استحالة غير طبيعية. وطفو الطعام وهو عدم اشتمال المعدة على الطعام. وزلق المعدة وهو ملاسة فى سطح المعدة يجعلها لا تستمسك الطعام. والتهوع وهو حركة من الدافع للدفع عن المعدة لا يصحبها حركة من المندفع. والقيئ وهو خروج ما فى المعدة عن طريق الفم. والفواق وهو تشنج ينال المعدة من شيئ يلذع فيها أو ريح تمددّها أو يبوسة تعقب الاستفراغ المفُرط، فيجتمع جرمها ليتحرك على وجه الدفع والذب. والإسهال وهو انطلاق البطن بالجهة المعتادة لا على الوجه المعتاد. والاختلاف وهو الإسهال الكائن بالأدوار. والخلفة وهو الإسهال الكائن بالألوان. وزلق الأمعاء وهو ملامسة فى سطح الأمعاء بحيث لا يلبث فيه الطعام فينطلق من ساعته. والزحير والزحار أو الدوسنتاريا وهو عبارة عن حركة من الأمعاء المستقيم تدعو إلى دفع البراز اضطرارا ولا يخرج منه إلا شيئ يسير من رطوبة مخاطية يخالطهما دم. والسجح وهو انجراد فى سطح الأمعاء يندفع فيه مواد دموية وصديدية وزبدية. والمغس وهو وجع لاذع فى الأمعاء مع تمدد قليل. والقولنج Colic وهو الألم البطنى الناشئ من الإنسداد المعوى، وعرف أطباء الحضارة الإسلامية ستة أنواع من القولنج هى : إيلاوس وهو نوع من القولنج صعب يكون فى الأمعاء الدقاق ويصحبه الغثيان والقيئ، والقولنج التفلى وهو حبس الثفل فى معاء القولون، والورمى وهو الكائن بسبب ورم الأمعاء، والريحى وهو حبس الريح فى طبقات الأمعاء، والبلغمى وهو التصاق سطح الأمعاء بمواد بلغمية، والالتوائى وهو تقلب الأمعاء بسبب حرارتها أو طعام يابس أو غير ذلك.

كذلك درس أطباء الحضارة الإسلامية الأورام والقروح فى تلك الأعضاء الباطنية، وضعف القوة الجاذبة وبطلانها، والقوة الماسكة والدافعة والهاضمة، والحموضة على الصدر، وسيلان اللعاب، والجشاء، والقراقر والرياح فى البطن، والشهوة الكلبية والشهوة البقرية، والهيضة وهى حركة المواد غير المنهضمة للانفصال عن المعدة عن طريق الأمعاء بعنف وسرعة. ومارسوا البزل البطنى للاستسقاء والخراج داخل المساريقا وربطوا الاستسقاء بضمامة الكبد والطحال كما هو الآن فى الطب الحديث.

ومن الإسهامات الطبية العربية الإسلامية الإصيلة التى قدمها أطباء الحضارة الإسلامية للإنسانية جمعاء، ما يُعرف الآن فى الطب الحديث بنظرية التشخيص التفريقى, تلك النظرية التى يُعد الرازى رائداً لها, وتقوم على التفرقة بين الأمراض المتشابهة الأعراض، ومن أمراض الباطنة القولنج وحصاة الكُلى حيث استطاع الرازى بمتابعة مشاهداته وملاحظاته وتجاربه التفريقية الدقيقة أن يقف على جوانب الشبه والاختلاف بين أعراض الحصاة فى الكُلى وأعراض القولنج .

فلقد أثبت الرازى بمتابعة مشاهداته وملاحظاته وتجاربه التفريقية الدقيقة أن جالينوس قد أخطأ فى تشخيصه لمرض "القولنج" على أنه حصاة فى الكُلى. فيذكر الرازى أن جالينوس قال فى كتابه "فى الأعضاء الآلمة" : إنه كان قد حدث به وجع شديد فى ناحية الحالبين والخواصر، وأنه كان لا يشك أن به حصاة فى إحدى نواحى الكُلى إلى المثانة، وأنه لما احتقن وخرج منه بلغم لزج، سكن وجعه على المكان، فأدرك الرازى وعلم أنه أخطأ فى حدسه، وإنه كان به وجع القولنج .

ولكن الرازى استطاع من خلال تركيز انتباهه على ما هو مشاهد أن يقف على جوانب الشبه والاختلاف بين أعراض الحصاة فى الكُلى، وأعراض القولنج، وقرر وفقاً لمشاهداته الدقيقة –المبنية على التجربة وطول الممارسة- أعراض وعلامات القولنج وهى : إذا حدث فى البطن تحت السرة أو فى إحدى الخاصرتين وجع شبيه بالنخس، ثم كان معه غثى وتقلب نفس واشتد سريعاً حتى يعرق العليل منه عرقاً بارداً ، فأظن أنه وجع القولنج، ولاسيما إذا كان الذى به هذا الوجع قد أصابه قبل ذلك تخم كثيرة أو أكثر من أطعمة غليظة أو باردة .
ويؤكد الرازى على أن تشخيص القولنج ليس أمراً هيناً نظراً لتشابه آلام الأحشاء الموجودة فى الجوف السفلى من البطن. "وقد يحدث فى ألمعاء أوجاع يظن بها أنها وجع القولنج فى ابتداء كوّن السحج (التقرحات المعوية) وترك الحيات والديدان، وذلك ينبغى أن تكون عنايتنا بتفصيل هذه الأوجاع المشبهة لوجع القولنج عناية شديدة لئلا يقع فى العلاج خطأ. ويأتى تشخيص الرازى للقولنج أيضاً منه عناية شديدة لئلا يقع فى العلاج خطأ". ويأتى تشخيص الرازى للقولنج أيضاً بناء على السوابق المرضية المباشرة والبعيدة، وعلى موضع الألم وشدته، وانتشاره، والأعراض الموافقة للألم من غثى وقيئ وحمى, وعلى فحص المفرغات من براز وبول كماً وكيفاً، وعلى الاختبار العلاجى. وينتهى الرازى إلى أن وجع القولنج يكون من برد المعدة وبرد الكُليتين .

وبعد التشخيص السليم للقولنج، يُزيد الرازى من تفرقته بين أعراضه وأعراض وجع الكُلى، فإذا كان الوجع فى الجانب الأيسر، بظن أنه فى الكُلى، وإذا كان يتأدى إلى سطح الجسم حتى يحس العليل بألم عند غمز المراق، فقولنج.

يتبين من كل ما سبق كيف أثر طب الباطنة فى الحضارة الإسلامية فى تأسيس وقيام العلم الحديث.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى